مدام ميرابيل القسم الثاني2


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4796 - 2015 / 5 / 4 - 14:12
المحور: الادب والفن     

ها هي العجوز دولاكروا تفعل كل شيء لتُثَبِّطَ هِمَّتَهَا بينما تحاول الحصول على أفضل ما يكون لأجل ابنتها! ولكن ماذا يعني ذلك؟ في أحد الأيام سترى، ستفعل كل ما تريد، ستحقق كل ما تتمنى، ستستبد بكل من تحب وكل من تكره. وعلى الفور، أخذت تبحث عن وسيلة تسحب فيها ابنتها من الدير بأسرع ما يمكن، ما بين الثامن والعاشر. وعلى التأكيد، لن يكون ذلك من التعقيد الشيء الكثير، ولن يبقى سوى الذهاب هناك، وكل ما يستتبع ذلك... ولكن كيف الذهاب؟ وعلى الخصوص، كيف الظهور دُفْعَةً واحدة، بعد غياب طال أكثر من عام، والعودة بها هكذا، كمن يعود بنهر، بجبل، ببحر الخَزَر...؟
في شارع موفتار، كانت المطاعم اليونانية تعرض أطباقها الملونة، كما كانت تعرض دومًا، من وراء الفترينات، وكانت توحي بانحراف الأخلاق، ولمارغريت، بانحراف الغرائز، فقالت لنفسها ربما كان عليها العمل عدة ساعات إضافية يمينًا يسارًا، كجوزيان الصغيرة، لتستطيع إعطاء آنييس بعض النقود، كيلا تتوقف حياتهما على عجوز شمطاء كالعجوز دولاكروا، أو على أي شخص آخر. أمتعتها هذه الفكرة، كالرز اليوناني باللحم والتوابل، وأخذت تبتسم لظلها، الذي تتابعه بعينها على الأرض. تذكرت زوجها، فأفقدتها ذكراه صبرها، وجعلتها تفكر في إجباره على دفع النفقة التي حددتها المحكمة.
وهي تصعد الدرجات المحتكة بقدم الزمن إلى شقتها، ميزت شبحًا، خيالاً، كان ينتظرها على عتبتها. إذا كان زوجها، طردته شر طردة، وليذهب إلى التغني بالمجد بعد ذلك. لم تفكر فيّ هذه المرة، أنا، دافيد، دافيد الغريب، السقيم، المعتل، الخاضع لتلك القوة العمياء فيه، الهارب أمام قدره، أمام سُخامه، والذي نجحت، في نهاية المطاف، في نسيانه. كانت كالآلهات اللواتي يستبددن بعواطفهن، ويجعلن من أنفسهن نماذج للطبيعة العاتية، فيهيمنّ على جموحات القلوب. مارغريت الإلهة، الربة، أم الرب، حين وصولها فوق، وجدت نفسها أمام راهبة في ثوبها الأسود، فخارت قواها.
تقدمت الراهبة منها، وأمسكت بذراعها.
- مدام، كوني قوية، اسمعي ما لدي قوله لك، همهمتْ.
- وقع شيء ما لابنتي، أليس كذلك؟ سارعت مارغريت إلى الافتراض.
- لندخل بالأحرى، ولا نتكلم في كل هذا هنا.
فتحت أم آنييس الباب، وألقت بنفسها على كرسي، بينما بقيت الراهبة واقفة في المدخل، وتركت الصمت يملأ المسكينة مارغريت بالقلق. جمعت يديها، وقالت كمن تدعو وتسترحم:
- كان على ما وقع أن يقع منذ زمن طويل، فأكثر من مرة أحسسنا أن ابنتك تفقد صبرها... وهي إذا ما هربت من الدير، فقد كنا نعلم جيدًا أن الخطأ خطأك، مدام...
- خطأي، همهمتْ، لكن كيف هذا خطأي؟
- ألم تزالي تتساءلين؟ لم تزوريها مرة واحدة منذ شهور بينما كنت على بعد عدة خطوات من الدير، حتى أنك لم تكتبي لها...
- كنت أفكر في ذلك، كنت أريد إبعادها عن مشاكلنا، أنا وأبوها.
- ومع ذلك سبق للأم العليا أن كتبت لك حول هذا الموضوع لتوفر عليك النتائج التي نتوقعها، والناجمة عن بعادك، لكنك لم تبدي أي رد فعل. الآن، هربت آنييس، ولم يعد هذا من مسؤوليتنا، مدام ميرابو.
حاولت مارغريت أن تستجمع أفكارها.
- ربما ذهبت عند أبيها؟
- قالت لنا الشرطة لم تذهب، وأرسلت اسمها إلى أقرب المدن، في حال حصول شيء لها.
- لا، يا أختي، ابتهلت مارغريت، لن يحصل لها شيء، أليس كذلك؟ لعلمك، لقد اتخذت قرارًا بإحضارها وإبقائها معي كي أُعنى بها بنفسي.
- الآن، لقد سبق السيف العذل، مدام.
مدت الراهبة ورقة.
- هذه نفقاتها حتى نهاية السنة، فكل هذا لا يعني أننا نلغي العَقد، وبناء على ذلك توجب الأم العليا دفع المصاريف في أقرب الآجال، وليكن الله عونًا لك في إيجادها.
دارت برأسها في أنحاء الصالون، وعلى وجهها علامات التقزز، وغادرت، وهي تضرب الباب من ورائها، فانتفضت مارغريت، وأدركت أن ما جرى لم يكن حلمًا رديئًا. عادت تلتهم الشارع الأفعى بقدميها متجهةً صوب محطة المترو، وبعد نصف ساعة وجدت نفسها في ساحة الجمهورية، أمام تمثال ماريان، في ثوبها الفضفاض، وغصن زيتون بيدها. تذكرت تلك السهرة البعيدة التي تُوجت فيها المرأة الرمز للجمهورية، وكان كل ذلك بلا جدوى، المجد والثروة اللذان كانت تعتقد بهما اعتقاد المجنون بجنونه، كان كل ذلك جنونًا في جنون، سرابات، كان كل ذلك سرابات غامضة. سارعت بالهرب من التمثال المختال، والأشجار شبه العارية تلقي عليها ظلالها السوداء، والفضلات تغطي الأرصفة، وتكاد تمنع من الدخول في المحلات التجارية. كان كل ذلك كذبًا في كذب. عند زاوية عمارة زوجها، كانت أضواء أحد الأكشاك تتكسر، والبائع ينقل حزم الجرائد إلى الداخل. ألقت نظرة أخيرة على ماريان، كان كل ذلك وهمًا في وهم، ثم قطعت الساحة، وهي تدعو السماء أن توجد ابنتها عند أبيها. كانت في سرها تأمل أن يكون قد كذب على الشرطة، وقد خبأها عنده. صعدت على الدرج العريض، ورائحة نتنة تصعد معها. رائحة البشر، رائحة الوجود. رائحة نتنة. رائحة تأتي من كل مكان. رائحة نتنة لا تطاق. لن تعرف الأسماك النوم. رائحة نتنة. رائحة كريهة. رائحة عطنة. غطت وجهها بمنديل، وطرقت الباب. تأخر زوجها، فلم تطق صبرًا. طرقت الباب من جديد، فجاء يفتح، وهو نصف عارٍ.
دفعت الباب بعنف، ودخلت.
- لماذا أبطأت في فتح الباب؟ أرعدت مارغريت. الرائحة النتنة لا تطاق، هنا!
سكتت فجأة، وهي ترى امرأة عارية على السرير.
- سامحيني، تلعثم سباستيان ميرابو، لم أكن أنتظر رؤيتك، أنا...
- نحن لا نجد أي أثر لابنتك، وأنت لا تجد ما تفعله أفضل من النوم مع ملكة فرنسا!
رمت للمرأة ثيابها، وطردتها، وأخذت تبحث عن آنييس في الشقة، بينما كان زوجها، على الرغم من تحيره، في غاية السعادة.
- إذن أنت غيورة، همهم، أنت غيورة، مارغريت!
- أين آنييس؟ أين تخبئها؟
أمسكها سباستيان من كتفيها، وحاول تهدئتها، فراحت تبكي، وتصرخ، وتضربه على صدره. تساقطت على الأرض، فثارت الأرض، وكأن الأرض براكين من الحرير لأجلها.
- هل أنت أحسن؟ سألها زوجها، وهو يهبط قربها. أترين؟ إنها ليست عندي.
- أين هي إذن؟ أين يمكنها أن تذهب؟ سألت باكية.
- أنا لا أعرف، يا طفلتي، قال بصوت منخفض، أنا لا أعرف.
أفزعتها فكرة أن تكون قد فقدت ابنتها إلى الأبد، فعادت تضربه على صدره.
- إنه خطأك! إنه خطأك!
- ماذا! اسمحي لي أن أقول لك إنه خطأك أنت، كل هذا. لأن لو لم ننفصل لما حصل شيء من هذا.
ضربها بدوره، وجعلها تبكي، وجعله يبكى هو كذلك... ثم حملها إلى السرير، وأراد كلاهما الرجوع إلى حلمهما الضائع، لا شيء غير بضع لحظات، لا شيء غير نسيان نفسيهما قليلاً، حلمهما المذل، المهين، حلمهما الكبير. وهبت نفسها جسدًا وروحًا حتى العناق الأخير، وبعد ذلك، ناما نومًا عميقًا، وأحدهما في حضن الآخر. استيقظت مارغريت خلال الليل، ارتدت ثيابها، وغادرت الشقة.
وهي تقطع ساحة الجمهورية في الاتجاه النقيض، رأت ماريان بين الظلال و، من جديد، ظنت أنها ترى نفسها فيها. ربما كان التمثال تمثالها، ومع ذلك لم تكن سعيدة أن تكون رمز الإرادة الدموية والحرية الشعبية. لأنها، بعد كل هذا، ظلت قلقة وحزينة.
كان عليها أن تجد ابنتها.


يتبع القسم الثاني3