مدام ميرابيل القسم الثاني5


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4799 - 2015 / 5 / 7 - 13:49
المحور: الادب والفن     

لم يكن سباستيان في شقته، فدست كلمة من تحت بابه، تطلب فيها الذهاب لرؤيتها. عادت تأخذ المترو إلى الدير، ولم تتأخر عن تركه، حقيبة ابنتها بيدها، وجيوبها فارغة. ومع كل خطوة، كان الضباب يغدو أكثر حدة، والليل أكثر سمكًا. لم يكن شارع موفتار بعيدًا، فذهبت على قدميها. اختلط الضباب بأنفاسها، اخترق جسدها، وسال بين ثدييها، الضباب الحاقد والبارد، اللذيذ، الغارق في الصمت الباريسي على خلفية من السيارات والأضواء المتكسرة بين أصابع الشوارع. قطعت مارغريت ميرابو وحدها هذه الشوارع، والعالم تحت خطواتها كرة من الكريستال الأسود –من المستقبل المبهم. أرادت أن تتباطأ في الليل، في الضباب، وفي انعكاسات مصابيح السيارات، أن تعبث بالأحلام القادمة، أن تقض مضاجع الآلهة. أرادت أن تتمارى في الظلام، في الحلكة البيضاء، وفي ارتدادات لآلئ الابتسام على الشفاه، أن تمزق الفساتين القصيرة، أن تتعرى في أحضان الطبيعة. أرادت أن تتعانق مع ظلالها، مع أندادها، ومع الشياطين التي تعلمت على يدها الغرام، مع الرعاع، مع الأمراء. تعثرت أمام فترينة إحدى وكالات السفر، وأدركت فجأة أن الحقيبة ثقيلة جدًا للبقاء أكثر على أعتاب أفكارها، فعادت إلي بيتها بأقصى سرعة تقدر عليها.
أول ما وضعت القدم في شقتها، سارعت إلى فتح النافذة، وخلع ثيابها، لتشعر بالضباب وبالبرد يزحفان حتاها، على السرير. انتصب ثدياها تحت حدة البرد، ورسخت فخذاها واستدارتا كما لما كانت تذهب للعوم في البحر. تركت نفسها تتغطى بالضباب، فضاعف البرد فيها الرغبة في الدفء، باستحالة الدف، وَقَلَتْ جسدها بالجليد، بالمتعة، متعة بإرادة الجليد. في تلك اللحظة، تذكرت صدر امرأة على الإعلان، في فترينة وكالة السفر، امرأة سمراء من سمرقند: عيناها المرسومتان أحسن رسم، ثغرها المنقوش أحسن نقش، شعرها الأسود المجدول المتساقط على ثدييها، في الشمس. عند ذاك، أحست على جسدها بكل برد الشتاء الباريسي، فاقشعرت بعنف، في الوقت الذي طرق فيه أحدهم الباب. ارتدت روبها، وذهبت لتفتح، وهي على التقريب عارية، مرتعشة. كان زوجها. وهو يراها تهب نفسها هكذا للرياح كغصنٍ طريّ، أغلق النافذة بسرعة، وغطاها بذراعية المشعرتين ليدفئها، فدفعته بعيدًا عنها بخشونة.
- وجدتُ آنييس، قالت، وأذهبتُهَا عند جوزيان. هكذا سيكون لها ما تعمل هناك، وسيتوفر لها مصروف جيبها.
جلس سباستيان على الأريكة، ولبست مارغريت هيئة حزينة:
- غادرت صغيرة، كانت طفلة، بريئة، وعادت امرأة تقريبًا... لدي انطباع بلا تركها معي لهذا السبب. في البداية، لم تشأ، لكن في الأخير، فضلت، هي كذلك، البقاء عند جوزيان. ربما كيلا تثير لا إعجابي...
- كان عليها أن تأتي عندي لا عند الغرباء! أجاب سباستيان
- جوزيان ليست غريبة، وأنا، لا أريد خاصةً أن تأتي آنييس عندك، لتقع على كل عاهرات باريس...!
- إذن لماذا لم تبقيها عندك؟
- قلت لك لماذا. ثم على آنييس أن تتعلم مهنة، وأن تتحمل المسؤولية.
- المسؤولية! أنت لم تتحملي أية مسؤولية، وتريدين هي، أن تتحمل المسؤولية، ربما؟ كان من الأفضل أن تبقى معي.
- معي أم غير معي، كله واحد الآن. ولا تعطني درسًا فيما هو أفضل أو غير أفضل لها. انظر إليك، لقد نجحت في كل شيء: بلا عمل، بلا عائلة، بلا شيء! أنت من كان يريد أن يكون الأفضل دومًا! فلا تأت لتكلمني عن المسؤولية، من فضلك!
- بل فلنتكلم عنها! من نسف كل شيء: حياتنا وحياة ابنتنا؟ فلنتكلم قليلاً عن هلوساتك التي ألقت بكل شيء في الماء!
- أنتَ لستَ على المستوى، هذا كل ما في الأمر.
بقي سباستيان مشدوهًا للحظة، موطئًا رأسه.
- في وقت من الأوقات، كانت لي مسؤوليات، أنا، وكنت سأشتري لك طائرة...
قهقهت مارغريت، كالجو العاصف، فدفعه الغضب إلى النهوض. وهو على وشك أن يجتاز الباب، أوقفته زوجته:
- ألا تريد أن تأخذ عنوان ابنتك؟ ألا تريد أن تعلم أين تتلفن لها؟ في أي مكان توجد على وجه الأرض؟
- كنت أريد، لكن الآن لم أعد أريد، لم أعد أريد أن أعلم شيئًا لا عنها ولا عنك، فلتذهبا إلى الجحيم!
كان على وشك أن يحطم الباب.
في الصباح الباكر، حملت مارغريت أغراض ابنتها، وطلبت إلى جواها الصمت. التفّت التفافَ باريس بغطاءٍ من الضباب الكثيف، وحلمتها تكمن كالمنقار الماكر تحت معطفها. لاح لها في الزقاق القصي طيف جيروم، فأخذها الاعتقاد أنه لم يغادر مكانه منذ مساء أمس، وأنه قضى الليل في هالة مصباح مجنون مثله. تسابق أولاد جوزيان إلى حمل حقيبة آنييس عنها، وتركوها وحدها تحمل عبء حياتها: لم يحبها أحد هكذا، لم يقض أحد حتى ساعة واحدة في البرد والضباب من أجلها، لم يجئ أحد أبدًا في الصباح الباكر كالنجم الوفي رغم الغيم المجتاح لسمائها.
بقيت تنظر إلى حب ابنتها كما لو كانت تنظر إلى حبها، فشكت أمرها إلى أرباب الهوى. كان كل شيء، في الضباب، كما لو كان وهمًا، كما لو كان حلمًا، وظل الليل مختبئًا في الظل، كيلا ينتهي، فتقف مارغريت على الحقيقة، وتذهب حتاه، وتأخذه بين ذراعيها... وصلها صوت جوزيان الصغيرة، وطار كل شيء مع صخب الأولاد الذين يغادرون. كانت هناك آنييس كذلك، التي يمسك جوفريه يدها. لمحت جوزيان الصغيرة جيروم، وقالت لآنييس كما لو كان سرًا:
- هذا الشاب يحبك كثيرًا، يا آنييس!
- إنه مجنون فيّ، همهمت الفتاة، وأنا لا أحب هذا!
التفتت جوزيان الصغيرة إلى مارغريت التي لزمت الصمت بغرابة:
- وأنت، يا مارغريت؟
- وأنا ماذا؟
- كنتِ مثل آنييس أم مثلي؟
- مثل لا أحد، قالت بنشافة.
ولابنتها:
- ماذا تنتظرين؟ هو هنا لأجلك!
نادته، فامتطى دراجة نارية، واقترب منها.
- لمن هذه الدراجة؟ سألتْ.
- لصديق، أجاب، وهو يبتسم ابتسامة واسعة، طلبتها منه لأجلك، لنتنزه قليلاً.
- كما ترى، إنه الوقت المناسب للتنزه!
- ليس الآن، أوضح جيروم بأناة، عندما تنتهين من عملك.
- لكني لا أنتهي إلا على السادسة، وأنا...
- إذن إلى السادسة. سأتجول قليلاً، بانتظار ذلك.
ووضع خوذته.
- انتبه إلى نفسك، قالت آنييس فجأة، الطرق مبللة.
عدلت عن قولها، وشعورها بخيانة عواطفها يغلب عليها:
- أريد القول...
كان جيروم سعيدًا، ضرب على الدواسة، فانطلقت الدراجة عدة أمتار على عجلتها الخلفية، قبل أن تختفي.
ظُهْرًا، عندما ذهبت مارغريت، في الضباب، إلى بنك السيد هنري، لتسحب بعض النقود من أجل شراء ساندويتشها، كان جيروم هناك، جالسًا على دراجته، تحت شجرة عارية، مقابل البنك. دخلت مارغريت البنك، فجاءت الشاحنة المصفحة، وغادرت، وعندما خرجت، لم يكن جيروم هناك. بحثت عنه بعينيها في كل مكان، وهي تطالب المكان بالصراخ، النساء بفعل كل ما هو حرام، الحلمات بالخروج من تحت المعاطف. ابتلعت غيمة سوداء ضخمة الضباب، وهي تفرش جناحيها العملاقين، وثارت ريح عاتية هصرت مارغريت بين ذراعيها. أحرقها بردها الجهنمي، وألهب كل باريس، أرصفتها، تماثيلها، مضاجعها. كيف يمكن لنساء سمرقند احتمال الجحيم؟ كيف يكون الحب في بلد النار؟ كانت قد سمعت عن الأمهات اللواتي يقدمن بناتهن العذراوات للغرباء، للقيام بأول عرس لهن، عرس لا يدوم سوى ليلة، و، لم تدر لماذا، فكرت في جيروم. ستأخذه معها، وسيكون في سمرقند الغريب الأخير، وهي العروس الأخيرة.


يتبع القسم الثاني6