مدام ميرابيل القسم الأول4


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4782 - 2015 / 4 / 20 - 14:18
المحور: الادب والفن     

أعادت ارتداء ثيابها بسرعة لتتحاشى الصمت، وكذلك أعادت وضع حذاء جلد الأيِّل الذي انتحت، والذي فكرت عشرين مرة في تبديله، ونزلت إلى الطريق. ضائعة بين أحلامها، منذ لحظة، وواقعها العضوي المُغِمّ، لم تعد تعلم إذا ما كان عليها أن تمشي فقط لتنسى، أم إذا ما كان عليها أن تواصل الاعتقاد أن مصيرها لم يزل على ظهر الأيام –وتغذ السير إلى الأمام كالأمراء الذين حينما يولدون يغذون السير نحو مجدهم الأبدي والإلهي. عادت تصعد شارع موفتار، وهي تسير على رصيفه الضيق المتعرج الدُّهْنِيّ، بينما يتجلى الليل للعيان كشراع أزرق سميك.
عندما وصلت إلى ساحة المنحدر، أضاءت المصابيح القديمة دهشتها. تناول الملتحي قيثاره، وغنى، كما هي عادته: لا شيء، تعرفين جيدًا، الوقت يمضي... كان المشردون، في زاويتهم، يضحكون، ويشربون، وهم يصاحبون الأنغام بضجيجهم، وأنسام المساء الأولى تتراخى بينهم. ألقت على العازف نظرة أخرى، قبل أن تدخل المقهى القديمة "كأس الجعة". ورجلها المثالي، ذاك الذي كانت تحلم بكونها حبيبته إلى الأبد، رغم أنف الجميع، ماذا لو كان الملتحي؟ هذه الفكرة، المثيرة للسخرية واليائسة، كدرتها أكثر مما كانت عليه.
كالأسرار الأخيرة، كانت القاعة غاصة بالرواد.
- كأس جعة كبيرة، من فضلك.
تظاهر الساقي بالانفعال:
- في الحال، مدام!
رجال عاديون وأثرياء باليأس، فقراء مدقعون ومبقعون بالزيت، شجعان ولا مبالون، فهل ستكون هنا كل حياتها؟ لم يلبث الساقي أن عاد، أدار الكأس متظرفًا ليبدو مستحبًا، وأوقفه واضعًا إياه على المشرب.
- كأس جعة كبيرة للمدام!
شكرته دون أن تنظر إليه، فأنعم النظر في حسنها كما لو كان يراها للمرة الأولى، بينما بقيت تنحني على كأسها. كان بودها، لكن لم يكن لديها ما تقوله لواحد مثله. أو، ربما، الواقع... واحد مثله، من يكون؟ ناداه زبون. وهي تراه يبتعد متواركًا كنادل باريسي حقيقي، رأى كل شيء، وطعم من كل شيء، شربت قليلاً، والتقطت أذنها بعض العلامات الموسيقية. لا، لا الساقي، ولا الملتحي، ولا... دفعت، جرعت كل الباقي، وخرجت. في الساحة، وقفت بين المتسكعين.
كان عازف القيثار يخفض رأسه، ويغمض عينيه، وهو يعزف. كان يلعب دوره كمتسول قيثاري ملتحٍ أحسن ما يلعب... أو، كان يعيش ذاك الروع الغريب لحياةِ-متسولٍ-ملتحٍ-عازفٍ-على-القيثار.
الحقيقة، ما الذي لم تعطه ليكون لها، هي أيضًا، دور تلعبه، ليكون عيشها حياتها في عفويةِ وسلامةِ طَوِيَّةِ روعٍ مثاليٍّ من كثيرٍ يفيض به العالم؟ فيما يتعلق بالتجربة، الثروة مثالية، الشقاء مثالي، لكنها هي، لم تكن شيئًا.
فكرت في الرجوع إلى البيت، لكنها بقيت هناك عشر دقائق، وهي تُدَوّم في رأسها. هل ستذهب لتنام، لترى أحد الأفلام، لتشرب كأس جعة أخرى، لتجرجر قدميها حتى تشبع قدماها من العناء؟ كان الملتحي يغضّن وجهه الرجولي المجعد بألم. كل هذا الجهد لأفضل ألم؟ ما المتعة التي يمكنه أن يجنيها من الغناء دومًا الشيء ذاته؟ هي، حياتها، كانت الشيء ذاته دومًا، وكانت الجحيم. جحيم ساخن كما يجب ورخيّ، عمل ثابت كما يجب وشريف، شقة لها تستطيع أن تنزوي فيها على خاطرها، مقاهٍ على مقربة منها، مطاعم، يونانية في معظمها. جحيم راحة وحرية. انطلقت نحو البانتيون، مجمع الأرباب عند القدماء ومدفن عظماء الأمة (إلى عظيمات الأمة الوطن عارف الجميل، كانت أمها تقرأ، كلما مضت من هناك، على طريقتها، ما هو منقوش على الواجهة، وكانت تُعِزّ مقبرة المجد هذه أكثر من كل شيء). ثم، غاصت في شارع سوفلو، حيث تبعتُهَا، نحو حديقة اللكسمبورغ.
كانت الحديقة على وشك الإغلاق، وكان الحارس يقوم بتفتيشه على دراجته النارية، وهو يزمر بالكلاكسون.


يتبع القسم الأول5