الشيوعيون العرب في مرحلة مابعد السوفيات


محمد سيد رصاص
الحوار المتمدن - العدد: 4806 - 2015 / 5 / 14 - 10:19
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     

في يوم 7نيسان1992ظهر على التلفزيون السوري جميع الأمناء العامين لأحزاب "الجبهة الوطنية التقدمية" وألقوا كلمات بمناسبة تأسيس حزب البعث.كان الاتحاد السوفياتي يومها لم يمر على تفككه أكثر من مئة يوم.قال خالد بكداش في كلمته العبارة التالية مشيراً إلى الشيوعيين السوفيات:"سيعودون وسيعود الاتحاد السوفياتي".
في أوساط حزب بكداش سادت مقولة(المؤامرة)،"المشتركة بين وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية والموساد بالتواطؤ مع مسؤولين يهود تسلقوا أعلى هرم السلطة بالقرب من غورباتشوف"،لتفسير سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي.كانت مقولة(سيعودون)من أجل اعطاء أمل للحزبيين والمناصرين ،فيماكانت مقولة(المؤامرة)من أجل القول (أن هناك في تجربة 1917-1991السوفياتية لاتوجد أخطاء لافي النظرية ولافي التطبيق)،حيث أتى هذا من شخص كان يقول أثناء أزمة الخلاف في الحزب الشيوعي السوري بأننا "نحن الشيوعيين لايمكن أن نكون من دعاة الاستقلالية عن الاتحاد السوفياتي وعن حزب لينين ،بل نحن دعاة الانسجام معهما"(من كلمة خالد بكداش في المجلس الوطني العام للحزب الشيوعي السوري،تشرين ثاني1971،في كتاب"قضايا الخلاف في الحزب الشيوعي السوري"دار ابن خلدون،بيروت1972،ص202). خالد بكداش،الذي وصفه باتريك سيل بأنه "إذا قورن به أكرم الحوراني لبدا كالهاوي أمام المحترف"("الصراع على سورية"،دار الأنوار،بيروت1968،ص214)،كان محتاجاً إلى منظومة متكاملة من المقولات لتسويغ انهيار فاتيكانه الخاص وهو قد كان كاردينالاً مهماً عند "البابوات" المتلاحقين منذ ستالين في الكرملين.(المؤامرة)تقوم بتبييض صفحة سنوات التجربة السوفياتية،ومن ارتبط بها واعتبر موسكو كعبته وفاتيكانه،ومقولة (سيعودون)تعطي أملاً وترياقاً ضد سم الهزيمة والانهيار.المثير للانتباه التشابه بين بكداش في تفسير الانهيار السوفياتي وبين شخصين، أحدهما حسن البنا أسس (جماعة الاخوان المسلمين)عام1928 والثاني هو تقي الدين النبهاني مؤسس (حزب التحرير الاسلامي)عام1952،رأيا في انقلاب (جماعة الاتحاد والترقي)على السلطان عبدالحميد 1908-1909وفي الغاء مصطفى كمال أتاتورك للخلافة الاسلامية عام1924أيضاً (مؤامرة)قام بها أيضاً يهود من المتحولين للاسلام،أي الدونمة،مثل أنور باشا الرجل القوي في الاتحاديين ومصطفى كمال.في الفكر الاسلامي عند السنة والشيعة تنسب(الفتنة)إلى يهود،عند السنة إلى عبدالله بن سبأ وعند الشيعة إلى كعب الأحبار.
لم يكن كل الشيوعيين العرب على خطى بكداش في تفسير الانهيار السوفياتي.البعض منهم قال بأن (الماركسية –اللينينية)،وهي اختراع ستاليني منذ 1925لم يقل بها لينين أبداً،"صحيحة ولكن هناك أخطاء في التطبيق".آخرون قالوا بأن "ستالين انحرف عن لينين،وأكمل بريجنيف ذلك بعد أن منع مراجعات المؤتمر العشرين ضد الستالينية من أن تكتمل بعد أن بدأت مع خروتشوف عام1956".على العكس من المقولة الأخيرة وجدت مقولة ،وهي عند بعض المنحدرين من حزب بكداش،بأن "الانحراف قد بدأ مع خروتشوف ثم أكمله غورباتشوف مع البيريسترويكا".قلة من الشيوعيين العرب قالوا بأن التجربة السوفياتية هي انحراف عن مخطط كارل ماركس في "البيان الشيوعي" حيث لم يكن بالامكان بناء اشتراكية في بلد لم ينجز مرحلته الرأسمالية بعد وأن المناشفة كانوا أقرب لماركس من البلاشفة حيث لم يستطع خلفاء لينين انجاز مهمات أبعد من (رأسمالية الدولة) وأن هذا انتهى في (اقتصاد السوق)،مثل كل التجارب العالمية المختلفة لرأسمالية الدولة،وهوماأدركه الشيوعيون الصينيون منذ أواخر الثمانينيات لمابدأوا بقيادة التحول الرأسمالي الصيني لتفادي أن يجري ببكين ماجرى في موسكو وقد كان ماحصل في ساحة (تيان أن مين) ضد الطلاب والمثقفين في 3-4حزيران1989موجهاً أساساً ضد أمين عام الحزب الشيوعي زهاوزيانغ الذي رأى فيه الزعيم الصيني دينغ سياوبينغ طبعة صينية من غورباتشوف قبل أن يعزله في نهاية ذلك الشهر.
المقولات الخمسة المذكورة أعلاه لم تقد أصحابها للخروج من تحت خيمة الماركسية.من دون المقولة الخامسة بقيت المقولات الأربعة الأخرى في إطار فكر الماركسية السوفياتية وهي تبريرية بالمجمل ولاتحمل مراجعة حقيقية لالفكر الماركسية السوفياتية ولاللتجربة السوفياتية بين عامي1917و1991.لم يكن هذا مساعداً على أن ينهض الشيوعيون العرب من جديد وأن يتفادوا تداعيات الزلزال السوفياتي بعد أن كانوا منذ العشرينيات يركبون في مقصورات القطار السوفياتي .
بالتوازي حصلت عملية ذهاب عند شيوعيين عرب كثيرين إلى مواقع غير ماركسية:بدأ هذا في عام1989 عند شيوعي لبناني مثل كريم مروة قال "بنظرية ثورية جديدة تأخذ بعضاً من الماركسية والقومية والاسلام"( انظر كتاب"حوارات"،دار الفارابي،بيروت1990).في نيسان1998وافقت قيادة الحزب الشيوعي السوري (المكتب السياسي)على مشروع قدمه الدكتور جمال الأتاسي لتحويل (التجمع الوطني الديمقراطي)بأحزابه الخمسة إلى(حركة سياسية واحدة بألوان أيديولوجية مختلفة)قبل أن يقود خروج رياض الترك من السجن يوم30أيار1998إلى تعضيد قوة المعارضة داخل الحزب الشيوعي(المكتب السياسي)لهذا المشروع وإلى دفنه.نفس أولئك القياديين ،الذين وافقوا على مشروع1998،التقوا مع رياض الترك في أعوام2003-2004-2005على مقولة أن الماركسية "هي مصدر من مصادر متعددة"،ولكن كان التحول والذهاب بعيداً عن الماركسية يعود لأسباب سياسية على الأقل عند الأستاذ الترك الذي أصبح يراهن على"رياح غربية ستهب على دمشق"عقب سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي وهو ماتجسد في 28أيلول 2003 بمقابلته مع جريدة"النهار"لما قدم (نظرية الصفر الاستعماري).كان طرح تغيير اسم الحزب مترافقاً مع هذا التحول السياسي ،وقد أدى العاملان المذكوران إلى قيادة من ذهب في مؤتمر 28-30نيسان2005لتأسيس(حزب الشعب الديمقراطي)نحو موقع جديد من الناحية الفكرية – السياسية – الأيديولوجية هو غير الماركسية. في تونس وفلسطين جرى أيضاً تغيير لاسم الحزب الشيوعي وقد كان هذا ،مثل تجربة رياض الترك ومن معه،عنواناً للانتقال بعيداً عن الماركسية.عند شيوعيين عرب أفراد جرى طرح لمقولات مثل (موت الأيديولوجيات)و(الحزب هو برنامج سياسي فقط)و(نهاية الأحزاب) لم تقل بها قيادات الأحزاب من المتمرسين بالعمل السياسي بل اقتصرت على مثقفين كانوا في الأحزاب الشيوعية العربية ،وهي مقولات لم تحصل أبداً في البلدان المتقدمة.
كمجمل عام:يمكن القول بأن المراجعات الشيوعية العربية،بعدمايقرب من ربع قرن على الانهيار السوفياتي،ليست على مستوى الحدث،هذا إذا لم تكن بمعظمها مراجعات هروبية عند من بقي في الماركسية.هذا يدل على ضعف فكري- سياسي،ليس بمستوى المراجعات الحقيقية كالتي قام بها إدوارد برنشتين عام1898عندما خرج من (الماركسية الأرثودكسية)واسس الاتجاه الاشتراكي الديمقراطي أوالتي قام بها لينين عامي1914و1915عقب "انهيار الأممية الثانية"وقادته إلى مقولته حول (الامبريالية) عام1916 أومراجعات سيد قطب المتجاوزة لحسن البنا في كتابه "معالم في الطريق"عام1964.بالمقابل تدل عمليات الانزياح عن الماركسية على مدى هشاشة الرباط الفكري- السياسي في تلك الأحزاب منذ نشوئها،حيث يبدو أن ذلك الرباط كان متعلقاً بعامل خارجي هو قوة الكرملين،وليس بعامل ذاتي،لذلك عندما انهار ذلك العامل الخارجي رأينا تلك الانزياحات التي هي انهيار أيضاً،فيمامن يتفادى المراجعة الحقيقية لايقوم بأكثر من عملية هروب إلى الأمام وإثارة غبار أمام أي مراجعة ورؤية حقيقية.