مدام ميرابيل القسم الأول1


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4779 - 2015 / 4 / 16 - 13:55
المحور: الادب والفن     

كلمة الناشر الفرنسي

مدام ميرابيل تروي مصير امرأة طموحة، تقودها قيم الثراء والجاه التي تُميز الوسط الاجتماعي لطفولتها. بعد الزواج من رجل غني، يدفعها ما أصاب أسرة الزوج من سوء حظ إلى الطلاق، فتنزل من عَليائها لتكتشف عالم العمل، حيث تعيش مع ابنتها على الراتب الهزيل لعاملة. لكن بعد مغامرات عدة يعرف سرها أفنان القاسم، ستعود إلى الوقوع في سهولة حياة الغنى وتفاهتها، قبل أن تجد أخيرًا خلاصها في اكتشاف الصدق والحب الغير المغرض، حب سيذهب بها إلى التضحية بنفسها. يرسم المؤلف هنا شخصية غريبة جذابة، تعيد القارئ إلى قصص الحب الكبرى العالمية المكتوبة بالدم والدموع، والمنذورة حتمًا للنهاية الفاجعة.



إلى ماري، أم الرب،
إلى ماري كوري،
إلى ماريان،
إلى مريم،
إلى ميريام،
إلى ماريلين، إلى مارغريت.



لن أقول تمامًا كما قال فلوبير:
مدام ميرابيل هي أنا.

مدام ميرابيل لي
ما الهوى للعشاق،
وللهالكين النار:
إنها وطني الكبير.



لم يكن لي الكثير من العمر عندما التقيت بسُلاف، مغربية كانتِ السِّحْرَ والفَتْنَ لكل النساء، الهوى والضنى لكل الرجال، المرأة الأولى التي أوحت إليّ بالحدس العظيم، ألا وهو أن الله ينهض في الصباح. كانت بجمالها للفؤاد شَغَفًا، لكني لم أكن أعرف بينها وبيني في الوداد فرقًا. أَعْدَتْنِي نظرتها، التي لم أدرك أبدًا إذا ما كانت لِسَوِيّ أو معتوه، بمرض لم أشف منه تمامًا.
كنت قد ذهبت إلى المستشفى، لرؤية صديقة حطت بها الصدفة، كما يبدو، في قسم الروماتيزم، بينما كانت تشكو من وجع في الكليتين، وكان سريرها يحاذي سرير هذه السُّلاف التي التقيت بها هناك بإرادة هذه الصدفة الغريبة التي جاءت بها، هي أيضًا، إلى هذا القسم، بعد محاولة انتحار. استغللت هذا الجوار الملائم للتعرف على الجميلة المجهولة، وفي الحال، أنار الضوء في عينيها السوداوين. أفضل بكثير من المكر أو الفجور، كان سحر مسلمات شمال أفريقيا، نساءٌ لدينا عنهن فكرة غائرة وغامضة، ضائعة بين صور الحجاب وهز البطن وألف ليلة وليلة. سحر طوعي لكنه حقيقي، نابض وصادق، متعذر كبته. عدت إلى المستشفى في الغد وبعد الغد، كي أَخضع لحسنها أكثر من وقوفي على أخبار صديقتي، التي كانت حالها تتحسن، والتي ستغادر المستشفى بين يوم وآخر. في اليوم الأخير، لم تكن سُلاف في الحجرة، وكانت زيارتي مضجرة. أرغمت نفسي على البقاء نصف ساعة، بدافع اللِياقة، ثم، عند ذهابي، قلت لنفسي إنه لمن الصَّبيانية أن أحلم هكذا بينا لن أصحب هذه البنت على التأكيد أبدًا إلى أي مكان، حتى ولو كان باستطاعتي ذلك، حتى ولو كانت ترغب في ذلك. كانت تبدو تجريبية، وكنت كثير العقلانية.
وأنا على وشك المغادرة، لاقيتها أمام مدخل المستشفى، وهي تدخن مع أشخاص افترضتُ أنهم أصدقاؤها، وألقيت عليها تحية المساء، بسعادة لم يخفها أي جهد من طرفي. رشقتني بنظرة، وأنا أحاول متابعة طريقي. غير أنني، لفائض سعادتي، سعادة صدفة ملحة للقاء لم أعد آمله، وشاعري جدًا، لتلك اللحظة، للذهاب نهائيًا دون أن أراها للمرة الأخيرة، لذكرها يومًا في إحدى رواياتي القادمة، استدرت، لكل هذا، بعد عشرين مترًا. كانت لم تزل تنظر إليّ، ومن الواضح أنها كانت تأمل هذه الخاتمة، إلا أنها نادتني. كانت إذن من تلك النساء اللواتي يعتقدن بالصدفة، وكن مستعدات لإلقاء أنفسهن في حكايات مستحيلة، شريطة أن يكنّ على حق، أصغر حق، في الاعتقاد بها. عرفت عندئذ أن باستطاعتي، إذا ما آن الأوان، أن أكون واحدًا من أولئك الرجال الذين يقطفون الأقمار. كانت ترتدي مَشّايات من قماش وروب دو شامبر أزرق فاتح، مع هذا الظرف المعيب لامرأة يفاجئها المرء عند النهوض من الفراش. وكان لها حوض أوسع قليلاً مما يجب، لامرأة وضعت –أوسع قليلاً مع أن أثره عليّ كان سكريًا- غير أن اطمئنانها ومرحها امتزجا بسحر وسواد عينيها وشعرها. غضضت الطرف عنها لأتركها تقترب على مهلها أفضل ما يكون، كانت تود رؤيتي، ولم يكن لدينا ما نكتب به، فحفرت رقم هاتفها في ذاكرتي، وأنا أتظاهر بعدم بذلي أدنى جهد، وكأني وُشِمْتُ بالحديد. خرجتْ من المستشفى، وهاتفتها. طلبتْ مني أن أعدها، فوعدتها. وعدٌ بلا جدوى، بعد كل حساب، لكني لم أنس أبدًا هذا الرقم، رقمٌ حملته طويلاً كتبكيت الضمير.
مع ذلك، عدت إلى البيت مذهولاً كنبيّ، سنيًا، ربانيًا، منيرًا، مجنحًا، وأنا ألمظ كل هذا السحر الشهواني ببخل مفرط، وأنا أنأى أكثر ما يكون بحقيقة أنها لم تكن كاملة بما أنها طلبت مني أن أعدها –مما جعلني أحزر أنها ليست المرة الأولى التي تنتظر فيها هاتفًا من غريب. محاولة انتحار! نصحوني بألا أتورط في قصص مع هذه المريضة، ومع إحساس بالخطأ والصواب، اقتنعت بأن الجميلة والسرية سُلاف ستأتلق في ذاكرتي بشكل أفضل مما هي عليه في عُقَدِ مغامرةٍ ستنتهي حتمًا بالتهديد بالموت.
للحب آلهاته...
منذ ذلك الحين، عرفت مائتي امرأة، في حياتي. على الأقل. وكنت أستطيع بالتأكيد أن أعرف أكثر، ولكن ما الفائدة؟ أيًا كانت السعادة التي يوحين بها، أليس للنساء من الملل دومًا، في الركام، كما لليالي، للأفكار، للسجائر... وكما لكل شيء. نسبة مئوية في الإفراط سينتهي بها الأمر بالارتفاع ارتفاع الدخان، بالعبور في أثير الزمن، وبتعليمنا، بشيء من الخديعة، أن ننفتح شيئًا فشيئًا على النسيان. لحسن الحظ، هناك واحدة أو اثنتان، ربما، بينهن، وحتى ربما ثلاث، حسب طموح القلب أو عدم رضى الذكرى، يتأرّجن بعطر الخلود، ويغدون في نفوسنا المرجع الواعي أو اللاواعي، المقياس، لكل النساء الأخريات، السابقات واللاحقات، منذ الوقت الذي يعطرنهن فيه حسب رغبتهن. هل هن أكثر جمالاً أم أكثر كمالاً؟ لقلبنا القبيح واللاكامل، على أية حال، يبدون فريدات رائعات ومثاليات.
غير أن هذا ليس من فعل نزواتنا وحدها، فعلى النقيض من أسطورة الإعجاب بالنفس، وبغباء أسطورة الكياسة، التي مع الأسف انتشرت في حضاراتنا الحديثة، لا يكفي، هيهات، وقلبنا يتوقع ذلك، أن أولد امرأة لأكون امرأة. ما يلزمها من السحر الشيء الكثير، من الحضور. لمعظمهن، لا تعرف النساء أنفسهن، لا يزدهرن حقًا كنساء قبل أن يغدون نساء في المجتمع، قبل أن يغدون بالغات، عندما تتردد طبيعتهن المراهقة بين أن تضطلع بصدقها الأوّلي وأن تحاول التوافق مع العديد من الأعراف التي تسحقها. بعد ذلك، لا أحلام، لا حياة، لا شيء غير التخلي، الفتور، الظاهر، خراب المثالية، أحسن، تحولها إلى مبادئ بخضوعها للأسطورة اللاكاملة والناحلة، قِوام هذه الهوية الوحيدة. المرأة، المرأة الحقيقية، تُشَم، تُرى، تُعرف بين آلاف. بين ملايين.
سُلاف؟... كانت سُلاف المرأة الحقيقية قطعًا، وكان عليّ أن أنتظر عدة سنوات حتى أطّلع في النهاية على أسرارها، لما اشتدت عليّ الحمى فجأة دون إشعار، ودفعة واحدة، على مرأى واحدة أخرى من تلك الطُّرَف الرائعة. كالصاعقة الماحقة الصاعقة الساخطة، قررت أن أصلح خطأي الماضي في الحال، ألا أترك، ترك الطائش، هذه السُّلاف الجديدة اللامُنْتَظَرَة، تطير من بين يديّ.


يتبع 2 من القسم الأول