منذ المتوكِّل وحتَّى يومنا هذا


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4785 - 2015 / 4 / 23 - 06:35
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

جاء المتوكِّل إلى سدّة الخلافة، في عاصمة العبَّاسيين (بغداد)، بعد ثلاثة خلفاء تبنّوا مذهب المعتزلة – الذي كان يعلي مكانة العقل، ويشجِّع التفكير الفلسفيّ، ويهيِّئ مناخاً مؤاتيا لتنمية المعرفة وازدهار العلوم – وجعلوه المذهب الرسميّ للدولة. فازدهرت في عهدهم العلوم والأفكار الفلسفيَّة والترجمات عن اللغات الأخرى، وخصوصاً عن اللغة الإغريقيَّة.

كان أولئك الخلفاء الثلاثة هم: المأمون والمعتصم والواثق. وبخلافهم، كان عهد المتوكِّل (847-861 م) هو مفتتح ما عُرِفَ بعصر الانحطاط الذي تردَّت فيه أحوال الأمّة منذ ذاك. فما إنْ تولَّى المتوكِّل السلطة حتَّى «أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل والترك لما كان الناس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد. وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة» (كما يقول المسعوديّ).

وقد شنَّ المتوكِّل حرباً شعواء على المعتزلة وأصحاب الاجتهاد والعقل. وبالمقابل، قرَّب إليه أحمد بن حنبل وكرَّمه. في حين كان ابن حنبل في عهد الخلفاء الثلاثة السابقين محارَباً مضطهَداً؛ فإمّا هو رهين السجن أو رهين الإقامة الجبريَّة والاعتزال القسريّ للناس؛ الأمر الذي عُرِفَ بـ«محنة ابن حنبل». والمفارقة، هنا، هي أنَّ المتوكِّل أنهى ما سُمِّي «محنة ابن حنبل»، وأدخل الأمَّة كلّها في محنة.. مِنْ يومذاك وحتَّى يومنا هذا.

«وفي سنة خمسٍ وثلاثين ألزم المتوكِّل النصارى بلبس الغل. وفي سنة ستٍّ وثلاثين أمر بهدم قبر الحسين، وهدم ما حوله من الدور، وأن يعمل مزارع، ومنع الناس من زيارته، وخُرِّبَ وبقي صحراء». [الإمام جلال الدين السيوطيّ – تاريخ الخلفاء – ص 347]

ويقول علي الورديّ في كتابه «وُعَّاظ السلاطين» [الطبعة الثانية، الصادرة عن دار كوفان عام 1995]:

«لا مراء أنَّ المتوكِّل كان مِنْ أظلم الخلفاء ومِنْ أكثرهم عربدةً ودناءةً وسفكاً. وقد سمَّاه بعض المستشرقين (نيرون الشرق)».

لكنَّ أنصار التشدّد الدينيّ – في زمانه وما بعده – بجَّلوه كثيراً وأشاعوا حوله الكثير من القصص التي تتحدَّث عن بركاته وكراماته. لأنَّه، برأيهم، «أظهر السنَّة بعد البدعة».

ويقول الورديّ، أيضاً، في كتابه الذي سبق ذكره:

«وممّا تجدر الإشارة إليه أنَّ مصطلح [أهل السنة والجماعة] لم يظهر في التاريخ إلا في أيَّام المتوكِّل».

بل إنَّ عهد المتوكِّل – بحسب الورديّ، أيضاً، وفي كتابه ذاك نفسه – قد أسَّس لما هو أخطر مِنْ ذلك وأشدّ ضرراً؛ حيث:

«كان خلفاء بني العبَّاس، قبل المتوكّل، يبذلون جهوداً طائلةً في سبيل جذب الفقهاء وأئمّة الدين إليهم فلم يفلحوا – كما رأينا جاء المتوكِّل فاستطاع بضربةٍ واحدةٍ أنْ ينجز ما لم يقدر الدهاة قبله على إنجازه. لقد افتتح المتوكِّل عهداً جديداً في تاريخ الإسلام حيث صار الدين والدولة نظاماً واحداً. وأخذ الدين يؤيِّد الدولة بقلمه، بينما أخذت الدولة تؤيِّده بسيفها. ورفع الناس أيديهم بالدعاء هاتفين: "اللهمَّ انصر الدين والدولة". نزل الدين بذلك – ولم ترتفع الدولة.»

وفي هذا السياق، نفسه، قيل إنَّ المتوكِّل اشترك في تأليف كتاب «الدين والدولة» مع مؤلِّفه عليّ بن ربن الطبريّ. [مِنْ كتاب «أحمد بن حنبل والمحنة» - ولتر ملـﭬـيل ﭘاتون – ترجمة عبد العزيز عبد الحقّ (ص 12، وتحديداً، مِنْ المقدِّمة التي وضعها المترجم للكتاب)].

أمَّا في ما يخصّ الأئمة والمحدثين، فقد كانوا قبل المتوكِّل يحرصون على الابتعاد عن السلطة ورجالها؛ لكي لا يُطعن في صدقيَّتهم. جاء في المرجع السابق نفسه («أحمد بن حنبل والمحنة» ص 64 – 65) ما يلي:

«فإنَّ تقاليد المحدثين في القرن الثالث الهجريّ كانت تقضي بمقاطعة كل محدث يتصل بالأمراء أو يتقلد من السلطان عملاً، إذ إن هذا يجعله متهماً في روايته»

وهنا، أعود إلى قول علي الورديّ «نزل الدين بذلك – ولم ترتفع الدولة»، فأسمح لنفسي بإجراء بعض التعديل عليه، فأقول: ليس الأمر أنَّ «الدولة لم ترتفع»، فقط؛ بل الصحيح هو أنَّها شرعتْ بالهبوط المتسارع أيضاً، منذ ذاك. وهو ما يدحض الوهم السائد، الذي تشيعه في أيَّامنا هذه فصائل «الإسلام السياسيّ»، عندما تزعم بأنَّ الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة والدولة العظيمة التي قامت تلك الحضارة في كنفها، كانا مِنْ نتاج سلطة جعلت «الدين والدولة نظاماً واحداً»، وأنَّ الأمّة انحطَّتْ وضعفتْ عندما تخلَّتْ عن تلك الصيغة السياسيَّة الدينيَّة الخاصَّة.

على النقيض مِنْ ذلك، فإنَّه عندما أصبحت «الدولة والدين نظاماً واحداً»، بعد انقلاب المتوكِّل على مذهب المعتزلة، لم يكن الفكر والعقل ومكانته هي وحدها الضحيَّة، بل أيضاً قوَّة الدولة وتماسكها ومهابتها؛ فمنذ ذاك بدأتْ الدولة بالتفكّك والاضمحلال، وراح أعداؤها يتجرَّؤون عليها ويقضمون أشلاءها.

أتذكرون «وامعتصماه!»؟ (طبعاً، في كتب التاريخ المدرسيَّة وفي الروايات التاريخيَّة الرائجة، يغفلون حقيقة أنَّ المعتصم، مثله مثل أخيه المأمون وابنه الواثق، كان معتزليّاً). ولكن، الأهمّ مِنْ ذلك، هو حقيقة أنَّ الدولة التي كانت تذود عن جميع ثغورها بحزم واقتدار في عهد المعتصم (والد المتوكِّل) والمأمون (عمّه) والواثق (أخوه)، كما تلخِّص ذلك القصَّة الشهيرة عن الحملة التأديبيَّة التي شنَّها المعتصم على الروم عندما اعتدوا على «عمّوريَّة» والتي خلَّدها أبو تمَّام بقصيدته الشهيرة – لم تعد كذلك، منذ جاء المتوكِّل إلى السلطة و«أمر بترك النظر والمباحثة في الجدل والترك لما كان الناس عليه أيَّام المعتصم والواثق، وأمر الناس بالتسليم والتقليد. وأمر الشيوخ المحدثين بالتحديث وإظهار السنة والجماعة».

الروم، أنفسهم، الذين أدَّبهم المعتصم في واقعة عمورية، قاموا بغزوٍ مفاجئ لأراضي الدولة العربيَّة الإسلاميَّة، مِنْ جهة دمياط، في عهد المتوكِّل (سنة238 هـ)، وقتلوا الكثير من أهلها، وحرقوا مسجدها، وأسروا نحو ستمائة امرأة مِنْ نسائها، وأخذوا الكثير من المال والسلاح والعتاد، وفرَّ الناس أمامهم هلعين، وبعد ذلك تمكَّن الجنود الرومان من العودة إلى بلادهم منتصرين.

وبعد ثلاث سنوات، عاد الروم فغزوا ثغراً مِنْ ثغور الدولة العبَّاسيَّة كان يُسمَّى «عين زربة» في تركيا، في منطقة كان الرشيد قد حصَّنها، وأسروا مِنْ هناك بعض النساء والأطفال، واستولوا على بعض المتاع.

بل إنَّ الأحباش جرَّبوا حظَّهم، هم أيضاً، مع دولة المتوكِّل، فهجمتْ جماعة منهم كانت تُعرَف باسم «البجة» على منطقة في النوبة في مصر، وأسرتْ بعض نسائها وأطفالها، وكرَّرتْ ذلك مراراً وتمادتْ فيه إلى أنْ بلغت الصعيد، قبل أنْ تلقى ردّاً متلكِّئاً مِنْ جيش المتوكِّل.

تجدر الإشارة، هنا، إلى أنَّ المتوكِّل وُلِدَ مِنْ أُمٍّ تركيَّة، وفي عهده ازداد نفوذ الأتراك وسيطرتهم على مقاليد الدولة. ومع ذلك، فقد كانت نهايته على يديهم، هم بالذات. يقول السيوطيّ: «اتَّفق الأتراك مع المنتصر (ابن المتوكلِّ) على قتل أبيه، فدخل عليه خمسة وهو في جوف الليل في مجلس لهوه، فقتلوه هو ووزيره الفتح بن خاقان، وذلك في خامس شوَّال سنة سبعٍ وأربعين ومائتين». [تاريخ الخلفاء – الإمام جلال الدين السيوطيّ – ص 350]