مدام ميرابيل القسم الأول6


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4784 - 2015 / 4 / 22 - 13:10
المحور: الادب والفن     

وصلتُ بقدمٍ رخوة، من ناحية حَلَبات اللوتس، ورأسي تشوشه آلاف الأسئلة لتطويق هذه المرأة، عندما وضعت مارغريت السيارةُ ذاتُها، بفوارقها الزرقاء، قرب كنيسة سان-ميدار، وعادت إلى حركة المرور لتنشلّ فيها. بعد هيجان قصير، استعاد الليل هدوءه المطلق، وغدا كل شيء عاديًا.
تواريتُ في عينيها، ومارغريت تصعد شارعها بقدمٍ حَرِكَة. كانت حقيقتها تُبنى من الهزيم والهزيز، فيُطمئنها ذلك قليلاً، وتسوي ثيابها. يا لتعاسة الحظ ألا يكون أحد هناك ليفاجئها ويلقي عليها نظرة لحوحة أو كنودة! أخذ قلبها يدق فجأة دقًا قويًا، وكذلك رغبتها في إطلاق ضحكة مدوية، ليس لأن الرجل اقترح عليها نقودًا، ولكن لأنها فعلت هذا معه، ولم يختلط عليها الأمر. ها هي أخيرًا لم تزل هي، وهي، هي أخرى لا تعرفها، تكتسح حواسُّها المضطرمةُ روحَهَا، وتُسْكِرُهَا سهولتُهَا البَدَهِيّة والقهرية. تمنت لو تصيح باكية، من الفرح، من الفوز والهول، من الخوف أمام هذا العالم الشاسع الذي ينفتح لها قليلاً أفضل مما كان عليه، هذا المساء، على شفير الهاوية. من هذا الحب المنتصر في جسدها، وطن الأحاسيس والشهوات، ومن حياتها المُرّة. لو لم تزل أمها على قيد الحياة لهنأتها حتمًا! ولنفكر أنها إلى حد الآن، لم تفهم أبدًا ما كانت أمها تريد منها!
أليس ألا نكون شيئًا في روحنا، ألا نعتقد بنفسنا، بداية أن نكون جسدنا؟ وبكلمة وجيزة، بداية الدعارة، فلا شيء يبقى في الجسد عندما لا يحكمه إحساس آخر غير المتعة. (وألا نعيش إلا بالمتعة، أليس ما ندعوه عامةً الدعارة؟) الشهية، التواتر، القدرة، السلطة، الفسق، مُتَعٌ يولع بها الحيوان الذي فينا، والتي لا نُقر لها بالسيطرة علينا إلا لنُرضي متعة على متعة، متعة عليا نقبلها في عُجْبِنا وخُيَلائنا كمُسَلَّمة طبيعية، ألا وهي الإغواء.
إذن، عند وصولها رقم 69، دخلت، وهي تزفر زفرة عميقة. صعدت بهدوء درجات أبلتها السنون، كيلا توقظ السكان الآخرين، خوفًا عليهم من الهذيانات الحلمية، فيقفون على أمرها، لتجد نفسها أمام زوجها، وهو يشخص ببصره إليها.
- ماذا تفعل هنا؟ سألت. ألم أقل لك بعدم العودة؟
دخل من ورائها دون أن يلفظ بكلمة، فما أحزن المناسبة، لِيُفْرِحَها صوته. وصوتها، هذا الصوت الناعم، في الزمن العادي، صَرَّ قلبُهُ بحدته.
خلعت أسمالها، وألقتها في السلة.
- قلت لك أن تذهب على ألا تعود نهائيًا، فلماذا تعاند؟ اتركني من فضلك.
- وجدتُ عملاً، قال كاذبًا، لا تريدين أن تعرفي ما هو؟
- اسمع، إذا وجدت عملاً، فهذا شيء حسن، سيكون باستطاعتك دفع نفقة آنييس، ابنتك. لكن قل ما هو، بما أنك هنا.
حاول المسكين سباستيان جاهدًا أن يساير ابتسامة مترددة.
- أحبك، يا مارغ...
- آه! فلتذهب! ألا لديك شيء أفضل من مضايقتي؟
- هذا لأني لم أصبح طيارًا؟ أو مهندسًا؟
- اسمع، لقد أخفقت في كل شيء، فماذا تريد؟
- ولكن، ألا تزالين على حبي قليلاً؟
- لا، أنا لا أحبك، أنا لم أحبك أبدًا! وتوقف مع هذا، من فضلك.
- بلى. قبلُ، كنتِ مغرمة بي، وكنتِ تعتقدين بقدر ما أعتقد أننا سنكون الزوجين الفعليين الوحيدين على الأرض.
- طيب، ماذا تريد، في النهاية؟ فلتذهب! دعني وشأني، طيب؟ دعني وشأني.
- كنتِ تحبينني فقط لأني كنتُ غنيًا كموسيو هنري، أليس كذلك؟
- آه! لا، أبوك كان غنيًا، وعلى التأكيد ليس بقدر السيد هنري. وأمي كانت من وراء كل هذا، وإلا أنت تعلم جيدًا أنني لن أتزوجك أبدًا هكذا.
- اسمعي: إذا أردتِ فعلتُ كما كنت تقولين لي: سأقتحم ميدان السياسة أو الدبلوماسية أو سأفتح دكان...
تقدمت من الحمام شبه عارية، فأمسكها، وأحاطها بذراعيه المرتجفتين. خبأ وجهه في كتفها، وأخذ يبكي. قطعت رائحة الرجل الغريب وُثوبَهُ الحيوي، رائحة مني ومياه آسنة.
- من هو؟ طلب، وهو يعلي أنفه ارتيابًا.
- لماذا؟ طلبت، وهي تعلي أنفها تحديًا.
خفض رأسه.
- هل أعرفه؟
- واحد. لا تعرفه... لا أعرفه.
- كيف! هل أصبحت مجنونة؟
- اتركني، الآن! إنها حياتي! تقول إنك تحبني، يمكنك أن تدعني وشأني رغم كل شيء، بعض الشيء، لا يمكنك أن تدعني وشأني؟
لم يتركها، فحاولت دفعه. ألصقها على الحائط، بكل قواه، وغرق بأصابعه في عنقها، ليخنق يأسه. كانت تعلم جيدًا أنها، مهما فعلت، ستبقى حبه الأبدي، أمره المقضي، فسقط على ركبتيه، مكروبًا، مذهولاً، وبقي هكذا بضع لحظات أمام هاتين الساقين الممتنعتين وهذا الجسد المُفْسَد. هو كذلك لم يكن أحدًا –وحتى لم يعد أحدًا، وهذا أسوأ-، وحياة جسده كانت بائسة. أبله وبليد الذهن كان، ولإحساس بأن هذه الطريق دون مخرج، وأنه عاجز عن إيجاد أخرى في الوقت الحاضر، قام، وخرج.


يتبع القسم الأول7