مدام ميرابيل القسم الأول7


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4785 - 2015 / 4 / 23 - 14:07
المحور: الادب والفن     

طار الحب على جناحي الليل، ومزقت كواسر الشمس بمخالبها السماء. تذكرت مارغريت مساء الأمس، فتنهدت من أعماق قلبها، والقطار يذهب بها إلى المصنع، وطريق العمل لا يفضي إلى شيء آخر غير العمل، كدوامة محكمة الأبعاد. توحدت وجوه الركاب الكابية بأخوة صفراء شاحبة اللون، بعد أن تركت لليل الساعات الساخنة للأمل، وشكلت التعبير الإيجابي والعملي لنهار جديد من العمل، سيُصلح بطريقة قويمة انحرافات الليل.
نزلت في محطة شامبينيي، وأخذت الباص 208 إلى المنطقة الصناعية حيث يوجد مُجَمّع السيد هنري. كانت عيدًا للقربان، مارغريت، وعَبْرَ الزجاج الأخضر المزرق للباص، بدت الشمس كماكينة بيضاء، وهي تطبع قطرات المطر الجافة المختلطة بالرمل على وجهها. كان نهر المارن في خُرْمِهِ ساكنًا كبحيرة ميتة، وأشجار الصفصاف واقفة لا تقطع الفصول، ولم يكن بالإمكان أن تُرى على صفحته غير الأوراق الراقدة. ترك الباص قنطرة المارن، وتجاوز دار البلدية. تباطأت حركة السير، وعلت منبهات السيارات الساخطة. رأت نفسها بعين الغيظ بين ذراعي الرجل الغريب، فهل كانت هي؟ هي؟ عاد نهر السخط إلى مجراه. لا، لن تكون شيئًا آخر غيرها، مدام ميرابو، العاملة في مصنع الثري موسيو هنري، حيث ينسى الكل نفسه، حيث يجهل كل واحد الكل، ويجهل نفسه. كانت مصنوعة لطريق الأشواك، ولأخطار الآلة. من أحسن منها؟ وهرب حلم مساء الأمس في الظل إلى الظل لأن ضعفها كان حقيقتها الوحيدة. حتى أنها ستعود على التأكيد إلى زوجها، كي يضغطها بين ذراعيه، كي يأخذها على كتفيه، كي يجفف دموعها، ويجعل منها شخصًا قويًا. ستستعيد ابنتها، وستعيش طوعًا أو كرهًا عيشة من يقطع الأيام بلا نهاية. كان لآنييس من العمر خمسة عشر عامًا، لم ترها منذ عام تقريبًا، منذ الانفصال. وضعتها في دير، في بور-روايال، لتكبر بعيدًا عن مشاكلها، ثم، بعد أن تعودت على العزلة والحرية، في صحراء الأنانية التي كانت حياتها، فكأنها هجرتها. الآن تكبر ابنتها بعيدًا عنها...
أخيرًا توقف الباص، وسارعت الأجساد التي يشق عليها العمل نحو البوابة الحديدية الكبيرة.
- مارغريت!
كانت جوزيان الصغيرة، امرأة قصيرة جدًا وسمينة جدًا تعيش في المُفرزات العمالية إلى جانب المصنع، وكانت المسكينة، وهي تركض، تتأرجح كالبطة البدينة.
- صباح الخير، يا مارغريت!
- صباح الخير، يا جوزيان الصغيرة! وإذن! أسكن في باريس وأصل في نفس الوقت وإياك!
- آه! لكن أنت لديك هموم أقل، وعليك ألا تركضي من وراء أحد. أنا، لدي البنات، الأولاد، الأدوية، بسبب حساسيتي... ألم اقل لك؟ ذهبت لرؤية الطبيب، وقلت له ما عندي، أجرى لي تحاليل، وبعد ذلك، أتعرفين ماذا قال لي؟ إنها ليست حساسية، إن لا شيء عندي، إنها ليست حساسية إطلاقًا. العمى! لربما يظن أنني لا أعرف مم أعاني!
- أوه! هو طبيب مع ذلك...
- وحساسيتي؟ ليس هو من عليه احتمالها. أنت لا تتصورين... وقال أشياء كثيرة عن الحساسية النفسية-لست-أدري-ماذا، لكني أنا أعرف ما عندي.
دخلتا المصنع.
- ليست كحساسية من شعر الكلاب أو القطط، ليست كحساسية مثل هذه، لكن عندي حساسية، هاه؟ تحكني مرات، تحكني من كل مكان، أنت لا تتصورين! زد على ذلك، حسنًا، وعدني، مع ذلك، بإجراء تحاليل أخرى، لأنها إذا كانت حساسية، فسيبدو ذلك، أما أن يفكر في أنها ليست كذلك... سترين.
لبستا بزة العمل، وغطتا شعرهما، ووضعتا قناعًا على وجههما، وانفصلتا بإشارة من الرأس. سالت أنهار العسل في قنوات واسعة، وهي تتموج، وتتوهج، وتتدوم، إلى ما لا نهاية، وانصبت في صواعات شفافة. كانت مارغريت تراقب الصواعات الممتلئة، وتسوي مستواها عند الحاجة، وبعد ذلك، كانت جوزيان الصغيرة تغلقها، هناك غير بعيد، على السجادة المتحركة. كانت بقبقة العسل الذي يغلي في المراجل، في الناحية الأخرى من المصنع، تختلط بالضجيج الحاد للمحركات التي تقذف الإكسير في موجات سميكة، مما كان يتطلب قوة هائلة لدفعه في القنوات.
في ساعات الشك تلك، والضغط الحقيقي لوجودها المادي، كانت في الواقع امرأة عادية. كانت ترتدي بزة عمل، ككل الأخريات، وتغطي شعرها بعناية. كانت تقوم بأفضل ما تقدر عليه، وكانت لها هيئة جادة. ثم، كانت تقضي وقتها في عد الوقت الذي تبقى لها قبل طعام الغداء أو نهاية اليوم، والوقت يمضي ببطء. أحست بالصداع و، ككل مرة، فكرت في أن تطلب من رئيسها نقلها إلى مصنع آخر من مصانع السيد هنري، أكثر هدوءًا، حيث تستطيع خاصةً إطلاق شعرها، وقليلاً نسيان كل هذا العسل الذي يلتصق بأصابعها وبحياتها. تعبئة القناني بالنبيذ مثلاً، أو بالأحرى ملء الأكياس بالفواكه الجافة، اللوز، إذا ما حالفها الحظ.
عند منتصف النهار، لم تتحرك جوزيان الصغيرة من مكانها.
- وإذن، ألا تأتين للغداء؟ سألتها مارغريت.
قالت جوزيان لا برأسها، فوق عنقها الخفيّ إلى درجة يتساءل المرء فيها إذا ما كانت تريد أن تبعث فيه بعض الحيوية بكل بساطة.
- لا تريدين أن تأكلي؟ لستِ جائعة؟
- لا، عندي ساعة إضافية. تعرفين؟ لأجل الأولاد، أجابت بعصبية، وهي تخضخض رأسها إلى اليمين وإلى اليسار. تساعدني جوزيت قليلاً في تنظيف البيت، لكن لتجد عملاً، لا تريد ترك المدرسة، ف...
انسحبت مارغريت ، وهي تسحب شالها، وأخذت من الهواء نفحة. كان زكيًا هذا الهواء العليل، ولا يكفي أبدًا بالقدر الذي تأمله. اتجهت إلى الكشك، وانتظرت برخاوة دورها لشراء ساندويتش جبن بالزبدة وزجاجة عصير. خلف الكشك، كانت الشاحنة المصفحة للنقود هناك، عند ساعة الغداء كالعادة، كما لو كانت تحتقر العمال المغبونين في حقهم، وهم يقذفون قطعهم النقدية في ماكينات توزيع الساندويتشات والشراب، والتي سيذهب بها الوحش شبعان خلال عدة دقائق. ذهبت تجلس على مقعد في زاوية، ومن أمامها مدينة الغابة "لابيه"، مدينة العمال، الأشبه بركام من العلب الموضوعة هناك بالصدفة بعضها على بعض. كان يُلقى فيها ما يقارب ألفي عائلة من عمال مصانع هنري الثاني وهنري الرابع... أما هي، فهي لا تعمل ساعات إضافية، ولا تضحي بنفسها. عادت تفكر في آنييس، وتتأوه، وهي تنظر إلى ساندويتشها بلا شهية. ستذهب إلى رؤيتها قريبًا جدًا، كانت ابنتها. وهي تفكر فيها، لم تعد تعرف نفسها في هذه المرأة المتقلبة الأطوار التي تركت نفسها مساء أمس تسقط في الدعارة بدلاً من الذهاب لزيارة ابنتها، طفلتها، كالأم الجديرة بأمومتها مثلما ستكون من الآن فصاعدًا.
أكلت غصبًا عنها، ثم تمشت قليلاً في الضوء المغبر للخريف، والخير يستعصي عليها، فالشر جميل، على الأقل كما تفهمه، كما تفعله. وهي غائبة مع أفكارها، مضت قربها سيارة السيد هنري الرولس رويس السوداء.
- توقف!
أطاع السائق.
انساب الزجاج الملون تلوينًا خفيفًا، وكشف عن وجه السيد هنري المبتسم ابتسامًا رائقًا، وقلبه يخفق بقوة قوية.
- ألف معذرة، مدام! كنا على وشك أن نقلبك، أليس كذلك؟ ولكن كذلك، كيف تذهبين من هنا دون أن يكون أحد بصحبتك؟ هل يمكن لامرأة فتانة مثلك ألا تجذب كل أنظار هذا المُجَمّع؟
ما هو اسمها؟ و، كم هو غريب أمرها، تذكره بامرأة عرفها في الماضي البعيد! تكلم معها بتلقائية، كما لو كان يتكلم مع صديقة، وباطمئنان، كما لو كان يعلم أنها تأمل هذه اللحظة منذ أعوام بحُمَيَّا المتدين. فجأة، تساقطت الحجارة على مقدمة السيارة، وإحدى العاملات تسب السيد هنري، وتصرخ بوحشية مطالبة بحقوقها، حقوق لم يوفق إلى فهم ما إذا كانت اجتماعية أم نقابية أم شخصية أم ثأرية. وبسرعة، غادرت السيارة، ومارغريت بيديها المفتوحتين في حركة بلا جدوى لم تفه بكلمة. انقض الحرس الخاص على المتمردة، وذهبوا بها إلى حيث لا يعلم أحد إلا الله. إلى تلك الزنزانة التحت الأرضية ربما، حيث، كما يقال، يجيء السيد هنري بالعمال الذين يختارهم بدقة. تخيلت مارغريت نفسها بين الذراعين البدينتين للمعلم الكبير، وهو يسيء معاملتها، وابتسمت متحيرة مبتهجة لهذا الحب العنيف، الأليم، الاختياري.
تدفقت دقائق ما بعد الظهيرة كمشروب روحي، وعما قليل كعسل مرصود للملائكة. لقد أوقف السيد هنري بنفسه سيارته، وسأل عن اسمها. كانت لها هيئة غبية بالتأكيد، وكانت تنظر إليه كما لو كان قادمًا من كوكب آخر. لم تفه بكلمة، وبقيت فاغرة الفم كمراهقة. ولكن من المؤكد أنها ستجيبه عما قريب: "مارغريت ميرابيل، صانعة العسل!" وستميل قليلاً، دون أن تتوقف عن النظر إليه، ولن يعود هناك ما هو مبهم. أو ربما، ستخفض بالأحرى عينيها؟ لقد سأل السيد هنري عن اسمها... ودفعة واحدة، بدا كل ما حلمت به دومًا على مرمى يدها.


يتبع القسم الأول8