بحث في بعض المساوئ الخطيرة للرأسمالية

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4792 - 2015 / 4 / 30 - 22:44
المحور: الادارة و الاقتصاد     

لعلنا نبدأ البحث بأقوال مشهورة لبعض اقطاب النظام الرأسمالي:

ــ "في النظام الرأسمالي يستغل الإنسان أخيه الإنسان، أما tفي النظام الشيوعي فإن العكس هو الصحيح " ...( كين جالبريث ) . وهو هنا يسخر من النظامين بمعنى أن النظم الشيوعية الديكتاتورية تستغل مواطنيها ايضاً ولم تنجح في تحقيق غايات كارل ماركس النبيلة.

ــ "النظام الرأسمالي يقوم على اعتقاد راسخ وعجيب بأن أسوا نوعية من البشر من خلال قيامها بأفعال شيطانية يمكنها أن تخدم الصالح العام للآخرين “... (جون ماينورد كينز) الاقتصادي الانجليزي الشهير والذي أنقذت سياساته المالية العالم من أزمة الكساد العالمي الكبير في مطلع ثلاثينيات القرن المنصرم.

وكينز في مقولته هذه على ما يبدو يتحدث عن الافتراض الأول الذي بنى عليه علم الاقتصاد الرأسمالي الحديث وهو افتراض “الطمع " "Greed Assumption “ ويعني أن غريزة الطمع والأنانية غريزة اساسية في الإنسان لا يمكنه التخلص منها ولهذا فهو يسعى دائماَ لتحقيق احتياجاته ورغباته اللانهائية بأقل مجهود ممكن ودون الاكتراث باحتياجات الاخرين. أو لعله ينتقد نظرية "اليد الخفية" لمؤسس علم الاقتصاد الأسمالي آدم سميث التي يرى فيها أن الانسان في سعيه لتحقيق منافعه الاقتصادية الشخصية يفيد الاخرين رغما عنه أو دون أن يقصد هذا بشكل مباشر لان الكثير من المنافع لا يمكن تجزئتها، فعندما تبني مصنعا لتحقيق ربحا على أموالك المستثمرة فإنك تخلق وظائف للآخرين وهكذا. ولكن الكثيرين يعتقدون أن نظرية اليد الخفية لا يمكنها وحدها أن تحقق العدالة الاقتصادية المنشودة.

ــ وعندما طلب من الكاتب الأيرلندي الشهير برنارد شو أن يضع تعريفاَ للرأسمالية قال مشيراَ إلى لحيته الكثيفة: "انها غزارة في الانتاج " ثم أشار إلى رأسه الأصلع قائلاَ: " وسوء في التوزيع “.

وخلاصة الأقوال المأثورة السابقة هي أن الحافز الرئيسي الذي يدفع الرأسماليين (وربما كل البشر) إلى العمل والإنتاج هو المصلحة الشخصية والرغبة في تحقيق الربح والثروة أيا كانت النتائج. وحتى نكون منصفين فإنه يلزم القول بأننا خلقنا هكذا أي ذوي غرائز متوحشة وأنانيين بالسليقة. والمفارقة العجيبة هنا هي أن خالقنا يطلب منا أن نسلك في هذه الدنيا بشكل مغاير للطبيعة التي خلقنا عليها وإن كان قليل منا ينجح في هذا.

ومن ثم فإن نقد الاساس التي قامت عليه الرأسمالية وهي ان الإنسان جشع وأناني بطبعه غير مفيد بمعنى أن الرأسمالية تعاملت مع الأمر بواقعية ولكن ما يمكن توجيهه من نقد هنا هو أنها لم تحاول بجدية حتى الآن تهذيب هذا الطابع السيئ للإنسان وللنظام الرأسمالي بالرغم من إمكانية هذا من خلال التشريعات والقوانين كما سوف نوضح في هذا البحث.

أولاَ ــ كلمة الرأسمالية " Capitalism “مشتقة من كلمة الرأسمال " Capital “وهو يشتمل على كل وسائل الإنتاج مثل الأرض والموارد الطبيعية والآلات والمعدات ومصادر الأموال السائلة والبنوك .... الخ ، والنظام الرأسمالي يسمح للأفراد بتملك كل هذه الأصول عكس النظام الشيوعي الذي تمتلك فيه الدولة كل وسائل الإنتاج وتتحكم في العملية الانتاجية من خلال التخطيط المركزي وتحديد اسعار كل شيء حتى الأجور .

ثانياَ ــ في النظام الرأسمالي يسمح للأفراد ليس فقط بتملك رأس المال ولكن أيضاَ بالمتاجرة فيه بيعاَ وشراءَ من أجل تحقيق الربح وهم يقومون بعملية المتاجرة هذه في الأسواق المختلفة والتي يفترض فيها النظام الرأسمالي أن تكون حرة تماماَ دون أي تدخل حكومي سوى ما تقوم به السلطات الرقابية من متابعات بغرض منع الغش والتلاعب. وحسب النظرية الاقتصادية الرأسمالية فإنه يفترض أيضا أن يسمح في هذه الأسواق بحرية الحركة للأموال والعمالة وحرية الدخول والخروج في الأسواق وتوفر المعلومات للجميع ويفترض أيضاَ ألا يسمح فيها بعمليات الاحتكار أو التحالفات بغرض السيطرة على الأسعار التي ينبغي أن تتحدد بحرية من خلال تفاعل عنصري العرض والطلب.

والمشكلة هنا هي أن هذه الأسواق ليست حرة تماماَ حيث تتدخل الحكومات فيها من أجل حماية الصناعات والمنتجات الزراعية والعمالة المحلية عند الحاجة وعند اندلاع الأزمات الاقتصادية والسياسية. والتدخل هنا يأخذ أشكال عدة مثل فرض الرسوم الجمركية أو الإعانات المباشرة للمنتجين المحليين أو نظام الحصص والاتفاقيات التجارية التي تمنح بعض الدول الآخرى مزايا تفضيلية على حساب دول اخرى .... الخ
كما أن المتعاملين في الاسواق يلجؤون إلى كل أنواع التحايل للسيطرة على الأسعار وعرقلة دخول منتجين جدد والحد من حرية الحركة لعنصري العمالة ورؤوس الأموال وتدفق المعلومات بالإضافة الى عدم الشفافية وهو ما دفع الاقتصادي الأمريكي الشهير وصاحب جائزة نوبل جوزيف ستيجلتز الى القول بأن الأسواق ليست فقط عرضة لكل أنواع التدخل الحكومي ولكنها تتعرض أيضاَ لعمليات تلاعب كبيرة.

ونخلص من هذا إلى أن الادعاء بأن عملية التوازن في أسواق التبادل المختلفة تحدث بشكل تلقائي بما يحقق مصلحة كل من البائعين والمشترين من خلال حرية حركة الاسعار هو كلام غير دقيق دائماَ ومجاف للواقع الذي تعيشه كل النظم الرأسمالية. ويكفي في هذا أن نذكر أنه إزاء عدم تحقق حالة حرية الأسواق وهو ما نسميه بال “Perfect Market” بشكل تلقائي تم إنشاء منظمة التجارة العالمية “WTO” كسلطة رقابية وتنظيمية هدفها الأساسي مراقبة التزام الدول المختلفة بمبادئ حرية التجارة ومنع تلاعبها أو إصدارها لتشريعات أو إتباع سياسات تخل بهده المبادئ.
وكلنا يعلم كم إخفاقات هذه المنظمة في الجولات المتعددة التي عقدت في الدوحة وكيف أن هذه المنظمة تخضع لنفوذ الدول الغربية الكبرى التي تتفنن في وضع كافة العوائق والقيود على صادرات الدول الآخذة في النمو لمنع دخول أسواقها بحرية ومنافسة منتجاتها.
ونحن هنا أمام تناقض واضح يتمثل في الدعوة إلى ترك الأسواق تتوازن يشكل تلقائي ودونما أي تدخل بينما يتم إنشاء منظمة غرضها الرقابة والتدخل!

ثالثا – إضافة إلى ما سبق فإن عملية التوازن بين العرض والطلب في كافة الأسواق السلعية بالدول الرأسمالية لا تأخذ في الحسبان سوى ما نسميه بالطلب الفعال “Effective Demand” وهو الطلب المدعوم بقوة شرائية، أما ما عدا هذا وبغض النظر عن أهمية السلعة للمستهلكين الفقراء وآيا كان حجمهم فإنه لا اعتبار لهم في قياسات حجم الطلب الفعلي، ومن ثم يمكننا القول بأن عملية توازن الأسواق وتلاقي احتياجات العارضين مع الطالبين ليست كاملة في معظم الأسواق بالإضافة إلى عدم المبالاة باحتياجات من تعوزهم القوة الشرائية.
وبناءا على ما سبق يمكننا هنا أن نقترح تعديل مقولة ديكارت الشهيرة " أنا أفكر إذن أنا موجود " إلى " أنا أملك المال وأتسوق إذن أنا موجود “.


رابعاَ ــ ومن المفارقات العجيبة أيضاَ فيما يتعلق بآليات عمل الأسواق في النظام الرأسمالي هو ادعاء أنصاره الدائم عند إخفاق الأسواق في تحقيق التوازن المنشود أو عند وقوع كساد اقتصادي وانخفاض معدلات النمو بأن الأزمات أو نوبات التراجع الاقتصادي تحدث نتيجة التدخل الحكومي من خلال تشريعاتها المنظمة لعمل هذه الأسواق وينسى هؤلاء أن عمليات التدخل هذه بالتنسيق ما بين الحكومات والبنوك المركزية هي التي أنقذت الولايات المتحدة والعالم كله من تبعات إخفاق الأسواق المالية إبان الأزمة المالية العالمية عام 2008 بعد أن ثبت وقتها عجز آليات الأسواق الحرة عن وقف عمليات الإفلاس الكبرى التي أصابت شركات العقارات والبنوك وشركات التامين والسيارات والأوراق المالية العملاقة في هذه الدول. ومرة أخرى فإنه لولا تدخل الحكومات الغربية وقتها لدخل العالم في نوبة كساد أسوأ من تلك التي مر بها في أوائل الثلاثينات من القرن الماضي.

وللأسف فإن الاقتصادي الكبير ميلتون فريدمان وهو من أكبر دعاة حرية الأسواق بشكل مطلق وأن ينحصر دور الحكومة في حماية الأمن ووسن التشريعات والعلاقات الخارجية، مات مباشرة قبل بدء اشتعال الأزمة المالية العالمية في أواخر عام 2007.

خامساَ ــ من عيوب الرأسمالية أيضاَ سماح السلطات الرقابية بها للمؤسسات المالية بتطوير أدوات مالية معقدة مثل المشتقات المالية وعقود المستقبليات وبيع الديون عدة مرات من خلال ما يسمى بالتسنيد " Securitization " وكلها أدوات غرضها الرئيسي هو المضاربات والمراهنات على أسعار كافة السلع والعملات والأصول المالية وكانت أحد الأسباب الرئيسية وراء الأزمة المالية العالمية عام 2008 وقد سبق أن عرضنا في بحث سابق أسباب اندلاع هذه الأزمة .

ومن الأشياء الطريفة هنا هي مفاخرة البنوك العربية والإسلامية بأنها لم تتأثر كثيراَ بهذه الأزمة نتيجة إحجامها عن الاستثمار في هذه الأدوات، والحقيقة أن بعضها فعل هذا وتعرض لخسائر بالفعل ولكن أغلبية هذه البنوك لم تستثمر بكثافة في هذه الأدوات نتيجة عدم امتلاكها الخبرات اللازمة القادرة على فهم طريقة عمل هذه الأدوات حتى أن آلن جرينسبان رئيس البنك الاحتياطي الأمريكي الأسبق قال إن هذه الأدوات من التعقيد بحيث يصعب وضع تشريعات منظمة لها.
وفي هذا فإننا نستغرب كيف يمكن السماح لأدوات مالية خطيرة ومعقدة إلى هذا الحد بالتداول في الأسواق قبل اختبارها بدقة ومعرفة آثارها كما هو معمول به مع كل السلع الأخرى والأدوية التي يتم اختيارها لسنوات قبل اعتمادها والسماح بتداولها في الأسواق.

سادساَ ــ عندما درسنا الاقتصاد ما بين مصر والغرب كنا ندرس أسواق العمل ونطبق عليها قوانين العرض والطلب والسعر "وهو هنا الأجر" مثلما ندرس أسواق أي سلعة آخرى. بمعنى أنه عندما يزيد عرض العمالة في أوقات البطالة فإنه يمكن للرأسمالي أن يستفيد من هذا بأن يعرض عليهم أجوراَ أقل وننسى أن الإنسان ليس سلعة وأنه كائن حي له أحلامه وطموحاته ومسئولياته الأسرية. ومن قرأ مسرحية وفاة بائع متجول للكاتب العالمي آرثر ميلر يعرف معنى ما أقول، ولا أتذكر هنا أسم الفيلم القديم الذي وقف بطله في النهاية بعد معاناته من قسوة النظام الرأسمالي الذي لا يرحم وقف وهو يصرخ قائلا: أنا لست رقماَ .. أنا كائن حي .. أنا إنسان.

وما نود أن نؤكد عليه هنا أنه من عيوب الرأسمالية الخطيرة هي غياب البعد الإنساني أو الأخلاقي في هذا النظام وإن كانت هناك محاولات جادة الآن في كل الاقتصاديات الغربية لمعالجة هذه المشكلة.

سابعاَ ــ من أحد عيوب النظام الرأسمالي أيضاَ وجود فجوة دخل رهيبة ومتزايدة بين الأغنياء والفقراء وهي مشكلة تهدد بنسف هذا النظام من أساسه كما تنبأ ماركس . وإن كانت نبوءته لم تتحقق حتى الآن وعلى النحو الذي ذكره فإن ثورة المهمشين يمكن أن تنفجر بشكل آخر كما حدث في الربيع العربي والذي تم وأده بقوة السلاح والمال وحدهما إلا أن أسبابه وهي انعدام العدالة الاجتماعية وزيادة نسبة البطالة والفقر والفساد والاستبداد لم تعالج بعد وهو مرشح للاندلاع مرة أخرى بعد أن أوصدت كل أبواب الأمل في وجه الجماهير العربية.
والدول الأوربية وأمريكا تحاول الآن تجنب هذا المصير.

ومن الناحية العلمية فإن مشكلة فجوة الدخل هذه تتعاظم في الغرب الرأسمالي نتيجة وجود خلل بنيوي في النظام الرأسمالي نفسه وهو أن الأغنياء ينفقون نسبة ضئيلة جداَ من دخلهم مقارنة بالفقراء الذين لا يجدون ما يدخرونه عكس الأغنياء الذين يدخرون معظم دخلهم. ومعظم هذه المدخرات تتراكم أو تستثمر في سلع ترفيهية أكثر منها سلعاَ أساسية وبنية تحتية وهو توجه سلبي يزيد من تعقيد المشكلة. والمتابع لما يحدث في الولايات المتحدة يعلم أن الرئيس أوباما يحاول أن يتعامل مع هذه المشكلة بجدية ولكنه يلقى معارضة مريرة من الكونجرس ذي الأغلبية الجمهورية، ومن اللوبي الرأسمالي المسيطر على الإعلام الأمريكي.

وعى سبيل المثال فإن أوباما يسعى إلى سن تشريع لوضع حد أدنى للأجور ولا نبالغ هنا عندما نقول أن هذا هو الأمل الوحيد والواعد في كل الأنظمة الرأسمالية لحل مشكلة البطالة وانخفاض معدلات النمو الاقتصادي واتساع هوة الدخل بين الأغنياء والفقراء لأن مثل هذه السياسات المعتدلة لإعادة توزيع الدخل – كما بينا في بحث سابق لنا – من شأنها أن تؤدي إلى زيادة القوة الشرائية للطبقة المتوسطة وهو ما يؤدي إلى زيادة نسبة الاستهلاك عن طريق زيادة الطلب الفعال ومن ثم زيادة نسبة الاستثمار والتشغيل والنمو الاقتصادي ولا ينبغي أن ننسى ابداَ أن الأغنياء يدخرون ولا ينفقون.

ثامناَ ــ من عيوب النظام الرأسمالي أيضاَ عدم وجود نظرية اقتصادية ذات شأن يمكنها التنبؤ بالأزمات المالية قبل وقوعها ولذلك تتعاقب أزمات الكساد الاقتصادي العنيفة مرة على الأقل كل عقد من الزمان.

وهناك الآن محاولات في الجامعات الأمريكية للاستفادة من العلوم السلوكية لمحاولة التنبؤ بسلوك الأفراد إزاء التطورات الاقتصادية المختلفة بشكل علمي والمصطلح المتداول الآن والذي يدعمه البنك الدولي بقوة هو ال Behavioral Economics أي علم الاقتصاد السلوكي.

تاسعاَ ــ بالرغم من كل ما سبق فإن النظام الرأسمالي نجح في رفع مستوى معيشة الكثير من مواطني الدول الفقيرة خاصة في الصين والهند ولكن الثمن كان فادحاَ حيث زادت معدلات التلوث البيئي في هذه الدول بشكل خطير نتيجة استخدام الوقود الأحفوري مثل الفحم والبترول . ومن زار الصين مؤخراً سوف يلمس هذا على الفور بمجرد خروجه من مطار بكين الضخم.
وما ظواهر الاحتباس الحراري وتلوث الهواء والأنهار والبحار وانقراض الكثير من الحيوانات والطيور واندلاع الحرائق الهائلة في الغابات والأعاصير العنيفة وزيادة نسبة الأمراض الخطيرة بين الناس إلا نتيجة طبيعية للنظام الرأسمالي الجشع الذي يدعو إلى زيادة نسبة النمو الاقتصادي والأرباح بلا حدود وبشكل مجنون وهو ما بات يهدد حياتنا وحياة كوكبنا نفسه.

ولكل ما سبق فقد أصبحنا نتشكك في المبدأ الثاني الذي يقوم عليه علم الاقتصاد السياسي وهو أن الانسان مخلوق رشيد ويتخذ قراراته الاقتصادية بعقلانية.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري