الأمل، تأملات عن هشاشته وقوته


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4800 - 2015 / 5 / 8 - 16:04
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

1
في عام 1992، بعد خروج اثنين من إخوتي بين رفاق آخرين من السجن، زراني أحدهما مع رفيق آخر. كانت الزيارة ممنوعة، لكن الطغيان مثقوب بالفساد: تواطأ سجان، فأمكن أن أكلمهما من نوافذ جناحنا، وهما واقفان في باحة السجن. كان أخي قضى نحو 6 سنوات، ورفيقي الآخر قضى 11 عاما ونيفا، وكلاهما ينعمان بـ"الحرية" منذ أسابيع قليلة وقتها. لا أذكر من منهما قال هذه العبارة التي لا تنسى: حين كنت في السجن كان لدي أمل بأن أخرج منه؛ خرجت، ولم يعد لدي أي أمل! ضايقني وقتها هذا الكلام كثيرا، ليس لأن لدي تصورات وردية عن الحياة خارج السجن، لكن لأني كنت أشعر أن الأمل هو شيء نعطيه لأنفسنا، شيء نتعب عليه كي يبقى معنا وكي ينمو. بين الأمل والعمل في العربية جناس ناقص، لكن بينهما رباطا معنويا كاملا. الأمل موقف نشيط للنفس، ليس تعليلا وإرقابا مثلما يقول الطغرائي في "لامية العجم"، وإن لم يكن أيضا عملا يسير وفق مسار متوقع، مفضيا إلى نتيجة محددة معروفة سلفا.العمل المفرط التنظيم، الذي يقترب من عمل الآلة، لا أمل فيه ولا يعد بانبثاق أو خلق أو ولادة.
ليس الأمل رجاء أيضا، فالرجاء شيء نتوجه به إلى قوة ما خارجنا، أما الأمل فينبع من الداخل.
خلال سنوات السجن، دون مقصد واضح في البداية، صنعت فرص أمل لنفسي قاومت بها اليأس، وإن أكن يئست بما فيه الكفاية أيضا. أظن أن تجربة السجن شكلت لي تطعيما ضد اليأس، بالضبط لأني يئست فيه كثيرا وعميقا. وعبر التعلم أساسا، واكتساب المعرفة والتفكير، كان السجن في المحصلة تجربة انعتاق كما قلت في الكتاب الذي صار في متناولكم. انعتاق من سجون داخلية، تغيرت فيه وتجددت، وهذا هو منتهى الأمل في تصوري: حياة جديدة وشباب جديد.
إنتاج للعمر أيضا وإرجاء للموت. العمر ليس وقتنا المحدود في العالم، إنه ما نُعمّر في العالم وما نصنع بحدودنا. منتهى الأمل أن يكون عمرنا أعمارا، وإعمارا.

2
مشكلتنا مع الأمل أنه صغير هش، بينما نحتاجه في كل وقت فإنه بحاجة إلى كل طاقتنا على العمل وكل ما قد نستجمع من ذكاء وخيال كي يبقى معنا وينمو. ومشكلة الأمل معنا أننا نتخلي عنه بيسر أمام الصعاب، ونركن إلى اليأس. ولعل مصدر هشاشة الأمل هو يقين الموت في النهاية، فناؤنا الشخصي وانتهاء أعمارنا. لكن الأمل نفسه لا يموت، يبقى معنا رغم هذا اليقين. فهو قرين الحياة.
ومثلما الحياة هي جملة أفعال مقاومة الموت، فإن الأمل هو جملة أفعال مقاومة اليأس، أفعال الإرادة والفكر والخيال والجسم، إنه خاصية تبطن الفعل البشري المجدد، دون أن تضمنها حتمية تاريخية أو قدر إلهي أو طبيعة الأشياء. لسنا محكومين بالأمل، على ما يقول أستاذنا سعد الله ونوس. الأمل خيار وليس قدرا ولا عادة، وهو خيار شاق وغير مضمون، خيار أن نقاوم ما يحكمنا من سلطات وعادات وأفكار، أن نجدد أفكارنا وحياتنا، أن نغير أنفسنا ونحن نعمل على تغيير العالم كي يصير أكثر عدالة وحرية وأكثر ملاءمة لإنتاج آمال أكبر.
الأمل فعل مقاومة فردي واجتماعي، صحيح، لكن من المنظومات الاجتماعية والسياسية ما لا تسمح بصناعة الأمل، منظومات يائسة أو منتجة لليأس ومعممة له. إن كنا نريد التحرر من الطغيان، إذا كان السوريون ثاروا على الدولة الأسدية، فلأنها منظومة مناهضة للأمل، أضعفت قدرتهم على صنع حياتهم وتنويعها والتحكم بها، هذا بينما يصنع مقاديرهم ويتحكم بها بالمقابل إداريو الطغيان العنيفون المخيفون، والخائفون. ينتجون كثيرا من الغاضبين الحاقدين القانطين، ما يوفر شروطا أنسب لإعادة إنتاج اليأس. الأمل قرين الحرية مثلما هو قرين الحياة، يصنع الناس الأمل بدرجة تتناسب مع كونهم أحرارا. المنظومات الاجتماعية الصانعة للأمل هي التي توفر حرية أكبر لأعداد أكبر من الناس. الحرية ليس بالمعنى السياسي والقانوني فقط، ولا بالمعنى الاقتصادي أيضا فقط (الكفاية المادية)، وإنما كذلك حرية التفكير والتخيل والخروج على المعتاد والتفنن بالحياة. الأمل لا يتوافق مع الركون إلى أوضاع بعينها وعادات قارة. للحياة الثابتة المنوال مفعول الآلة المنتظم، المانع للانبثاق والولادة، والنافي للأمل. مفعول يقين الفناء أيضا، إن هو استبد بالحي.
هناك ثلاثية تسير معا: الحرية، الأمل، الحياة، وفي مقابلها ثلاثية أخرى: الطغيان، اليأس، والموت. كيف نأمل، ونحن ميتون؟ كيف نلتذ بالعيش وأنفسنا مطلوبة للموت، يتساءل أبو العتاهية. لكن لا نأمل رغم أننا ميتون، بل لأننا ميتون، ولأننا نقاوم موتنا ولا نكف عن إرجائه. بمنع نفسه من الالتذاذ بالعيش يموت أبو العتاهية الآن وفي كل وقت لأنه سيموت يوما. يفوته أنه لو كنا نعيش إلى الأبد لكانت حياتنا مملة لا جديد فيها نعيشها، في انتظار لا شيء، حياة خالية من الأمل بقدر ما هي ملأى باليقين. لا أمل في الجنة، فقط وفرة مضجرة، لا انبثاق فيها ولا خلق، لا موت فيها، لكن لا ولادة أيضا ولا إبداعا على غير نسق. "لا أمل لإبليس في الجنة"، لكن الجنة نهاية آمال المؤمنين. قد يكون لإبليس في الجحيم أمل بخلاص أو بعذاب أقل، لكن ماذا بعد الخلاص؟ ضجر لا ينتهي. الحياة المحدودة هي "فسحة الأمل" التي تكلم عليها الطغرائي، وما دمنا أحياء فنحن قادرون مبدئيا على أن نخلق أو ننتج أو ننجب أو نبدع، الأمل هو قوة انبثاق الجديد الحي في حياتنا، هو حياة الحياة، الحياة المضاعفة، تلك اللحظات التي نقول فيها إننا عشنا بالفعل، ونحسبها من أعمارنا.
لا أمل في الجنان الأرضية أيضا، سواء كانت باسم الدين أم باسم الأمة أم الإنسانية أو اللبرالية أو الاشتراكية. كان الاتحاد السوفييتي وأشباهه بلدانا لليأس. فإذا حاكيتُ صيغة لماركس تقول إن الفلسفة حين تتحقق تكف عن كونها فلسفة، فإن الأمل المحقق في الاشتراكية السوفييتة لم يعد أملا يمتكله الناس أو يصارعون لامتلاكه، صار يأسا ناجزا. لقد "حكم الأمل" الروس والشعوب الخاضعة لسلطتهم، فلم تبق لهم أية آمال.
لكن المنظومة التي قد تكون تجسيدا لللاأمل، لليأس المطبق، ولثلاثية الطغيان واليأس والموت، هي داعش. بقدر ما إن النظام مقدس هنا، وقواعده يقينية لا تمس، فإنه يجتهد كيلا يترك هامشا مهما يكن ضيقا للمقاومة وللحرية والإبداع على أي مستوى. هنا يتحقق الأمل بدولة إسلامية فلا يبقي أي أمل. وهنا ينتهي التاريخ. وغاية الحياة هنا تكرار الأشياء نفسا حتى الموت. ما سيسقط داعش هو أنها نموذج لليأس، لإحكام الخناق على الحياة، والأحياء. لكن داعش نفسها لا تنجح في إغلاق نوافذ الأمل نهائيا. في نطاقاتهم الخاصة الآمنة ينتهك الناس نظام اليأس ويخرجون عليه.

3
كسوريين، نواجه أفرادا وبلدا، أوضاعا بالغة القسوة، تنفلت من قدرتنا حتى على تخيلها أو على بناء رواية متماسكة منها. كل شيء يغري باليأس. آن لنا ان نيأس ونستريح! كتب غالب هلسا في روايته "البكاء على الأطلال". لكن يبدو لي هذا استسلاما غير مقبول. اليأس مريح فعلا، لكن هل يُتعِب اليائسون أنفسهم بالدعوة إليه إلا لأنهم لا يثقون بيأسهم، يريدون شركاء في ما يتعارض جوهريا مع الشراكة ويقطع الروابط بين الناس.
كسوري بين السوريين أواجه اليوم تجربة أقسى من السجن، ليس المنفى وحده، ولكن اختطاف سميرة وفراس، وأصدقائي، دون معلومات عنهم، فضلا عن تحطم الثورة وتمزق البلد. فهل يبقى اليوم مكان للأمل؟
لا أريد انتحال صلابة لا أراها شيئا طيبا دوما، لكني لست يائسا، ولا يزال التشكي والنحيب يثير أعمق نفوري. لكن في مواجهة هذا الوضع العضال، أتعلم كيف أحزن، بدل القنوط والغضب الأعمى. الحزن يساعد على ملاقاة النفس وترتيب الداخل، وبالتالي المقاومة. أتعلم أيضا كيف أبوح بما في قلبي لأصدقاء، فهو يساعد كثيرا أيضا. الأمل اليوم تحد وصراع أكثر من أي وقت سابق. صراع بلا ضمانة غير ما يمنح الأصدقاء من ثقة، وغير مصادقة النفس، وصورة سميرة الباقية معي في كل وقت، أشعر أن تماسكي وكرامتها شيء واحد.
يساعد كثيرا العمل أيضا. القراءة والكتابة، كجهدين للوضوح وكفاعلية إنتاج اعتمد عليها في معيشتي.
لكن الشيء الذي يساعد أكثر من غيره في المقاومة هو الشراكة مع آخرين في العمل معا. أعمل مع صديقات وأصدقاء، سوريين وأتراك، في تجارب عمل مشترك تبدو لي واعدة. نحاول صنع مساحات أكبر للثقة والأمل والصداقة.
أعتقد أن الصحيح اليوم هو أن يتوجه جهدنا لإنقاذ مساحات الأمل والثقة، وتطوير ثقافة للأمل، لا يمكنها ألا أن تكون ثقافة مبدعة ومجددة كثقافة، بقدر ما إن الأمل رفيق للانبثاق والتجدد والخلق. بعد حين لا أدري كم يطول، يتعين أن يتحول العمل من مقاومة اليأس إلى مقاومة منظومات اليأس، أي إلى حركة اجتماعية وسياسdة تحررية، محتفية بالحياة، تواجه الطغيان السياسي والديني، وتعمل من أجل أوضاع جديدة، أكثر حرية وعدالة وتشاركا.