المنهاج الفلسطيني/المحتوى والخصوصية


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4780 - 2015 / 4 / 17 - 19:02
المحور: القضية الفلسطينية     

 
 
المنهاج الفلسطيني/المحتوى والخصوصية
التربية المدنية نموذجاً[1]
وسام رفيدي
مقدمة
يُحتفى بالمنهاج الفلسطيني أيما احتفاء لاعتبار أنه، وللمرة الأولى في تاريخنا، يضع الفلسطينيون منهاجاً لهم، وبإرادتهم وحسبما يرغبون، ودون وصاية، لا أردنية ولا مصرية، ولا تدخل احتلالي فظ، كما الحال سابقاً.
في هذا بعض من الحقيقة وليس كلها. من جهة يحق لنا الاحتفاء بمنهاج يعكس على الأقل أننا شعب يعبر عن استقلاليته، على هشاشتها، بمنهاج خاص لطلبتنا، مثلما عبرنا عن تلك الاستقلالية بتعابير عديدة: م. ت. ف، المؤسسات الوطنية، البرنامج الوطني الاستقلالي....
ولكن من جهة ثانية، فوضع المنهاج، والنظام التربوي ككل، لم يتم، هكذا على الإطلاق، بإرادة لا تشوب استقلاليتها شائبة، ولا كما نرغب، دون تدخل، بل بتدخل لا يقل أحياناً فظاظة عن تدخل الاحتلال، والتدخل أصلاً لم ينتهي، كما التجاوب الفلسطيني مع هذا التدخل، وفي محطات عديدة، قائم.
إن مختلف الإشكاليات التي أحاطت بوضع المنهاج كفيلة بأن تجعل الاحتفالية تخفف من غلوائها. فهناك الشرط السياسي، اتفاق أوسلو، الذي بُني على أساسه كل النظام الفلسطيني، ومعه النظام التربوي، ومنه المنهاج. وهناك حالة الانكشاف الاقتصادي والمالي التام، الأمر الذي جعل المنهاج، والرواتب والمصاريف الإدارية لكل العملية التعليمية، رهن بيد الممول الخارجي، والممول الخارجي بالنهاية ليس جمعية خيرية للإحسان على المحتاجين. هناك الإشكالية التي تولدت من الاتفاقات السياسية، وأهمها على الإطلاق تهميش الشعب الفلسطيني في الخارج، بما مسَّ من وحدة الشعب، الأمر الذي سيترك تأثيراته على المنهاج نفسه. وأخيراً، وليس آخراً، هناك الحقيقة الماثلة يومياً على جلد كل فلسطيني: بقاء السيطرة الاحتلالية التامة على السكان والأرض ومقومات الحياة اليومية، وقدرة تلك السيطرة، لأنها سيطرة أساساً، على فرض مجريات، يرغبها الاحتلال، متعلقة بحياة الفلسطينيين على مختلف الأصعدة، لم يكن أولها بعض تجليات المنهاج، ولن يكون آخرها شطب حكومة حماس عن الخارطة السياسية.
 
 
 
 
النظام التربوي/ المنهاج
في تناول علاقة المنهاج ككل بالعلاقة الشائكة بين المحتوى والخصوصية، في هذا المنهاج، ما يحيل على إشكاليات ينبغي الوقوف عندها مبكراً قبل الولوج لكنه تلك العلاقة. إشكاليات هي بمثابة مفاتيح/ مداخل يصعب، منهجياً، تناول العلاقة السابقة التحديد دون تناولها.
§        ما هو المنهاج؟ وبشكل كثر تعميماً، رغم ما في التعميم من زوغان، ما هو النظام التربوي، على التعميم لا على التخصيص، والذي يعد المنهاج تجليه الأساس، وإن كان ليس الوحيد.
§        ما هي الخصوصية التي صدرناها عنواناً للورقة؟
إن أول ما يواجهنا في تحديد تخوم هذا المفاهيم/ المقولات أنها تبدو كما لو كانت عملية ( نقصد التحديد ذاته) مصطنعة، إذ تبدو مرة أخرى أنها تحوز إجماعاً، من باب المناكفة الفكرية التشكيك به.
تعرف العسالي ( 2006) نقلاً عن apple 1905) ) أن المنهاج هو مجموعة الخبرات التربوية التي تهيؤها المدرسة لتلاميذها لمساعدتهم على النمو الشامل والمتكامل في شتى الجوانب.[2] وتنقل عن الفتلاوي (2006) تحديده لوظيفة المنهاج بتهيئته للشخصية لاحتمالات التغيير في الأنماط الثقافية للمجتمع، وكذلك القيم والمعايير التي تتضمنها ثقافته[3]....وفي كتاب (النظام التربوي/الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعايير الدولية) ( قطامش وآخرون، 2004) يعدد الباحث أدوار التربية الستة ضمن نقاشه للفلسفة التربوية ( النظام التربوي بتعبير آخر) بالتالي: إعداد العقل، حفظ التراث، استغلال الذكاء، الاستثمار الاقتصادي، إكساب للخبرات، وأخيراً تكيف الفرد مع المجتمع.[4]
كل التعريفات سابقة الذكر تنطلق من أساسين اثنين:
 الأول أنها تعريفات تربوية اختصاصية ذات طابع تقني. ورغم أهمية التخصيص هنا، إلا أن مثلبته الدائمة هي في الفصل الموضوعي بين الحق المُخصَّص والحقول ذات العلاقة، وهي هنا النظام الاجتماعي بشموليته، من جهة، وبينه وبين الأيديولوجيا الاجتماعية القائدة لهذا النظام من جهة ثانية، لذلك كانت العملية التربوية، قبل كل شيء، أداة سلطة، باعتبارها معرفة ممتلكة ومحتكرة، بإتكاء على تعريف إدوارد سعيد للمعرفة كسلطة....
الثاني: وحتى عندما تربط، تلك التعريفات النظام التربوي ( والمنهاج منه) بما هو خارجه، فلا تتعدى حدود الثقافة دون الربط بين متغيرين اثنين يكبلان ( إن جاز التعبير) الثقافة: أية ثقافة؟ إذ من المفروغ منه، أنه ورغم وجود ثقافة سائد، فهناك أيضاًً ثقافات، كحقيقة اجتماعية. ثم، وبالاستناد لما سبق، ينتفي الربط بين الثقافة وبين النظام الاجتماعي.
وعليه تبدو التعريفات أعلاه للنظام التربوي، ومنه المنهاج، وإن كانت تكتسب أهميتها كتعريفات تقنية  (وهذا ليس محض حكم معياري)، فإنها قاصرة عن تقديم تعريف شامل له.
من جهتنا نتبنى المدخل المنهجي الألتوسيري الذي يرى لدور التربية ونظامها ومحدداتها كوسيلة لإعادة إنتاج الإنسان، وفق منظور ومصالح وأيديولوجية الطبقة/ الطبقات، الفئة/ الفئات المسيطرة اقتصادياً. لا نعتقد أن هذه الورقة تتسع لتناول هذه المنهجية التحليلية الاجتماعية للنظام التربوي بتوسع، ولكن حسبنا أن نشير إلى أن ما لاحظه قرَّاء استشراق إدوارد سعيد، ومنهم ناقله للعربية كمال أبو ديب، عن تأثر منهجية سعيد بمنهجية فوكو، فاتهم ملاحظة أن سعيد، وإذ يتناول المعرفة كآلية للسيطرة، فإنه يتكيء على مفهوم التوسير حول دور الدولة في إعادة انتاج الإنسان، عبر دورها التربوي والأيديولوجي، ولكن هذه المرة مسحوباً على الوضع الكولونيالي لا على الوضع الاجتماعي/ الاقتصادي المحلي ( المحلي هنا يعني الرأسمالي الغربي حصراً، وهو موضع اهتمام التوسير في تحليله).
لذلك لن نبتعد كثيراً، مع بعض التحوير، إن قلنا أن التربية ونظامها ومحدداتها، ضمن الشرط الكولونيالي، هي إعادة انتاج، عبر إعادة صياغة، الفرد والشعوب، عبر ذات آليات التحكم بالمعرفة، باعتبارها أداة سيطرة، مع الاختلاف الهائل بين محددات تلك الآليات سابقاً عنها اليوم....
لقد لامس التربوي باولو فريري ( د . ت) هذه القضية إذ عرَّف التربية بأنها عملية معرفية، [5]وبالتالي، نسترسل بتساؤل هام: مَنْ يحتكر المعرفة، محددات ومفاهيم، وأدوات؟؟ مَنْ يمتلك سلطة المعرفة لاستخدامها كأداة سيطرة بغية إعادة انتاج الإنسان وفق رؤية ومصالح وأيديولوجيا المحتكِر؟؟   
 
الخصوصية الفلسطينية
إن مرد طرحنا لهذه الإشكالية، كما ذهبنا سابقاً، ليس فقط نزوعاً وطنياً، نعتز به على المستوى الأخلاقي والعملي، بل لأنه بطرحه يثير موضوعات فرضت نفسها على ساحة النقاش الأكاديمي والفكري منذ أن دخل العالم مرحلة العولمة، التي نراها مرحلة جديدة في آليات السيطرة الاستعمارية، الرأسمالية على العالم.
وإذا كان المظهر الأبرز للسلوك الإمبريالي المعولم هو معاداة الثقافة الوطنية، بما هي ثقافة تأكيد الذات في مواجهة السيطرة والهيمنة، وتحت شعارات عالمية الثقافة ( وهنا يلعب المخزون الثقافي للمفاهيم المصدرة عبر المنظمات غير الحكومية دوراً بارزاً)، فإن توجهاً أخر يبرز كمكملٍ للتوجه الأول، وكشكل أخر له، هو تفكيك الثقافة الوطنية الجامعة لثقافات إثنية ومذهبية وطائفية. هذا المدخل يلقي بثقله على الخصوصية الفلسطينية المتشعبة.
من جهة، هناك المشروع الصهيوني الكولونيالي، ألاقتلاعي، الذي يستهدف، كتجلي أساسي لمحتواه الاستيطاني، اقتلاع أية مكونات للشخصية الوطنية الفلسطينية، إن كان الاستقلال فوق الوطن أو الثقافة المحايثة لذلك النزوع نحو الاستقلال: الثقافة الوطنية. إن هذا الاقتلاع عملية متشعبة ومعقدة، ولكنها تسير حثيثاً منذ عقود، ولا يبدو أن الفكر السياسي الفلسطيني، الموجِّه للممارسة السياسية، الرسمية على الأقل، يدركها تماماً، لذلك يتعلق بأوهام التسوية السياسية، فيما قادة المشروع الصهيوني ماضون في مشروعهم، وبتعابير ووسائل مختلفة، ليس هنا مجال الإطناب فيها.
من جهة ثانية، هناك الثقافة الرأسمالية، بطبعتها الحديدة، الليبرالية الجديدة، التي كما سبق الإشارة، تنهض باعتبارها ثقافة عالمية، بديلة للثقافة الوطنية. إن خطورة تلك الثقافة تتأتى أولاً من استهدافها للشخصية الوطنية (والتربية أولاً وأخيراً تستهدف الشخصية الفردية والجمعية، وبغض النظر عن هدف الاستهداف، وكذلك عن المتحكم، كسيطرة، في عملية التربية) بمكوناتها، وفي الأساس من نزوعها المشروع في التعبير عن نفسها بمشروع استقلالي، وبالتالي تغريبها عن واقعها واقتطاعها من جذورها.
أما ثانياً فتتأتى تلك الخطورة من أن ثقافة العولمة، مسنودة بالدعم المالي وبالانهيارات في المشاريع التحررية الكبرى، وعلى الرأس منها المشروع اليساري التحرري، تعيد تشكيل، وهي أعادت، التركيب الطبقي الفلسطيني باتجاه خلق، وهي خلقت، شريحة من الفئات الوسطى، تحمل ثقافياً وسياسياً، فكر الليبرالية الجديدة، حتى وإن عاندت منكرة ذلك. إن أي تحليل معمق، على سبيل المثال لا التعداد، لبرامج وتوجهات الكتل الانتخابية في الانتخابات التشريعية السابقة، من جهة، سيلمح هذه الثقافة وتلك السياسة تبزان برأسيهما إلى هذا القدر أو ذاك، ومن جهة ثانية يظهر هذا من خلال تحليل برامج وتوجهات ورؤى العديد ( كي لا نقع في الإطلاقية) من المنظمات غير الحكومية، التي باتت المفرِّخ الأساس لتك الشريحة. إننا أمام إمبريالية ثقافية لا تقل خطورة عن الإمبريالية السياسية كما تتجلى في سياسات المؤسسات الاقتصادية الرأسمالية الدولية ( البنك الدولي/ منظمة التجارة العالمية/ وصندوق النقد الدولي)، كما عن الإمبريالية السياسية كما تتجلى في العراق وأفغانستان ولبنان وفلسطين وغيرها من دول العالم.
وارتباط التمويل بالمنهاج ارتباط وثيق ومعروف فالتمويل تم أساساً من منظمة اليونسكو ومن الحكومة الإيطالية،[6] ولاحقاً من حكومات دول أخرى ( أهمها الهولندية).[7]
من جهة ثالثة، فإن الخصوصية تتبدى من كون النظام التربوي الفلسطيني، شأن النظام السياسي والاقتصادي، كان نتاجاً لاتفاقات سياسية مع دولة الاحتلال. وإذا كان من الصحيح أن تأثير تلك الاتفاقيات كان دائماً رهناً بوضعية الاشتباك مع دولة الاحتلال، يتزايد مع فترات انتعاش الآمال التسووية ورطوبة العلاقات بين السلطة ودولة الاحتلال، ويتراجع عند فترات الاشتباك المفتوح، إلا أن تلك الاتفاقات، تركت عند القائمين على النظام التربوي، كموجهين سياسيين، مححدات رقابية ذاتية، تضع أمام عينيها دائماً، رأي الآخر ( حسب التوصيف المحبب لهؤلاء‍‍‍‍‍‍‍ لدولة الاحتلال)، وتضبط توجهاتها بناءً على ما يتوقع من ردود أفعاله.
إننا هنا أمام معضلة لم يأخذها معدو السياسة التربوية بعين الاعتبار، يمكن وصفها بغياب التفريق بين بناء مكونات شخصية وطنية لدى الفرد ( وهو الهدف الأساس كما أراه للنظام التربوي)، وبين إخضاع عملية البناء هذه لمتطلبات اللحظة السياسية الآنية، حتى بالمفهوم التاريخي. إن ما نذهب إليه هنا يمكن اعتباره صدىً لما ذهب إليه محمود درويش عندما أخذ على مهندسي أوسلو عدم التفريق بين الوطن التاريخي (وهو ثابت لا متغير) والدولة ( وهي متغيرة لاعتبارات الحدود وهامش السيادة والاتفاقات..).
بقي القول أن نفس الاتفاقات حددت الحدود الجغرافية للنظام التربوي الفلسطيني بحصرها في حدود السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وبالتالي عزل ثلثي الشعب الفلسطيني، عن هذا النظام. إن هذه الحقيقة ستلقي بظلالها على مفهوم هام تتطرق له التربية المدنية كمفهوم المواطنةً.
أما من جهة رابعة، فتتبدى الخصوصية، وهي نتاج للخصوصيتين الثانية والثالثة بمعنى ما، بأن عملية البناء التربوي منذ ان شُرع بها هي عملية ممولة من الخارج، ومعها كل ما (من الخارج) من أجندات سياسية وثقافية وفلسفية، هي تجلي لليبرالية الجديدة.
وتتجلى تلك الأجندات ليس فقط في الصيغة الأوامرية التي يمكن أحياناً أن تختفي من خطاب المموَّل، ولا فقط في تحديد المموِّل لما يرغب بتمويله، بل، والأهم، في تلك المنظومة الدولية من المفاهيم التي باتت تميز الخطاب الفكري والثقافي المعولم، والذي يجري التهامها، من ممثلي الشريحة الجديدة من الفئات الوسطى، ومن راسمي السياسة التربوية، دون أدنى تمحيص.
أنشأ عاصي (2006) نقلاً عن ديفيد كومان تأكيده على أن "الإمبريالية الثقافية واللغوية، أي السيطرة على الكلمات والمصطلحات، تملك تأثيرا اكبر من الإمبريالية الاقتصادية. المهم، في المصطلحات الأساسية في القانون والسياسة هو معرفة من يحتكر التعريف، التفسير، والتطبيق، من يملك القدرة على تحديد فحوى المصطلحات الأساسية. (...). لا تقل عن القدرة العسكرية والاقتصادية، القدرة على فرض مفاهيم "هيمنة" للقانون وللسياسة، وجعل الشعوب المسيطر عليها تتقبلها وتتبناها".[8] وقد نقل عاصي هذا التأكيد عن كومان في معرض تناوله للعلاقات الدولية في مرحلة تاريخية انتقالية، بحيث “تصبح اللغة والمصطلحات مهمة جدا. في هذه المرحلة يكثر الخطاب الأيديولوجي، والمحاولات لإعادة تعريف الهيمنة والتي تخص العلاقات بين الدول والعابرة للدول".[9]
إن ما ذهب إليه كومان ينطبق تماماً على المفاهيم المتضمَّنة في العديد من مناهج التربية والتعليم الفلسطينية، وتحديدياً منهاج التربية المدنية، وهو ما سنأتي على معالجته لاحقاً.
أما التعبير الخامس والأخير للخصوصية الفلسطينية، فإنها خاصية مشتركة إلى هذا الحد أو ذاك بين مختلف التجمعات العربية والإسلامية، ونعني بها تسيد الفكر السلفي الغيبي باعتباره المكون الثقافي الأبرز لمجمل الثقافة السائدة. وينبغي هنا ملاحظة أن هذا الفكر ولاعتبارات عديدة نجح بالتحول لحركة سياسية جماهيرية نشطة ومحققة للانتصارات فيما بدا كعملية تسييس للدين ومثاقفة له على المستوى الشعبي، ما عزز من مكانة السلفية والغيبية على نطاق واسع. إن هذه الخصوصية ستلقي بظلالها على خطة المنهاج العام، تحت مبررات مراعاة الخصوصية الثقافية، كما وستتجلى في العديد من المقررات ( الثقافة الإسلامية، اللغة العربية، التاريخ، التربية المدنية والوطنية).
إن إشكالية هذه الخصوصية تنبع ليس من كونها فقط تقف حجر عثرة في وجه عقلنة حقيقية للثقافة، بل بكون المعركة الثقافية، المنتصرة للعقل، يجري الخلط بينها وبين الحملة السياسية الإمبريالية ضد الإسلام والتيارات الإسلامية، بحيث تبدو تلك المعركة وكأنها ذو مرامٍ وأهداف تفترق عن المصلحة الوطنية ومعادية للتراث العربي/ الإسلامي.
وسنلحظ لاحقاً أن موقف السياسة التربوية من هذا التمدد السلفي هو الإتكاء عليه ومحاولة محضه مضامين لا يحملها، مستقاة من المخزون الثقافي لليبرالية الجديد، فتكون النتيجة أن الطرفين: السلفي ومن يرغب بتجاوزه، من مواقع لا نقدية بل مساومة، يدوران في ذات الحلقة: السلفية نفسها.
وبعد، تلك كانت بتقديرنا بيئة الخصوصية التي يتحرك فيها المنهاج، فكيف تعامل معها؟ كيف قدم نفسه للمواءمة بين الخصوصية والعالمية؟
 
التربية المدنية كنموذج
إن التفحص الأولي لموضوعة التربية المدنية تحيلها، كعلاقة ارتباطيه، على عدد من المسائل المعروفة كمسائل شائكة. قبل التعريج على هذه العلاقة، وكفرش لها، لا بد من قول كلمة ناقدة حول ما أعتقده كليشيهات معدة سلفاً عند تناول التربية المدنية.
   إن الكليشيهات تتعلق حصراً بما يمكن وصفه بالاستخدام الجزافي، النقلي، للمفاهيم، وتعريفها دون تدقيق بالمحتوى الفكري المتضمَّن فيها. ولما كانت المفاهيم أدوات معرفية لصياغة التصور النظري، يمكن وضع اليد بالتالي على حجم الخلل عندما يتم التعامل معها-أعني المفاهيم- بغير قليل من الخفة! فما أن تذكر التربية المدنية حتى تتساتل ورائها سلسلة من المفاهيم: العدالة/ المساواة/ المواطنة/ المسؤولية/ القانون / حرية التفكير/ حرية التعبير....إلى آخر ما يمكن رصفه دون عناء، ولكن دون تمحيص، عبر منهجية تعويم صريحة، وفي تناقض صارخ مع الواقع السياسي، الاجتماعي والثقافي.
إن كل ترسانة مفاهيم الليبرالية الجديدة تنهض على قاعدة التعويم، بحيث تقدم، هكذا، وكأنها تحصيل حاصل، خارج النقاش وخارج الخلاف، وعليه، فمن يجرؤ على النظر نقدياً لها؟؟ مّنْ سيجرؤ على نقد مفاهيم من نوع: الديموقراطية، حقوق الإنسان، المواطنة؟ إن توطين تلك المفاهيم في الواقع الاجتماعي والسياسي والاقتصادي الفلسطيني كفيل، ليس فقط بتحديد تخوم تلك المفاهيم، بل وكشف الزيف خلفها. قطعاً إن المسألة ليست في قبول ورفض هذه المفاهيم كما تقدم، بل في التقدم بتفسير خاص لها يتناسب والواقع الاجتماعي، ويستجيب لما يفترض أن يكون المهام الأساسية التي وضع المنهاج من أجلها. نستعرض فيما يلي مفهومي المواطنة والديموقراطية كما يجري التعامل معهما في التربية المدنية، كنموذجين، على سبيل التعداد لا الحصر. 
 
مفهوم المواطنة
رغم أن حقل تخصصي ليس العلوم السياسية، إلا أنه من المعروف أن معطيات العلوم السياسية تتفق على أن مفهوم المواطنة كان نتاجاً لنشوء الدولة الأوروبية الحديثة، وارتبط بممارسة الدولة، ككيان، لسيادتها على الأرض والسكان. هذه السيادة على السكان كانت مدخلاً لتوضيح العلاقة بين الدولة والمواطنين...ومن هنا نشأ مفهوم المواطنة، بما يتضمنه من حقوق وواجبات.
إن انتفاء السيادة الفلسطينية على الأرض، انتفاءً تأكد نصاً في أوسلو، وغدا واقعاً مأساوياً منذ العام 2000، لا يمكنه إلا أن يلقي بظلاله على موضوعة المواطنة، ومع ذلك لا تزال تعج أدبيات خطاب المنظمات غير الحكومية وواضعي المنهاج ودارسوه بهذا المفهوم، هكذا على عواهنه. إن طرح هذا المفهوم، على هذه الشاكلة، لن يؤدي إلا إلى إرباك المخزون المعرفي المفترض تشكيله لدى الطلبة، هذا في أحسن الأحوال، أما في أسوأها فإنه يشيع الوهم بأنه يمكن تنظيم علاقة مواطنة مستقرة وثابتة بين الشعب والسلطة في ظل سيادة الاحتلال..وهذا على أية حال توجه ثابت للمحتلين والأوروبيين والأمريكان: توجه يقوم على شطب معطيات الصراع مع الاحتلال باعتباره المعطى الأساسي، لصالح معطيات العلاقة بين السلطة والشعب..وكل ذلك يتم، والانطباع يتعزز أكثر وأكثر، بأنه، وحتى التعبيرات الشكلية لوجود السلطة على الأرض، باتت موضع تساؤل.
والقضية موضع النقاش مرتبطة أيضاً بواقع التوزيع الجغرافي للشعب الفلسطيني. ولما كانت التربية المدنية في تعريف مكثف لها هي التربية على المواطنة ( على الأقل كما يقدمه مركز التربية المدنية في كاليفورنيا في الولايات المتحدة، ويتبناه معظم، إن لم نقل كل، من قرأنا لهم في هذا الحقل من فلسطينيين) برزت الإشكالية هنا من أن التوجه نحو التربية المدنية ( على إشكاليته التي نخوض في نقاشها) لا يطال سوى ثلث الشعب الفلسطيني فقط، هو المقيم في الضفة الغربية وقطاع غزة تحديداً، حيث الهامش السيادي المحدود للغاية والذي يتيح تطبيق هذا البرنامج، وعليه فنحن أمام ستة ملايين فلسطيني خارج هذا البرنامج، فيما مسوَّدة مشروع الدستور تعتبرهم مواطنين فلسطينيين، لكن الاتفاقات السياسية حرمتهم من ممارسة المواطنة، وبالتالي حرمت البرنامج التربوي من أن يشملهم. وتلك قضية غاية في الأهمية، على المهتمين بالنظام التربوي في فلسطين عدم إهمالها، أعني بها ضرورة التركيز على بناء مقومات "المواطنية الموحدة" كتعبير عن وحدة شعبنا، حسب مسودة الدستور، وحسب الحق الوطني غير القابل للتصرف، بغض النظر عن الاتفاقات السياسية وحدود السلطة الفلسطينية الناشئة، وهذا التشابك، بين مَنْ هم هنا، ومَنْ هم خارجا، يجب أن يتجسد في النظام التربوي.
ولدعم وجهة النظر الواردة أعلاه سأعرّج قليلاً- وبما تسمح به طبيعة الورقة كورقة لا كبحث- على عينات من المحاور-المحتوى بمعنى آخر- التي يتضمنها منهاج التربية المدنية في غير كتاب.
لنا أن نتأمل محور المواطنة كما يظهر في عناوين الصف الرابع ( المجتمع المدني/ مؤسسات المجتمع المدني/ المجتمع المدني قارئ/ المجتمع المدني يؤمن بالمؤسسات العالمية/ المجتمع المدني يؤمن بحقوق المعاق...). للوهلة الأولى تبدو الموضوعات مغرية فكرياً! فمن الذي يجرؤ على رفض كل ذلك؟ ولكن موضوعة المجتمع المدني ذاتها بحاجة لفحص، قبل تعليقها كأيقونة على صدر خطة المنهاج! فارتباطاً بالاحتلال والبنية الاجتماعية المشوهة والتبعية الثقافية والاقتصادية وتغييب الجماهير عن القرار وانتفاء المساواة، ولو بحدودها الدنيا، يغدو الحديث عن المجتمع المدني هروباً للأمام من استحقاقات البحث عن أسباب عدم تمكننا من تحقيقه لمرحلة قد تطول من الزمن، وفي أفضل الأحوال هو غرف من المخزون المعرفي الجاهز، المورد مع الرؤية الأمريكية للمنطقة، دون إعمال الفكر بإنتاج معرفة خاصة بنا على هذا الصعيد، وتحت مبررات باتت مثل كليشيهات مكررة ( هذه ثقافة عالمية نغرف منها)، وهي في الواقع، وكما يعبر حتى مفكرون من العالم الرأسمالي نفسه، ليست سوى تعبير عن قدرة الرأسمالية الأمريكية على تعميم أيديولوجيتها وإكسابها الصبغة العالمية.( يمكن هنا مراجعة نعوم تشومسكي/ ألين مكسينزوود/ وادوارد سعيد عند تحليله للإستشراق المعاصر/ والتوسير/ وغيرهم كثيرون)
 
مفهوم الديموقراطية
يجري تعريف التربية المدنية كما وردت في المنهاج، ونقلتها ورقة الدكتور عبد الرحمن المغربي، وهو من الكادرات الأساسية في مركز تطوير المناهج، كما يلي(التربية التي تساعد على تكوين إنسان مسئول له دور مشارك وفاعل في الحياة الاجتماعية والسياسية من حيث الحقوق والواجبات، وعليه فإنها تؤدي إلى تعزيز مجموعة من السلوكات التي تهدف في المحصلة النهائية إلى رسم علاقة المواطن بوطنه وبالآخرين وتشمل علاقة الفرد بالمجتمع وعلاقة الفرد مع الجماعة والجماعة مع الجماعة...)[10]
يمكن لأية دولة أن تضع هذا التعريف حتى المملكة السعودية! فعموميته قاتلة، فلا ملمح واحد يربطه بالخصوصية( الاحتلال، الشتات، انتفاء السيادة، طبيعة النظام الاجتماعي...) ولن تتعدل الصورة عند الانتقال إلى محاور كل صفٍ على حدا.
في كل المحاور التي تتناول الديموقراطية، وفقط من الصفوف السابع حتى التاسع، هناك تعريف عام، وينتمي حصراً للمدرسة الليبرالية الجديدة، والتي تسعى لمحتويين أساسيين في تنظيرها لتعريفها، والتزم بهما المنهاج: فمن ناحية يفرَّغ التعريف من خصوصية اللحظة التاريخية للمجتمع( السياسية والثقافية والاقتصادية..) تحت مبررات الثقافة الإنسانية أو العالمية، وهي في الواقع عولمة الثقافة الرأسمالية. ومن ناحية ثانية، ولاعتبارات طبقية صرف، يجري حصر الديموقراطية في قضايا الديموقراطية السياسية دون الاجتماعية والاقتصادية، مثلما يجري الحديث عن القانون في إطار المساواة أمام القانون دون التطرق للمساواة الاجتماعية والاقتصادية وأهمها المساواة في الملكية...وعندما يتناول منهاج الثامن الديمقراطية فيتناولها من منطلق قانوني ومن زاوية أهمية الأحزاب والدستور..ولكن ماذا عن المنطلقات الاجتماعية والاقتصادية؟ ماذا عن الديموقراطية كآلية للمشاركة الشعبية، وهل يمكن هذا في نظام اجتماعي قائم على المساواة أمام القانون فقط، ويرفض المساواة الاجتماعية.؟ لا مشاركة بدون مساواة شاملة وإلا أعدنا إنتاج القائم: المشاركة رهن بميزان القوى الاجتماعية غير المتساوي.[11] وماذا عن كل ما يساق عن الديموقراطية والقانون والمؤسسات...في ظل غياب الاستقلال والسيادة؟ هل يعتقد أحد بتربية مدنية لمجتمع تحت الاحتلال وتسحق "مؤسساته" يومياً، قادر حقاً على بنا الديموقراطية والمؤسسات ومجتمع القانون؟ أم أن الديموقراطية، في الحالة الفلسطينية كما نراها، هي الوجه الأول لعملة، وجهها الثاني مقاومة الاحتلال، ما يعني بناء مؤسسة ديموقراطية على قاعدة هذه المقاومة ومن أجلها؟؟
وهنا يقدم المفهوم حصراً وفق التصورات الليبرالية دون غيرها، عبر سلسلة من المفاهيم/ الحقوق: الانتخاب، الترشيح، حرية التعبير، تداول السلطة، المشاركة....
من جهة ينبغي التوضيح أن ما بدا (تلازماً تاريخياً) بين الديموقراطية الليبرالية ونجاح المشروع الرأسمالي الأوروبي في بناء الدولة القومية، ليس هو كذلك في واقع الأمر. إن كل مكتسبات الديموقراطية الليبرالية اليوم هي نتاج لنضالات الطبقة العاملة ومؤسسات المجتمع المدني واليسار على العموم، عبر ثلاثة قرون، لنصل بصورة الديموقراطية الغربية، على ما هي عليه اليوم.
من جهة ثانية، ومع ذلك، لا زال هناك الشيء الكثير الذي يمكن قوله عن هذه الديموقراطية. إن التفاوت في القوة الاقتصادية، والذي يخلق بالتالي تفاوتاً في الوضع الاجتماعي وممكنات ممارسة القوة والهيمنة والسيطرة، لا يمكنه ان يخلق تساوياً في فرص المشاركة السياسية في العملية الديموقراطية، على اعتبار أن المشاركة السياسية المتساوية هي أقنوم الديموقراطية الأول. إن تحكم 3% في المجتمع الأمريكي بحوالي 75% من الإنتاج لا يعني، على صعيد الممارسة الديموقراطية، سوى أن هؤلاء ال 3% يحددون مجريات اللعبة.
بمعنى آخر، إن تقديم مفهوم الديموقراطية، كما يرد في أدبيات النظام التربوي ( الكتب والأدلة وأوراق العمل...) بمعزل عن موجبات المساواة الاقتصادية، هو في أفضل الأحوال تعمية على المفهوم، واعية أم غير واعية فسيان.
وفي الحالة الفلسطينية تزداد الحاجة لفحص هذا المفهوم أصلاً، وحتى بعزل عن التناقض بين الليبرالية والديموقراطية الحقيقية القائمة على المشاركة. إن الانتخابات الأخيرة للمجلس التشريعيـ أثبتت للجميع أن المحتل ومن يدعمه من الأوروبيين والأمريكيين هو اللاعب الأساسي في "العملية الديموقراطية" في فلسطين. فحتى لو وضعنا جانباً ممارسات الاحتلال القائمة يومياً، والجاهزة للتطوير تبعاً لمصالحه العدوانية، جانباً، فإن انتفاء السيادة، مرة أخرى، يشكل المعوِّق الأساس لممارسة ديموقراطية في نطاق سياسي غير سياق المقاومة.
وعليه، إن المجتمع الفلسطيني يحتاج فعلاً لتطوير ممارسته الديموقراطية، ولكن على قاعدة الارتباط بالنضال ضد الاحتلال، لا على قاعدة الليبرالية الجديدة، الأمر الذي يتطلب بناء مؤسسة ديموقراطية شعبية مقاومة، تنقل الشعب لمستوى واضع القرار، وتعزز مشاركته في العمل السياسي المقاوم، لا تشيع الأوهام بلعبة ليبرالية تحت الاحتلال. إن مسئولية تربية الجيل الفلسطيني المتعلم تتطلب فحص هذه الموضوعة ارتباطاً بما ذهبنا إليه حصراً.
 
التربية المدنية في الحالة الفلسطينية
 كما أتضح معنا في السياق، فليست التربية المدنية، كمكون من مكونات المنهاج الفلسطيني، وكتصور ورؤية اجتماعية-تربوية، بمعزل عن قاعدتين يحددان جوهرها وتخومها معاً، إنها ليست سابحة في فضاء المعرفة، بل ملتصقة كتصور ب:
1.    الخصوصية المجتمعية بكل تشابكاتها، وخاصة السياسية/الاجتماعية/ الاقتصادية/ والثقافية السائدة، والتي فصلناها أعلاه. إن الخطاب الفكري العولمي، بمحتواه الإمبريالي، ينزع تحديداً، كما أوضحنا سابقاً، للتعويم، عبر عزل المفاهيم عن خصوصيتها المجتمعية ومحتواها الطبقي/ الفكري، وهذا ما يفرغها من ملموسيتها ويقربها من التماثل- الواعي أو غير الواعي لا فرق هنا- مع ما يسعى له هذا الخطاب من ضرب لمكونات الشخصية الوطنية، وتالياً للمصلحة الوطنية نفسها، إضافة لترسيخ فهم واحد للمفهوم يتفق ورغبات هذا الخطاب، فتأتي المفاهيم، والتربية المدنية، في واد والمجتمع في وادٍ آخر. إن هذا التعويم هو بالضبط ديدن الليبرالية الجديدة التي تروج من خلالها المحتوى الذي تريد.
2.    تناقض المصالح السياسية والاجتماعية والرؤى الثقافية في المجتمع، الأمر الذي يغدو معه من الوهم تصور إجماع المجتمع ككل على تعريف مفاهيم التربية المدنية، إن افترضنا إمكانية الاتفاق على المفاهيم نفسها. إذ ليس من الصعب الاتفاق على استخدام المفهوم، لكن المشكلة في تحديد محتواه، وتالياً تخومه. يمكن تلمس هذا ببساطة في اختلاف المنطلقات، دينية أم علمانية أم ليبرالية أم ماركسية، في تعريف المفاهيم نفسها، وأثر هذا لاحقاً على الموقف التربوي.
     عود على بدء. من أين تنبع إشكالية التربية المدنية ؟ إنها بالضبط من كونها تحيل على عدة قضايا أهمها:
1.    مبرر دمج الموضوع نفسه في المنهاج الفلسطيني. فهل هناك حاجة اجتماعية- وطنية لتدريس التربية المدنية، مرتبطة بهذا المستوى من التطور والإمكانية التي بلغها المجتمع والشعب معاً؟  أم إن هذا الدمج يأتي استجابة لضغوط دولية تسعى لإعادة صياغة الشخصية الفلسطينية، بما يفرغها من مكونات، تعتقدها أطراف خارجية، لا تخدم-إن لم تعطل- تسوية سياسية أو تصالح تاريخي ؟ أم هو قدرة فئات متنفذة، تمتلك تصوراً تعتقده واهمة أنه ليبرالياً، ينسجم إلى هذا الحد أو ذاك مع رغبات الضغط الدولي ؟ وإذا كانت الإجابة بالإيجاب على التساؤل الأول، فهل تظل هناك حاجة للتربية الوطنية التي فُتحت النار عليها من الإسرائيليين والأمريكان مراراً، خاصة في أوقات الاشتباك مع الاحتلال ؟ وإن ظلت التربية الوطنية، فما الحدود التي ينبغي تحديدها بين التربيتين، وما نقاط التقاطع بينهما؟
2.    العلاقة الشائكة بين منظوري الحداثة والتراث في الفكر العالم ثالثي عموماً. وهذان المنظوران يطلان برأسيهما كلما تم تناول أية موضوعات على صلة بالفكر الاجتماعي، السياسي والاقتصادي، وها هنا يطلان أيضاً، فبين التربية الدينية والتربية المدنية مثلاً فارق في المنهج والخلفية الفكرية، يجعل ملامسة هذا الفارق لحسمه لجهة ما يولد صراعاً فكرياً صريحاً. وهذا يحيل للقضية الثالثة.
3.    إن التربية المدنية، وسيان اعتبرت وافداً غير مرغوب فيه أو استجابة لضرورة مجتمعية، فهي في النهاية وليدة الحداثة الأوروبية التي تدعَّمت بالارتباط مع ثورة سياسية، اقتصادية، اجتماعية، ثقافية اكتسبت صبغة عالمية، وإن لم تكتسب بعد الشرعية لدى كافة التيارات الفكرية العربية والفلسطينية. وعليه فالموقف من التربية المدنية، موقف من الحداثة، وتلك إشكالية كما هو معروف، لأن الاتجاهات الرافضة للحداثة ( الدينية تحديداً) تدمج بين الحداثة ومقولة الغرب، بما يثيره المصطلح الأخير من تداعيات مرتبطة بالاستعمار، دون النظر لتداعيات مرتبطة بمنجزات عظيمة،  وبالتالي يجري رفض الحداثة بحجة الارتباط هذا! ولكن الغرب شيء والحداثة شيء آخر، حتى مع كون الحداثة نتاج الحضارة الغربية، تماماً مثلما الغرب شيء والحزب كمقولة اجتماعية –سياسية شيء آخر، علماً أن الشكل المعاصر للحزب نتاج غربي بامتياز. وقس على ذلك كل المنجزات الحداثية للحضارة الغربية، والتي تحولت لمنجزات عالمية. ليس وظيفة هذه الورقة تحديد موقف من "المرغوب والمكروه" في حضارة الغرب، ولا تسعى للتصدى للطرح العنصري الاستشراقي الذي لا يرى في الغرب سوى المنجزات العظيمة والإبداع وفي الشرق سوى البؤس والتخلف والإتباع، إنما حسبنا هنا فقط التعريج على ما قلناه أعلاه لضرورة منهجية إعداد الورقة.
4.    وأخذاً بعين الاعتبار الخصوصية الأهم، وأعني بها-مرحلة التحرر الوطني- فكيف يمكن تناول التربية المدنية في ظل غياب مقومات السيادة الوطنية التي تحت ظلها تبنى ركائز المجتمع المدني( هذا مع تحييد النقاش حول هذا المفهوم). كيف يمكن التوفيق بين متناقضات، تطال مفاهيم مرتبطة بالتربيتين. مثلاً التربية المدنية تحض على حل المنازعات عبر آليات التحاور والتفاوض حصراً، فيما القانون الدولي، والحق الوطني الشرعي، يتيح استخدام كافة الوسائل " لحل النزاع" مع المحتل الأجنبي ؟ وما الضمانة لعدم تحول التربية المدنية-على الأقل بعض مفاهيمها- لكابح يعيق النضال ضد الاحتلال؟ وعليه، ورغم الورش والدورات والجدالات التي تدور حول العلاقة بين التربيتين، المدنية والوطنية، فلا زالت المسألة غير محلوله، والخشية أن تحل على قاعدة الالتزام بالاتفاقات السياسية الموقعة، سابقاً ولاحقاً، مع إسرائيل لا على قاعدة المصلحة الوطنية.
 
المحتوى الحالي
ارتباطاً بما سبق، هل حاول المنهاج حل الإشكاليات/ المسائل أعلاه؟ هل كان المنهاج "مخلصاً" للخصوصيات التي جرى طرحها في مقدمة الورقة ؟؟ لا أعتقد ذلك من حيث الجوهر. وأقول من حيث الجوهر، لأن المنهاج يتطرق لبعض هذه الإشكاليات ( هناك نفحة حداثية في التربية المدنية المقرة/ بعض الخصوصية الفلسطينية عند الحديث عن المؤسسات)، ولكن غير ذلك لم يلامس منهاج التربية المدنية الإشكاليات، إما لأسباب سياسية إو لدواعٍ فكرية سنقف عليها الآن.
يكاد يتفق معظم المفكرون العرب، محدثون ومعاصرون على تشخيص حركة الفكر العربي الحديث بأنها كانت تتمترس عند حدود التوفيق بين الحداثة والتراث دون أن تتجرأ على مغادرتها، وإن كانوا اختلفوا على أسباب ذلك، فيما يعتقد مقدم الورقة أنه نتاج التكوين المشوه للطبقة الوسطى البرجوازية التي يفترض أنها الحامل الاجتماعي التاريخي للواء الحداثة من جهة، ولعدم تبلور الدور السياسي الريادي للحامل البديل( الفئات الشعبية) من جهة ثانية، فظلت محاولات الوصول بالجدل بين الحداثة والتراث إلى نهاياته هي محاولات فردية ريادية تشكلت في مطلع القرن(طه حسين وأحمد لطفي السيد وعلي عبد الرازق في مصر والفاخوري وشبلي شميل في لبنان واديب إسحق في سوريا والسكاكيني في فلسطين...)، وتحولت في اربعينياته إلى حركة لها وزنها، ولكن سرعان ما تم إجهاضها من قبل الأنظمة البرجوازية القومية الصاعدة ( النظام الناصري تحديداً)، لتصل مع هزيمة هذه الأنظمة، وشيوع ما عرف بحقبة النفط وأنظمتها، إلى إشهار سلاح التحريم والقتل ضد من ينزع للوصول بالجدل لنهاياته الحاسمة( في هذا السياق أرى لقضايا الإرهاب الفكري ضد المثقفين والمبدعين والكتاب في مصر والأردن ولبنان). وللوقوف على حقيقة النهاية الخائبة للنهج التوفيقي يمكن قراءة أعمال سمير أمين وفيصل دراج وصادق العظم وعبد الرازق عيد وغيرهم. قبل الانتقال لمقاربة ما ذهبنا إليه مع الوضعية الفلسطينية على هذا الصعيد أنوه لقضيتين:
 
1.    حسم النقاش مع التراث( ومكونه الأساسي الثقافة الدينية التقليدية) لا يعني شطبه، بل إخضاعه لمتطلبات النقد العلمي وموجبات تعزيز النهج الحداثي والعصرنة دون مساومة، خاصة لجهة الحسم لصالح العقل لا النقل، وللنظام الاجتماعي القائم على الخيار البشري، لا الميتافيزيقي، في كل ما يتعلق بالحياة المجتمعية.
2.    ورغم ما بدا من صورة سوداوية، فإن تيار الحداثة اكتسب دفعة هائلة منذ مطلع تسعينات القرن الماضي، وبدأ يتحول لتيار ملموس معاصر- تيار على المستوى النخبوي لا الشعبي- لأسباب عديدة لا مجال لذكرها هنا، وتمثل ذلك بالانتشار الواضح للأدبيات والدوريات الحداثية، وتأسيس دور النشر المتخصصة بتعميم التراث الحداثي العربي والترويج لمنشورات حداثية معاصرة، وازدهار الدراسات الناقدة للموروث الإسلامي، ما يبشر بآفاق واعدة، من أن الفكر العربي التنويري وضع نفسه على السكة الصحيحة.
 
الحداثة المشوَّهة
في كتابه بؤس الثقافة في المؤسسة الفلسطينية أعاد المفكر الفلسطيني فيصل دراج فشل المشروع الوطني الفلسطيني حتى الآن إلى قصور هذا المشروع عن تأسيس مشروع ثقافي يحايث المشروع الوطني السياسي، فكان المشروع التحرري حداثياً بامتياز، فيما المشروع الثقافي-الخطاب التعبوي والسياسي رجعياً لا حداثياً.
وبالنظر للمنهاج فإننا نلحظ التوفيقية بامتياز، وعلى هذا الصعيد فالقائمين على المنهاج كانوا مخلصين للسمة الأساسية للفكر العربي الحديث.‍ فالمراجعة السريعة لخطة المنهاج الفلسطيني الأول تؤشر لرغبة القائمين على المنهاج على إرضاء الجميع في حقل يستحيل أن تستقيم فيه سياسة الإرضاء‍، فتكون النتيجة كوكتيل يصعب الجمع بين مكوناته في الواقع، والأنكى التأسيس لمكون ثقافي حداثي، يشكل قاعدة بناء منهاج عصري. إن خطة المنهاج والحال هذا أشبه ما تكون بالسوبرماركت. وإذا كانت وظيفة هذه الورقة ليست المراجعة المتأنية لأوجه التوفيقية، لكن حسبها طرح الأسئلة التالية برسم التفكير:
§        كيف يستقيم ( تعزيز الإيمان بالله) و (تعزيز الثقافة الإسلامية) في الأسس الفكرية و (التمسك بالقيم الاجتماعية والدينية) في الأسس الاجتماعية و( تبنى جوهر العقيدة الإسلامية) في الأساس المعرفي...كيف يستقيم هذا مع (تعزيز مكانة العقل) و( استخدام التفكير الناقد) و( تعزيز قدرات المواطن على التحليل والنقد والمبادرة والإبداع..) و(اعتبار الحقائق والنظريات هي القاعدة لتفسير الظواهر الكونية) المبثوثة في الخطة وفي الأسس أعلاه ذاتها؟؟[12] أليس هناك تناقض بين (الحاكمية لله) كجزء من العقيدة، وعلى الأقل حسب تفسير أغلب تيارات الفكر الإسلامي، وبين النظام التشريعي كما ورد في الأساس الاجتماعي؟ ثم ماذا عن الانتماء؟ هل السعي هو لانتماء قائم على المواطنة ( إن افترضنا أصلاً انطباق هذا المفهوم على الواقع الفلسطيني) حسب مفهوم التربية المدنية أم لانتماء قائم على الأساس الديني( الذي يأخذ بمبدأ الرعية)، حسبما تفتتح كل الأسس في الخطة بنودها؟
 ثم إن الأسس ذاتها عائمة لا حواف لها: من سيحدد جوهر العقيدة، الثقافة الإسلامية؟ فالتكفير والهجرة كثقافة مغرقة في السلفية من جهة، وثقافة راشد الغنوشي وعلي شريعتي والقرضاوي ثقافة تبحث إلى هذا المستوى أو ذاك عن التماثل مع بعض مفردات الحداثة من جهة ثانية، كلاهما رافد من روافد الثقافة الإسلامية. ثم من سيحدد حدود النقد والإبداع والتفكير الحر كما هي مرصوفة في المنهاج؟ كبف يمكن الأخذ بمهمة المنهاج (تعزيز الإيمان الله)- وهي على أية حال مسئولية المؤسسة الدينية، أية مؤسسة دينية، وليست مسئولية المؤسسة التعليمية- وفي نفس الوقت (اعتبار الحقائق والنظريات هي القاعدة لتفسير الظواهر الكونية)؟؟
 المفاهيم عائمة والجمل مرصوفة كي يقول كل تيار فكري فلسطيني: إنني ممثل في المنهاج، ولكن النتيجة تشويه في التربية، وادعاء حداثي لا حداثة، فالتوفيقية لم تقد إلا إلى مكونات ثقافية مترددة، متقلقلة، تعجز عن النهوض بمتطلبات العصر والاحتياجات المجتمعية.
ومع ذلك، فإن الغلبة في هذه التوفيقية لسلفية تدفع باتجاه حضور النص والمقولة الدينية حتى في الموضوعات غير الدينية، كاللغة العربية، التربية الوطنية، التاريخ، العلوم العامة... لذلك كان النزوع الديني في الخطة، كما يظهر في مفتتح كل أساس من الأسس العامة للمنهاج، يجد تعبيره، كما ذهبنا، في هيمنة غير مسبوقة للمقولات والنصوص الدينية داخل مواد المناهج غير الدينية.
فأخذاً لمنهاج الصف الثاني، كمثال، فقد جاء في الدرس الثالث من كتاب لغتنا الجميلة الجزء الأول ما يلي: (صحب المعلم التلاميذ إلى حديقة المدرسة، وجلسوا تحت شجرة كبيرة. قال لهم المعلم: أنا أحب اللغة العربية لأنها لغة القرآن.)[13] هناك فرق بين أن يفهم الطلاب أثر النص القرآني الديني في نشوء دراسات اللغة تاريخياً، وفي الحفاظ على اللغة العربية لاحقاً، وبين ربط محبة اللغة، حصراً، بكونها لغة القرآن. فاللغة العربية، والحال هذا، تُعطى بعداً دينياً، حصراً، دون الأبعاد الأخرى، علماً أن القائمين على المنهاج يعلمون تماماً، واعتقدهم يقرون أيضاً، بالوظيفة السياسية/ الاجتماعية للغة العربية، وأية لغة، في تشكيل الهوية القومية.
وفي ذات الكتاب يمكن ملاحظة هذا البعد الديني في العديد من المحفوظات ( التي يجب حفظها غيباً فيما الخطة تحض على التفكير المبدع والخلاق والناقد) المستقاة من نصوص دينية ( أحاديث وقرآن). وحتى عندما أراد المنهاج تعليم الطفل كيف يصوغ سؤالاً، كانت الإجابات التي سيصوغ أسئلة لها، جمل تقريرية عن مناسبات دينية ( مكان مولد الرسول/ زمن مولد الرسول/ زمن صيام الناس/ مكان صلاة علي).[14]
والطابع الديني ذاته يعود ليظهر في التربية الوطنية. ليس من شك أن الإسلام مكون أساسي من مكونات الشخصية الوطنية، ولكن الإشكالية تبرز عند إضفاء طابع ديني أحادي على فلسطين، مع إهمال الطابع الوطني والقومي. فمثلما يجب ذكر عمرو بن العاص،  عمر بن الخطاب، عبد الملك بن مروان، صلاح الدين الأيوبي، والسلطان العثماني سليمان القانوني في كتاب التربية الوطنية لذات الصف.[15]...يجب أيضاً ذكر عز الدين القسَّام، كقائد لأول حركة كفاحية مسلحة ضد الانتداب والاستيطان اليهودي، وكذلك ذكر رموز هامة مثل: الحاج أمين الحسيني، الشقيري، عبد القادر الحسيني....وفلسطين أيضاً أرض المبدعين والمثقفين أمثال غسان كنفاني وناجي العلي وغيرهم...
وحتى لو أخذنا منهاج التربية المدنية كوحدة واحدة لا تشوبها شائبة( على الأقل لأهداف المقارنة)، فكيف تستقيم مع منهاج التربية الإسلامية؟ حسبنا الموضوعات التالية: الحاكمية/ الحقوق/ حرية الضمير والاعتقاد/ حقوق النساء/ المواطنة/ الأساس التشريعي( مصدره)... إنني أعتقد أن لسنا بحاجة لأدلة كثيرة لإظهار التوفيقية المستحيلة، علماً أنني أدرك بحكم تجربتي في تأليف المنهاج أن القائمين عليه لا ينكرون هذا المنهج، بل يعتبرونه مصدر قوته، ودلالة على انفتاحهم على مختلف الاتجاهات.‍
إنني أدرك حساسية نقاش هذه القضايا، ولكن لا يجوز التعامل باستخفاف مع المسائل المرتبطة بالتربية والفكر، فالحديث يجري عن المكون الثقافي لأجيال، وحسبي بالقاعدة المعرفية: التساؤل أول درجات المعرفة. فلنتسائل إذن، ففي التساؤل فتح للجدل، وهو ضالة هذا المؤتمر أولاً وأخيراً، إذ طالما يجري الحديث عن المنهاج المرتبط بمستقبل أجيال، فينبغي عدم الركون للعموميات والصيغ التي تقبل القسمة على عشرة.
 
الخصوصية المجتمعية
في نطاق مقومات السيادة الهشة للغاية- المعدومة جوهراً وشكلاً منذ العام 2000- توفرت للشعب الفلسطيني فرصة محدودة للغاية لبناء مقومات المجتمع الفلسطيني، وأربأ نفسي، لقناعة سياسية، عن التوصيف الدارج (مقومات بناء الدولة الفلسطينية). وتلك فرصة ينبغي اغتنامها دون تردد، وقد تم اغتنامها فعلاً بوضع المنهاج الفلسطيني، مشيحاً وجهي سريعاً عن مقولة( لا حاجة لتربية مدنية طالما لا يوجد دولة) كما واضح أنني لست مع القائلين: (ما حاجتنا لتربية مدنية وهناك التربية الإسلامية)، ولكن هذه الحاجة كما عبر عنها في المنهاج لا تمت بصلة للخصوصية من حيث الجوهر( إلا مجرد ذكر أسماء بلديات ومؤسسات كتعبير عن الخصوصية أو ما يفضلون تسميته "بتوطين المعلومة" في مركز المناهج). ماذا أعني بذلك؟
1.    جوهر خصوصية الوضع الفلسطيني أنه يعيش مرحلة التحرر الوطني وهذه المرحلة تتطلب من جملة ما تتطلب بناءً مجتمعياً قادراً على الصمود والمقاومة، لا بناءً لم يحتج إلا لبضعة آلافٍ من الجنود ليتفكك بين عشية وضحاها. إن المصطلح الذي أعتقده يتناسب ووضعية المرحلة الفلسطينية هو تنمية الصمود والمقاومة، أي الشروع بعملية تنموية، والتربية جزء صميم من تلك العملية، ترسي مقومات مجتمع قادر على الصمود والمقاومة لنتمكن من الجمع بين المهام الاجتماعية والمهام الوطنية، ولتكون الأولى ليس فقط بهدف بناء مجتمع عصري، بل ومن حيث الأساس، قادر على الصمود والمقاومة. أما إعداد التربية المدنية وكأن لا شأن لنا بالخصوصية أعلاه فذاك غريب حقاً. فمحتوى التربية المدنية لا ينبغي أن يكون محض التربية على "مواطنة" طبيعية كما لو كنا في فرنسا مثلاً، بل تربية في وطن محتل ومستلب السيادة بالكامل، بل تربية على "مواطنة" تحت الاحتلال وبما يخدم الصمود في وجهه ومقاومته، والدعوة للمأسسة- والمؤسسة واحترامها جزء لا ينفصل عن التربية المدنية كمفهوم- لا يتوجب أن تعلق في الهواء، صالحة لأي مجتمع، بل المؤسسة التي نريد في هذه المرحلة بالذات من تاريخ شعبنا.
 واسترسالاً يكون الحديث عن الأحزاب مثلاً، ليس فقط لغرض إظهار دورها كأطر للتعبير والتغير، بل للحاجة الوطنية لأداة كفاحية ضد الاحتلال. هكذا يمكن فهم التوطين-الخصوصية: تأسيس محاور ومفاهيم التربية المدنية ارتباطا بمهمة مزدوجة: مهمة اجتماعية –ديموقراطية ومهمة وطنية.
لنتمعن في بعض مما ورد في كتاب لغتنا الجميلة للصف الثاني في وحدة الوطنيات وفي درس زيارة في ربوع الوطن.[16]. في الدرس المعنون بزيارة إلى يافا وبعد الفرحة بأن يافا ذُكرت رغماً عن قيود أوسلو، تعود لتمتعض من أن يافا ليست سوى البرتقال والليمون والبحر وحي العجمي. أين يافا التي سحقتها المستوطنة/ المدينة تل أبيب، لا تجدها. يافا الترحيل والتهجير أيضاً غائبة...فتغدو الذاكرة المستعادة هنا حول يافا ليست سوى دغدغة لعواطف لا تنفع جيلاً في شيء، مع أن التربية لهذا الجيل تقتضي الأمانة في نقل المعلومة: هجر الصهاينة أهل يافا في العام 1948 ومن ظل فيها من سكانها يواجه مخططات تذويب وتهجير من نمط آخر.
ونفس الشيء يقال عند تناول كتاب التربية الوطنية للاجئين في الدرس المعنون هكذا. يجري تعريف المخيم هكذا: مكان أُقيم للاجئين الفلسطينيين الذين اُجبروا على الرحيل عن مدنهم وقراهم في فلسطين، وهم مصممون على العودة إليها.[17] التهجير القسري، وحسب هذا النص، يقيد ضد مجهول، فلا ذكر للصهاينة ولا للاستيطان اليهودي على حساب أهل يافا وأرض يافا. والمفارقة الغريبة فعلاً، أن نقاشاً يدور منذ سنوات داخل المؤسسة الأكاديمية الصهيونية حول مدى مسئولية إسرائيل عن تهجير الفلسطينيين، ومنهم مَنْ بات يعلن " مسئولية ما للعصابات الصهيونية" عن التهجير، وإن كان ينفي أنه مخطط لها كجزء من المشروع الصهيوني. أليست تلك مفارقة حقاً.
 كما كانت أيضاً مجهولة هوية ذلك الجندي في درس زيارة إلى سجن النقب، مثلما هو مجهول، وفي نفس الدرس، السبب الذي من أجله كان السجين سجيناً.[18]
 
وهنا لا بد من الإشارة: إنني أعتقد، لما قيل أعلاه، أن هذا النمط من التربية المعزول عن الخصوصية، والتوطين حسب مصطلح مركز المناهج، قد جاء إما استجابة للاتفاقات السياسية مع الاحتلال، وإما خضوعاً لمطالب الممولين، وإما تعبيراً عن فهم سياسي اعتبر ولا زال أن الدولة على مرمى حجر، أو لليبرالية مدعاة، وربما لكل ذلك معاً. إن التوصية التي أتقدم بها يمكن تلخيصها بالتالي: لما كانت التربية المدنية حاجة اجتماعية، يجب إعادة صياغتها وتحديد أطر مفاهيمها لتتفق وخصوصية المرحلة الفلسطينية، مجتمعياً ووطنياً.
3.    والخصوصية الأخرى اجتماعية تتمثل في أن البنية الاجتماعية الفلسطينية طالها من التشويه الكثير الكثير لأسباب عديدة جلها مرتبطة بالمشروع الصهيوني في فلسطين، وعلى رأسها حسبما يحددها عزمي بشارة أن هذا المشروع أعاق المشروع الفلسطيني الذي كان قد بدأ مطلع القرن ببناء مجتمع المدينة-الحداثة بتعبير آخر. فاقتلاع الشعب دمر مكونات المجتمع وألحقه وحرمه من تطوير بنيته الاجتماعية المستقلة، لذلك عند الحديث عن بناء مجتمع مستقل ينبغي قبل كل شيء تحديد طابع هذا المجتمع، فهل نحن بصدد إعادة إنتاج المجتمع التقليدي، رغم نفحاته الحداثية، الذي كان سائداً قبل سنة 1948 ولا زال، تقليدياً ومشوهاً، أم إننا نهدف لبناء مجتمع حداثي، قادر على بناء مؤسسة وطنية ديموقراطية تطلع بمهام الصمود في وجه الاحتلال ومقاومته، وبكل ما يترتب على ذلك من توضيح لحدود المفاهيم والرؤى والتصورات والارتباطات..وبما يقتضيه ذلك من حداثة تحسم النقاش مع التراث، حسم التوصيف أعلاه للتراث؟
 مرة أخرى فالتوفيقية لا تبني حداثة، وانعدام الربط مع الخصوصية، من حيث الجوهر يشوه مفهوم الحداثة، ويحول العملية برمتها لمحض تقليد لما حدث في زمان سياسي ما يختلف عن زماننا، وفي وضعية اجتماعية ما تختلف عن وضعيتنا. وفي هذا يفترق المنهاج عن الحداثة التي يحاول أن يظهرها، فتغدو حداثته مزيفة. ومره ثالثة فإن التأسيس لمشروع حداثي يتطلب وضوحاً في المفاهيم وتحديدها بما ينسجم والهدف ذاته، والابتعاد عن العموميات التي تفسر تبعاً للاجتهاد الفكري والمصلحة الطبقية( العدالة الاجتماعية/ الديموقراطية/...). وارتباطاً بالخصوصية ذاتها يجب على التربية المدنية أن لا تقصر نفسها على المواطنين في حدود الضفة والقطاع -لاعتبارات الاتفاقات السياسية التي تحدد حدود السلطة في هذين الموقعين الجغرافيين - فالتوزيع الجغرافي للشعب الفلسطيني، واستهداف وجوده من الأساس، يتطلب بالمقابل التأكيد على هذه الوحدة والبحث عما يعبر عنها في المنهاج، وخاصة في التربيتين المدنية والوطنية، انطلاقا من ضرورة ارتباط التربية المدنية بالخصوصية الجوهرية ككل، وبالتالي ينبغي التربية على مفهوم "المواطنية الموحدة" دون اعتبار للضغوط.
 
 


[1] - دراسة قُدمت في مؤتمر عقدته مؤسسة مواطن- المؤسسة الفلسطينية لدراسات الديموقراطية- رام الله، وقد نُشرت في كتاب خاص بأوراق المؤتمر
[2]  عسالي، علياء. مجلة تسامح، العدد الرابع عشر، السنة الرابعة-أيلول. 2006. مركز رام الله لدراسات حقوق الإنسان.
[3]  المرجع السابق
[4]  قطامش، ربحي وآخرون. النظام التربوي الفلسطيني- الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والمعايير الدولية. مركز إبداع المعلم. 2004.ص 140. رام الله.
[5]  فريري، باولو. العمل الثقافي من أجل الحرية. ترجمة خليفة العزابي. المركز العالمي لدراسة وأبحاث الكتاب الأخضر. د. ت. ص 13
[6]  المنهاج الفلسطيني الأول للتعليم العام- الخطة الشاملة.  الجزء الأول- التقرير العام.إشراف د. إبراهيم أبو لغد. مركز تطوير المناهج. 1996. ص 11
[7]  معلومة استقاها الباحث بحكم عملة لفترة في فريق تأليف المناهج ( التربية المدنية للصفين السادس والثامن).
[8]  عاصي، جوني. النظرية والأيديولوجية في العلاقات الدولية منذ نهاية الحرب الباردة. ورقة استراتيجية قيد الطبع. معهد إبراهيم أبو لغد للدراسات الدولية، جامعة بيرزيت. 2006
 
[9]  المرجع السابق
[10]  المغربي، عبد الرحمن. ورقة قدمت في مؤتمر ( نحو إطار مفاهيمي للتربية المدنية في فلسطين) في العام 2001 نظمه مركز إبداع المعلم في رام الله.
[11]  للإطلاع أكثر على العلاقة بين الديموقراطية السياسية والديموقراطية الاجتماعية مراجعة كتاب حليم بركات ( الديموقراطية والعدالة الاجتماعية- في سبيل إغناء التجربة العربية) إصدار مواطن- المؤسسة الفلسطينية لدراسة الديموقراطية. آذار 1995.
[12]  كل الاقتباسات أعلاه من: خطة المنهاج الفلسطيني الأول- وزارة التربية والتعليم، الغدارة العامة للمناهج التربوية، مركز تطوير المناهج. 1998. ص 6- 11
[13]  لغتنا الجميلة، الجزء الأول. دولة فلسطين، وزارة التربية والتعليم العالي، مركز المناهج، 2004. ص 22
[14]  المرجع لاسابق ص 85
[15]  التربية الوطنية، الجزء الأول. دولة فلسطين، وزارة التربية والتعليم العالي. مركز المناهج. ص 12
[16]  لغتنا الجميلة، مرجع سابق.. ص 60
[17]  التربية الوطنية، مرجع سابق. ص 36
[18]  لغتنا الجميلة. مرجع سابق ص70