موقع التراث فى مستقبل الثقافة العربية: ( 2 : 5 ) الآثار الثقافية لسقوط الاتحاد السوفيتى


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4794 - 2015 / 5 / 2 - 17:15
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

سقط الاتحاد السوفيتى والنظم الشيوعية فانهارت معه الملامح العامة للثقافة العتيدة للماضى والحاضر ، وبدأت ملامح جديده لثقافة الغد التى ستشكل الحركة الثقافية للقرن الحادى والعشرين .
ان الاتحاد السوفيتى يمثل أهم ظاهرة فى تاريخ القرن العشرين ، سواء فى قيامه وازدهاره وسقوطه أو فى دلالته على سقوط مرحلة ثقافية وبداية مرحلة أخرى .
سقوط الاتحاد السوفيتى : -
1 ــ لنتخيل مؤرخا يعيش فى القرن الحادى والعشرين يؤرخ لقرننا العشرين , وهو يتوقف بالدراسة والتحليل لأهم ظاهرة فى القرن العشرين ؛ قيام الاتحاد السوفيتى وتاثيره الضخم فى العالم ثم سقوطه الدرامى ، وآثار ذلك السقوط .
2 ــ ونتوقع من ذلك المؤرخ فى القرن القادم أن يتعجب من الظروف الفريدة لقيام وسقوط الإتحاد السوفيتى. فذلك الاتحاد أوجد صيغة للتحالف بين قوميات وثقافات ومناطق متباينة ، وكان الدين الذى توحدوا على أساسه هو الماركسية اللينينية . ثم مالبث أن نهض ذلك البنيان الضخم ممثلا للقوة الشرقية العالمية فى مواجهة القوة الغربية الرأسمالية ، وأسهم معها فى تشكيل سياسة العالم عدة عقود . ثم سقط فجأة بعد سبعين عاما فقط و بصورة أغرب من الخيال . وبعض الشركات الرأسمالية تظل على قيد الحياه مائتى عام وأكثر.
ثم أنه سقط أو انهار ودخل متحف التاريخ دون أن يطلق عليه أعداؤه الرأسماليون طلقة رصاصة واحدة , وهو الذى كان يخيف العالم بما لديه من مخزون سلاح استراتيجى قادر على إبادة الحياة الأرضية مئات المرات . ثم إن الذين أسقطوه هم أنفسهم الذين ورثوه .الذين أسقطوه كانوا من غلاة الشيوعيين ، وما لبثوا أن تحولوا الى النقيض يلعنون الشيوعية ويرتمون فى أحضان الرأسمالية . أى أنهم غيروا الإتحاد السوفيتى، ولكنهم بقوا فى مناصب القيادة فى الدول التى ورثت الاتحاد السوفيتى .
3 ــ ومؤرخنا فى القرن القادم ربما تكون لديه وثائق وحقائق يكشف بها ما كان مستورا فى عصرنا، وربما يعرف أن حركة الأرصدة المالية المهربة من الإتحاد السوفيتى لصالح الرفاق الكبار هى الحركة الحقيقية التى سار بها الاتحاد السوفيتى الى مقبرته .
إن مؤرخنا فى القرن القادم ربما ستعفيه تلك الوثائق من التعمق فى التحليل والتفكير. ولكننا مضطرون لتحليل ظاهرة الاتحاد السوفيتى وسقوطه السريع الدرامى , وارتباط ذلك بمستقبل الثقافة العالمية التى ستشكل عقلية مؤرخنا فى القرن الحادى والعشرين .
لماذا سقط الاتحاد السوفيتى
ونبدأ بسؤال عام . لماذا انهار الاتحاد السوفيتى هكذا سريعا ؟
1 ــ الإجابة تكمن فى أيدلوجية البناء السوفيتى نفسه ؛ النظرية الشيوعية . تلك النظرية التى لا تصلح لتأسيس دولة عتيدة تستمر ردحا طويلا من الزمان . والسبب أن النظرية الشيوعية هى مجرد رد فعل وليست عنصرا فاعلا مؤثرا فى حد ذاته . وحركات رد الفعل تصلح للغضب والثورة ، وقد تؤسس دولة ، ولكن قيام هذه الدولة واستمرارها رهن بقوة الدفع الكامنة فى رد الفعل , أى فى استمرار الغضب والانفعال والحماس .. فإذا برد الإنفعال وتراجع الغضب وجاء أوان تحقيق الآمال ظهر العجز وانهار البنيان فى داخل النفوس وازداد اعتماده على القسر والكبت والقمع . مما يؤدى فى النهاية إلى عجز النظام عن حماية نفسه فينهار فى أرض الواقع ..
والغضب عمره قصير. وباستعمال العسف والقمع يتم دق المسامير فى نعش النظام القائم . وذلك فصل الخطاب فى قيام الاتحاد السوفيتى وانهياره .
ولكن الأمر يحتاج الى تفصيلات أكثر تكمل الصورة . وتعطى أبعادا أخرى للأثار الثقافية لسقوط الاتحاد السوفيتى .
2 ــ فى فترة التكوين كان الستار الحديدى هو الدستور العملى . وأثناء عزلة الاتحاد السوفيتى صبغ الولايات الخاضعة له بالصبغة الشيوعية بالقسر والعنف وجرت مذابح وحركات إبادة جماعية وثقافية لشعوب وقوميات لتنصهر قهرا فى الدين الشيوعى الوافد . وارتبط هدم القديم ببناء الدولة الجديدة اقتصاديا وإداريا وسياسيا . وبعد أن اكتمل البنيان اتجه الاتحاد السوفيتى الناهض للخارج يواجه العالم الرأسمالى وقائدته أمريكا، فدخل العالم مرحلة الحرب الباردة والتسابق على التسليح الاستراتيجى . ودخل الاتحاد السوفيتى فى هذه المرحلة بداية النهايه .
فالولايات المتحدة الأمريكية أرهقت الاتحاد السوفيتى بسباق تسلح يفوق إمكاناته ويعطل خططه الإنتاجية وأحلام مواطينيه فى الرخاء بعد الشقاء , وأصبح السوفيت مهتمين بإنتاج احدث نوع من الصواريخ أكثرمن إهتمامهم بزراعة القمح وانتاج الزبد والضروريات المعيشية للشعب الكادح الجائع . وفى النهاية أصبح الاتحاد السوفيتى بكل امكاناته الزراعية الهائله يتسول القمح . وما أغنت عنه ترسانته النووية شيئا . إذن كانت القنبلة القاصمة هى سباق التسلح مع أمريكا الذى يفوق قدرة السوفيت . ولكنها لم تكن القنبلة الوحيدة .
3 ــ إذ وجهت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلة أخرى أشد فتكا ، لأنها اتجهت إلى عقل المواطن السوفيتى أساسا ؛ كانت قنبلة ناعمة مثيرة وبالألوان الطبيعية ، أنتجتها مصانع هوليوود وقصفت بها العقول السوفيتية البسيطة عبر شاشات السينما والتليفزيون وميكروفونات الاذاعة , وذلك بعد أن انتهى السور أو الستار الحديدى ، وأصبح بإمكان الشعوب السوفيتية أن تشاهد الافلام الأمريكية . كانت الافلام الأمريكية هى القنبلة الناعمة المثيرة التى أجهزت على الشخصية السوفيتية وعقيدتها ، إذ صورت الرأسمالية على أنها النعيم والجنة الموعودة بكل ما تزخر به الأفلام الامريكية من جمال فى الصورة وإبهار فى المناظر وانطلاق فى التعبير وجرأة فى الافكار، وما للمؤلف والمخرج من آفاق رحبة فى التعبير والتصوير والإبداع .
وفى المقابل فإن الفنان السوفيتى كان يجد أمامه عشرات المحاذير فى الرقابة وعشرات التوجيهات التى تكبل حركته وتقيد انطلاقه , وفى النهاية لن يكون إلا مجرد أداة للدعاية الخطابية المباشرة فى الدفاع عن النظام الشيوعى. ولأن النظام الشيوعى قد عجز عن توفير الرخاء بل المطالب الأساسية للمواطن السوفيتى فى الغذاء والمسكن الملائم ، ( بينما يعيش القادة السوفيت فى ترف يفوق بليونيرات العالم الرأسمالى ) ، ولأن المواطن السوفيتى يعانى مع الفاقة الكبت والقهر والاستبداد ومصادرة حريته فى التعبير ــ فإنه بالتالى لن ينظر إلى السينما والدراما السوفيتية إلا على أنها أدوات فاشلة لتجميل نظام يكرهه ولا يستسيغه . وبالتالى فإذا أتيحت لذلك المواطن السوفيتى الفرصة لأن يرى الأفلام الأمريكية الرأسمالية بكل ما فيها من إبهار وجمال وروعة فإنه لن يتوانى فى الاستسلام لها ويتنازل لها طائعا عن عقله وقلبه ومشاعره ، ويعيش معها بوجدانه ويتخيل فى أحلام يقظته انه يعيش في عالمها المسحور ، فإذا عاد للواقع السوفيتى الكئيب ــ بما فيه من كبت وقمع وحرمان وشعارات فقدت بريقها ومضمونها ــ إزداد سخطا وثورة . ولأن القانون السوفيتى يمنع الإضراب ولأن السجون فى انتظار أى همس ساخط فإن الحل المتبقى هو التكاسل فى الإنتاج ، ومحاولة التدمير والسرقة ما أمكن .
وبذلك إنهار البنيان السوفيتى من الداخل . تباطأت فيه آلة الإنتاج رويدا رويدا حتى عجز النظام السوفيتى عن توفير لقمة الخبز وقطعة الزبد وكوب اللبن . واتضح أن سلاح القمح قد يكون أشد فعالية من ترسانات الأسلحة الاستراتيجية .
الآثار الثقافية لسقوط الاتحاد السوفيتى :
1 ــ مفكرو اليسار هم أكثر الناس اعتزازا بلقب المثقف ، والمثقفون كانوا من أعمدة اليسار ومروجى أفكاره . إنهم تلك الطائفة المتعلمة من الطبقة الوسطى أو من وصل بهم التعليم إلى الصعود من أصولهم الريفية والشعبية إلى الطبقة المتوسطة وأصحاب الوظائف الحكومية . أولئك المثقفون اليساريون ـ فى أغلبهم ــ امتلأت عقولهم بأفكار ناقمة على الرأسمالية التى تحتكر الثروة والسلطة. وكانت الشيوعية هى الجنة التى يحلم بها أولئك المتقفون حيث تتحول الثروة الرأسمالية إلى ملكية عامة ويعيش المجتمع بلا استغلال ويجد الفقراء وأبناؤهم نفس الفرص بالتساوى مع الأغنياء.ارتبط المثقفون باليسار منذ البداية ، وهلل المثقفون لقيام الاتحاد السوفيتى وتزعمه للشيوعية ورعايته للشعوب التى عانت من الرأسمالية . وظل المثقفون أبواقا متحمسة للحركات والنظم اليسارية . وذلك الإرتباط بينهما لابد أن يضع الثقافة فى مفترق الطرق بعد انهيار النظرية الشيوعية وبعد أن فشل النظام الشيوعى على أرض الواقع .
ولذك قامت حركات ثقافية تراجع ما حدث وتحاول أن تحلل أو تفسر أو تبرر أو تبحث عن نظرية جديدة مختلفة . ومن هنا جاء التفكير فى الملامح السياسية والثقافية للغد وللقرن الحادى والعشرين الذى يسرع إلينا بخطواته .وهذه الورقة محاولة للتفكير فى مستقبلنا الثقافى عالميا وعربيا.
2 ــ لقد بات واضحا أن الشيوعية لم تكن سوى عملية جراحية لأصلاح الوجه الرأسمالى القبيح ، وبعد أن تم الإصلاح ونجحت ــ جزئيا ــ عملية التجميل للرأسمالية انتهى دور الشيوعية ، وسقطت بعد أن أدت دورها .
حين ظهر الفكر الشيوعى فى أوروبا كانت الرأسمالية الغربية فى أوج قوتها وحمقها وسيطرتها وعنفوانها وخطاياها . ونجحت الشيوعية فكرا وحركة ودولة فى تنبيه الرأسمالية إلى خطاياها الإجتماعية والإنسانية فى حق العمال والقفراء ، وفى مناخ الحرية الرأسمالى جرت مراجعة نقدية للذات والمنهج ، فكان أن صدرت القوانين التى ترضى العمال وتضمن حياة معقولة للفقراء والعاجزين . وبذلك سحبت الرأسمالية الغربية البساط من تحت أقدام الأحزاب الشيوعية العلنية، ولم تستطع تلك الأحزاب فى الشارع السياسى الغربى أن تهزم الرأسمالية فى معركة مفتوحة مكشوفة وفى صناديق الانتخاب التى لا يعرفها المعسكر الشيوعى فى الأساس .هذا فى داخل المجتمع الرأسمالى .
3 ــ واختلف الأمر فى داخل النظم الشيوعية ، فالحركة السياسية فى اتجاه واحد هو اليسار ، والمعارضة السياسية ليس لها إلا اتجاه واحد هو السجن أو التصفية ، والتهمة جاهزة هى العمالة للرأسمالية . والعمال الذين تاجرت الشيوعية بآلامهم وأحلامهم أكتشفوا أنهم فى وضع أكثر سوءا من أوضاعهم السابقة أثناء سطوة الرأسمالية وحمقها . وإذا كانت الرأسمالية قد قلمت بعض أظافرها وقامت بتحسين أحوال العمال والفقراء فإن النظام الشيوعى أعطى العمال شعارات جوفاء لا تُسمن ولا تغنى من جوع وطالبهم بالمزيد من الانتاج . وإذا كانت الثروة الرأسمالية تملكها طبقة فإن الثروة فى النظام الشيوعى يمتلكها شخص واحد ؛ أى أن رأسمالية الدولة فى النظام الشيوعى تعنى السيطرة لشخص واحد على البلاد والعباد ، ومن يعارضه فمصيره السجن والقتل وبئس المصير ، سواء كان من العمال أومن المثقفين أو السياسيين الشيوعيين . والمحصلة النهائية أن الشيوعية أفلحت فى تهذيب الرأسمالية وفشلت فى تهذيب نفسها . وتلك هى النتيجة الطبيعة لأى أيدلوجية تقوم على رد الفعل ولا تكون فعلا فى ذاتها ..
4 ــ ونقول إنه على المستوى الثقافى فإن دور الشيوعية فى تهذيب الرأسمالية لم ينته .
فالرأسمالية تعتمد على غريزة إنسانية هى حب التملك ، الا أنها تبالغ فيها بالطمع والاستغلال وتنسى أن العدالة مطلب إنسانى طبيعى . وحين تنسى هذا فإن المطالبة بالعدالة تتحول إلى ثورة تهدد التجارة والاقتصاد والمجتمع . وقد تظهر هذه الثورة الاجتماعية فى حركات دموية إجتماعية دينية مثل ثورة الزنج أو حركة الزنج فى العصر العباسى ، وقد تظهر فى شكل أيدلوجية ماركسية شيوعية وتداعياتها كما فى عصرنا الحديث ، والظروف واحدة هى حمق الرأسمالية وتحالفها مع سلطان مستبد ورجال للدين وتركز للثورة والسطة فى جانب مع جوع الاكثرية وهوانها ، مما يعطى الفرصة للناقمين من الثوار والمثقفين فتندلع شرارة الثورة وتحرق المجتمع على رؤوس المترفين فيه . . وأعتقد أن الرأسمالية قد وعت الدرس وفهمته ، فالرأسمالية فى صورتها الجديدة – شركات عملاقة متعددة الجنسيات - تريد من العالم أن يكون سوقا لها فى ظل النظام العالمى الجديد ، وبالتالى فليس من صالحها عودة النظم الشيوعية لتغلق أمامها الأسواق وتقيم فى وجهها الأسوار. وإذا كانت الرأسمالية قد أصلحت نفسها فى بلادها فهى لا تتوانى فى العمل على إصلاح النظم السياسية التابعة لها فى البلاد الأخرى لتقطع الطريق على أى حركة شيوعية فى المستقبل .