مدام ميرابيل القسم الأول10


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4789 - 2015 / 4 / 27 - 13:21
المحور: الادب والفن     

أمسكتُها من يدها، واستهمتُ كمن يملأ صفحة بالصور في البون الشاسع والعاصي الذي يفصلنا عن الفندق والسعادة. كنا نتبادل بعض النظرات صامتين، من وقت إلى آخر، لندفع عنا بعيدًا، بكل قوانا، كل تعب، وكل الأفكار المضادة. هل نكتب عمرنا باللحظات أم بلحظة؟ هل نجدنا بالأمنيات أم بأمنية؟ تمنت لو يوجد الفندق بعيدًا جدًا لتبرهن لنفسها هِياج شهوتها، في حين بدا لها أنه بعيدٌ بالفعل أكثر مما يجب، فاضطرت إلى ترك صبرها يكدر شعورها. كانت الإرادة في تحقيق ما لا نريد، ما لا نرغب، ما لا يمكن تحقيقه. اختل عقلي، كنت أحبها كثيرًا، كانت وعدي الخلاب، وأنا لهذا كنت أحبها أكثر من أي شيء في الوجود، كموتي كنت أحبها، وكنت أسعى إلى الخلاص بالهرب معها من كل البشر، وحتى بالهرب منا. لم أكن أتطلع إلى المستقبل، والمستقبل كان ماضيًا في يدي القابضة على يدها، ولم أكن أبال بالحاضر، والحاضر كان موجة من أمواج نهر السين السرمديّ. كانت اختصارَ الأزمانِ على خاصرتها، وركونَ العالمِ إلى الهدوء، ولم نكن الهدوء، كنا الصخب القادم للهزيم، العواء الكريم، والأبيض الأسود في حلكة النهار، عندما تغيب الشموس، ولا تبقى سوى شمسنا. ليت أني لم أكن! كل هذا شيء كثير لن أحتمله! كل شيء غدا كثيرًا، غدا كبيرًا، وجودها قربي، لحظاتها معي، دقات كعبها على البلاط الرطيب، وأكثر ما غدا كبيرًا وكثيرًا وبعيدًا فندقي القريب.
أخيرًا وصلنا شارع سان-دُني، وضوء الفجر يبتلع ضوء المصابيح. كانت بعض العاهرات يقفن هنا وهناك، وسماتهن التعبة تبين على وجوههن. نظرن إلينا، ونحن نعبر، بإرهاق وحسد، وهوى الحياة أكثر دناءة من حياة الهوى، في صباح ليلة بيضاء، تهمس باغتباط تخضبه التفاهة الساخرة. ونحن نمر تحت هذه النظرات المنهوكة، الخضراء المزرقة، والفاحصة، أحست مارغريت بالضيق، كما لو كانت في أرض غريبة.
- لماذا اخترت السكن في هذا الشارع؟ وفي فندق، فضلاً عن ذلك؟
ابتسمتُ لها ابتسامة الوُثوق، ونحن نبطئ غير بعيد من عتبة الوُصول.
- لأن الحرية، في أيامنا، لا توجد بالفعل إلا في هذه الشوارع، وسط بنات الهوى. هناك في هذه الشوارع شيء يسري بسلام، على الطبيعة، كما في ساعات الإنسانية الأولى. تصعد المومسات مع زبائنهن، أحيانًا نتلاقى على الدرج، نبتسم لبعضنا، دون خجل، دون كذب، أحيانًا بحرارة، مع هذه الإنسانية البسيطة التي أكلمك عنها، هذه الإنسانية الواقعية والصادقة... شارع سان-دُني، إنه شارع الشبق المحرَّر.
حيتني مومس:
- مساء الخير، موسيو دافيد، أو بالأحرى صباح الخير!
وابتسمتْ بلا مبالاة.
- صباح الخير، أوديت!
- موسيو دافيد؟ همست مارغريت. هذا اسمك؟
لم أجب شيئًا. كدت أنسى أنني لم أزل موسيو هازار (سيد صدفة).
- اسم جميل!
- أنا من اخترته.
انفجرت مارغريت ضاحكة:
- مع أمك، عندما وُلدت؟
العفوية والحيوية اللتان كانتهما هذه الضحكة أعادتا رسم الإخلاص الأول لمارغريت وتذكيري بسعادةِ لُقيتي إياها.
- اخترته عند بلوغي، دومًا ما كنت أريد تسميتي دافيد...
على باب الفندق، حيتني مومس أخرى بابتسامة واسعة، كانت على وشك الرجوع إلى "البيت" هي أيضًا. وهي تُخرج مفاتيحها، نَظَرَتْ إلى مارغريت، وسألتها بصوت حيادي تمامًا:
- هل أنت جديدة، في القرنة؟
احمرت مارغريت خجلاً، وصنعت تلك الابتسامة المسطحة التي نعطيها بلا اقتناع كل مرة نريد فيها التظاهر بأننا لم نفهم شيئًا (أو عندما لم نفهمه بالفعل أو لم نسمعه، ولكن، لسبب أو لآخر، لا نجعل أحدهم يعيده على أسماعنا). ابتسمتُ، بكل رحابة، وكلي افتتان، بينما انطلقت مارغريت، بسعر، نحو الدرج. فتحتُ بابي، وفي الحال، اخترقت الغرفة، وألقت بنفسها على الأريكة، دون أن تلقي نظرة على ما حولها.
- لم تستطع عوني! مهما بلغ الأمر، فالأكثر طرافة تغطيتي بالعار!
نهضت على عجل، وتعرت بفظاظة، وهي تلقي ثيابها على الأرض.
- تعال، الآن! أنا مثل أية واحدة من تلك البنات!؟
أعرف ما تفكرون... كنت أود لو أراكم، أمام هذه الفضولية السماوية الشهية اللذيذة الغريبة العجيبة التي تغلي من سورة الغضب، الجائعة إلى حياتها كما لو لم تحيَ شيئًا من قبل، تقدم جسدها أمامكم بدافع الثورة، الرغبة، الخوف، طعم العدم... لم أكن قويًا بما فيه الكفاية، أنا، على الأقل، للعودة بعض ساعات إلى الوراء، ولأعطي صوتي وحركاتي الطبيعي المستحيل في صوتي وحركاتي منذ البداية. أمام هذه المجمرة اللا مفسرة، لم أكن سوى نَفْثٍ، بعضِ الأكسجين.
دخلتُ بهدوء.
- تَغْطِيَتُكِ بالعار! هي من غَطَّيْتِهَا بالعار. ومع ذلك، أنا واثق من أنها عاتبة على نفسها أكثر منك. لقد عاملتِهَا كأقل مما هو تافه...
وهي تتقدم عارية كاليوم الأول، كان كل شيء يضطرم فيها، ولم تشأ الخلاص من قدرها القهريّ. ظنت أنني أنام مع كل تلك البنات، ورأت نفسها متمردة، رأت نفسها لا مبالية، رأت نفسها تشبههن، رأت نفسها طفلة أمام أمها، وقامت بخطوة أولى نحوي. خَطَّطْتُ كل شيء كي آتي بها إلى سريري، كذبتُ عليها، خدعتُهَا، لم أغمض عيني خلال ليالٍ، وأنا أُعْدِدُ حيلتي، وأنا أتساءل كيف سأقودها حتى فندقي، وبشكل متناقض كل ما فكرت فيه انضاف دون أن ينطرح، ربما عَثَرَ بها الحظ، ولكن، في كل الأحوال، لم تعثر قدمها، وقامت بخطوة ثانية نحوي... هي، لن تكون مومسًا، ستكون عشيقتي، فخري، ظَفَرِي، كل حياتي.
دفعتُها –بحذر وارتياب ربما- فتشبثتْ بي لاهثةً، ونظرتُها نظرةُ المجنون واليائس. حاولتُ لثانية أن أسندها، غير أن تلك الأنفاس السحرية لشهوة مارغريت المتعذر كبحها اختطفتني مني، وجعلتني كالشاطح المنذهل النشوان المنتشي. تركتني أترنح، وأسلمتُ نفسي للمتعة المتفجرة لهذا الجسد المتشذِّر.


يتبع القسم الأول11