قراءة في المكانة والدور لكل من -الطبقة الوسطى- و -البرجوازية الصغيرة-قراءة في المكانة والدور لكل من -الطبقة الوسطى- و -البرجوازية الصغيرة-


غازي الصوراني
الحوار المتمدن - العدد: 4779 - 2015 / 4 / 16 - 12:11
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


قراءة في المكانة والدور لكل من "الطبقة الوسطى" و "البرجوازية الصغيرة"
(ورقة مقدمة إلى مؤتمر العلوم الاجتماعية – جامعة بيت لحم – 15/4/2015)
 
الزميلات والزملاء الأعزاء.. كل التقدير والاحترام للقائمين على هذا المؤتمر الذي يفتح الباب لحوار ونقاش جاد ومسئول لحقل من حقول المعرفة التي تشكل موضوعياً الأساس المادي للفكر السياسي والاجتماعي المثمر.
 
في تناولنا للأوضاع الاجتماعية تحديداً، نشير إلى ان "الطبقات الحديثة" في بلادنا ولدت من احضان التشكيلات والعلاقات ما قبل الرأسمالية دون ان تقطع مع القديم بل حملت في ثناياها ملامح القديم ومازالت... وبالتالي لم تصل بعد الى مرحلة الفرز الطبقي النهائي ، فلا تزال العديد من الطبقات والفئات الاجتماعية متداخلة ومتشابكة ، ولا تزال فئات واسعة من السكان في المجتمعات العربية ذات اوضاع اجتماعية انتقالية ولم يتحدد انتماؤها الطبقي بصورة نهائية ، فالوجود الطبقي المتبلور لابد أن يعكس وعياً محدداً ، إذ أنه بدون ذلك الوعي فلا وجود للطبقات إلا ذلك الوجود الكمي أو وجود الطبقة بذاتها وليس لذاتها.
ففي ظروف التطور الاجتماعي الاقتصادي الراهن للبنية الطبقية في المجتمعات العربية، واستمرار استتباعها وتخلفها واحتجاز تطورها، يصعب الحديث عن خارطة طبقية محددة لهذه البنية التي لم تصل بعد إلى درجة من التبلور أو الفرز الطبقي الذي وصلته المجتمعات الحديثة، وذلك بسبب استمرار استتباع وتخلف مجتمعاتنا من ناحية، واستمرار تداخل واختلاط الانماط الاجتماعية القديمة وتأثيرها في إعاقة التطور الاجتماعي الحديث من ناحية ثانية.
فإذا كنا نسلِّم بأن الطبقات الاجتماعية في أوروبا والمجتمعات الرأسمالية المتقدمة، قد لعبت دوراً مركزياً في تطوير وتحويل وتحديث مجتمعاتها، إلا أن "الطبقات" في مجتمعنا لم تلعب هذا الدور بعد، بسبب سيولتها وعدم تبلورها أو هزال بنيتها الطبقية، بحكم تبعية وتخلف مجتمعاتنا العربية تاريخياً، وبسبب ما يجري اليوم من إعادة انتاج التخلف والانحطاط الاجتماعي الذي يعيد انتاج عصبية الطائفة وعصبية العشيرة على حساب مفاهيم الوطن والمواطن والديمقراطية وحرية الرأي والتحرر والتطور الاجتماعي والاقتصادي التي باتت اليوم في قاع سلم الأولويات ، مما يعزز عرقلة التطور الطبقي في بلادنا وابقاءه في حالة من السيولة لا نعرف لها زمناً محدداً تنتهي عنده وتستقر.
وهنا تتجلى معضلة التحليل الطبقي لمجتمعنا الفلسطيني ومجتمعاتنا العربية المحكومة حتى اللحظة لشرائح اجتماعية في أنظمة تابعة ومتخلفة ، هي خليط طبقي من بقايا الأنماط الاجتماعية القديمة والحديثة الشكلية التي تسودها وتحكمها العلاقات الرأسمالية الرثة المتداخلة فيما بينها في إطار تتنوع وتتجاور فيه الخصائص والسمات الطبقية العشائرية مع شرائح الكومبرادور من ناحية، ومع شرائح البيروقراطية المتنفذة (العسكرية والمدنية) من ناحية ثانية، في مقابل عدم تبلور الشرائح البرجوازية الطبقية بالمعنى الحداثي العقلاني المستنير، إذ أن التطور الاجتماعي الفلسطيني والعربي المشوه أدى إلى افتقاد مجتمعنا لهذه الطبقات المدركة لذاتها ولوعيها الطبقي، ومن ثم عجزها عن امتلاك رؤية وطنية ديمقراطية وتنموية ، إلى جانب عجزها عن خدمة أو خوض عملية الصراع التحرري والطبقي.
وفي مثل هذه الأوضاع ، تنشأ حالة من الالتباس أو الخلط المعرفي عند تحليلنا لتطور أوضاع ومفاهيم الطبقة البرجوازية المتوسطة أو الرأسمالية الوطنية من جهة، والبرجوازية الصغيرة من جهة ثانية، رغم اعتقادي بأن معظم المفكرين وعلماء الاجتماع اللذين تناولوا هذين المفهومين ، لم يحددوا التخوم الواضحة بين البرجوازية المتوسطة والصغيرة، دون أن اتجاوز مرحلة ظهور البرجوازية المتوسطة أو الرأسمالية الوطنية في مرحلة رأسمالية الدولة الوطنية في مصر عبد الناصر، والتي سرعان ما تفككت وانتهت بعد رحيله (بمثل انتهاء نفس التجربة في أندونيسيا سوكارنو وفي غانا نكروما.. إلخ)، ولم يعد بالامكان توفر أية فرص لإعادة إنتاج دور البرجوازية الوطنية في كافة بلدان العالم الثالث ، خاصةً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي وتفاقم التحولات العالمية في إطار نظام العولمة وشروط منظمة التجارة الدولية والبنك والصندوق الدوليين، إلى جانب تفاقم مظاهر التبعية والتخلف والهيمنة الطبقية الكومبرادورية على مجمل بلدان العالم الثالث عموماً وبلدان الوطن العربي خصوصاً، الأمر الذي حال دون إعادة إنتاج البرجوازية الوطنية أو المتوسطة في هذه البلدان .
لذلك كله أرى أن الحديث عن البورجوازية الصغيرة بشرائحها الثلاثة العليا والمتوسطة والدنيا (كطبقة موجودة تاريخياً في كافة التشكيلات الاجتماعية ما بعد المشاعية)، هو أكثر موضوعية وجدوى من الحديث عن البورجوازية المتوسطة، لأن هذه الطبقة الحديثة التي نشأت في ظروف النهوض العربي أو رأسمالية الدولة، لم تعد قادرة  على إستعادة الدور النهضوي والتنموي بالمعنى الوطني، وتظل دوماً –في ظروفنا الحالية- تتطلع إلى الدخول في صلب البورجوازية الكومبرادورية، ذلك إن هذا الحديث عن البورجوازية المتوسطة سيحمل بالضرورة مضمونه الاقتصادي وتعبيره السياسي، فإما أن تكون وطنية أو غير وطنية (كومبرادورية)، وحينما نتفق على أنها بورجوازية وطنية، معنى ذلك أنها في تناقض مع المنتجات الصهيونية والأجنبية المستوردة من ناحية، ومع البناء الفوقي السياسي للنظام الامبريالي الصهيوني وشروطه من ناحية ثانية، فهل لدى ما يسمى بـ"البورجوازية المتوسطة" عندنا، مصلحة في مجابهة الممارسات الصهيونية والامبريالية على الصعيد الاقتصادي، وهل لديها مقومات ونزعات عقلانية تنويرية تعبر عن مصالحها الطبقية؟  وهل هي معادية فعلاً للاستبداد وممارسات التخلف والقمع من "حكومتي فتح وحماس"؟ وهل هي بالفعل طبقة متوسطة وحدوية وديمقراطية تجسد قناعاتها عملياً ضد الانقسام القائم ومن أجل بناء نظام ديمقراطي وطني فلسطيني؟ وما هو حجم هذه الطبقة المتوسطة في الضفة والقطاع ؟
اعتقد أن الإجابات الموضوعية على هذه التساؤلات لا تجد لها إطاراً طبقياً واقعياً في مجتمعنا الفلسطيني بما يجسد مفهوم الطبقة الوسطى كطبقة قائمة بذاتها ولذاتها، مما يجعلنا نعيد النظر في تعبير "البورجوازية المتوسطة" واستبداله بالمفهوم المجسد في واقعنا ، وأعني بذلك طبقة البرجوازية الصغيرة بشرائحها الثلاث (الشريحة العليا ، والوسطى ، والدنيا)، والخوض فعلاً في تحليل شرائح هذه الطبقة باعتبارها الطبقة الواسعة الانتشار، والذي يتجاوز حجمها 60% من سكان الضفة والقطاع.
في كل الأحوال، فإن استمرار البحث والمتابعة لمكونات واقعنا الاجتماعي، مسألة في غاية الأهمية ارتباطا بدواعي التغيير الوطني والديمقراطي المستقبلي المنشود.
 
الطبقة الوسطى واشكالية المفهوم والتحديد الإجرائي  :
رغم تعدد البحوث التي تناولت المواقع الوسطى بالتعريف والتحليل؛ فإنها في مجملها لم تتفق على شيء قدر اتفاقها على صعوبات وإشكاليات التحديد النظري والإجرائي لتلك المواقع.
ويرجع هذا الالتباس وتلك الصعوبات إلى عاملين: أولهما خاص بطبيعة تلك المواقع التي تتكون من خليط متنافر وغير متجانس من المكونات ، ومن ثم يصعب تجميعها بدقة في إطار مفهوم واحد.
ويتعلق الثاني بنوعية الأطر النظرية ، والتوجهات الأيديولوجية للباحثين في مجال دراسة الطبقات، فلكل منها محدداته، حتى بين المنتمين إلى الإطار النظري الواحد[1].
إن هذه الأوضاع المتناقضة للمواقع الوسطى تعد من اهم التحديات التي تواجه تحديد مفهوم "المواقع الطبقية الوسطى" أو البورجوازية الصغيرة، فهي طبقة غير متجانسة ، تحتل مواقع اقتصادية اجتماعية متنوعة متناقضة بحكم انقسامها إلى شرائح عليا ووسطى ودنيا، فالشريحة العليا تتطلع إلى الارتقاء صوب المواقع الرأسمالية، في حين تعيش الشريحة الوسطى عموماً والدنيا خصوصاً حالة دائمة من الخوف والقلق نتيجة ظروف وآليات الافقار والاستغلال التي  قد تدفع بها إلى المواقع العمالية.
المسألة ، التي أدعو الى تأملها والتفكر فيها ومناقشتها بصورة موضوعية، هي مسألة الالتباس حول مفهوم هذه الطبقة وشكل تطورها ووجودها ودورها، عبر الملاحظة التالية:
لا بد من تحديد المقصود بالطبقة الوسطى وماهيتها ، تحديداً وإيضاحا للمفهوم ومغزاه أو دلالاته الاجتماعية والسياسية، وهو مفهوم يتقاطع ويتداخل مع مفهوم "الرأسمالية الوطنية" الذي ساد في بعض البلدان العربية (مصر خصوصاً) ستينيات القرن الماضي، والتي لم يبق لها دورٌ رئيسٌ أو مركزيٌ في مسار التطور الاقتصادي والاجتماعي الراهن في البلدان العربية أو في العالم الثالث، ارتباطاً بطبيعة التطور الرأسمالي المعولم، وشروطه وضغوطاته على بلدان العالم الثالث واحتكاره لأسواقها المحلية المفتوحة بلا أية قيود أو ضوابط.
وفي حال اتفقنا على غياب تبلور وترسيخ الدور الوطني للرأسمالية الوطنية أو البورجوازية الوطنية فلا معنى للحديث عن بورجوازية متوسطة إلا في إطار بورجوازية الكومبرادور وبقية الشرائح البورجوازية العليا (صناعية / زراعية / عقارية ومالية..إلخ)، لانها هنا مضطرة ذاتياً وموضوعياً بحكم تمايزها في الدخل أو الثروة للتعاطي المصلحي والتابع للشرائح العليا، وبالتالي هي شريحة طبقية لديها مقومات القاعدة المادية للإنتاج وتشكل الجزء الضعيف من البورجوازية الكبيرة الكومبرادورية او العقارية أو المالية أو الصناعية أو الزراعية أو الخدماتنية.. إلخ، بعد أن تلاشت الظروف التاريخية صوب تحولها إلى بورجوازية وطنية.. وهي أيضاً على النقيض من البورجوازية الصغيرة، "طبقة" موحدة ومتجانسة لا تمتلك رؤية أيديولوجية متكاملة أو ناضجة بالمفهوم الليبرالي ، بحكم عدم تبلورها، وعدم وعيها لذاتها ، لكنها تملك وعياً بمصالحها يتطابق إلى حد معين مع رؤى ومصالح البورجوازية الكبيرة بكل انواعها المشار إليها أعلاه.
فالبورجوازي المتوسط  (كما عرفته تجارب أخرى تبلورت طبقياً ) قد يتطلع إلى تطبيق الحريات الليبرالية بالمعنيين الاقتصادي (حرية السوق والحركة)، والسياسي عبر وعي أحادي لمصالحه، على العكس من البورجوازية الصغيرة التي شكلت تاريخياً –وما زالت- وعاءاً لكافة الأفكار من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار وصولاً إلى التيارات الوسطية الانتهازية والتيارات الدينية المتطرفة بمختلف ألوانها.
فالبرجوازي الصغير، صاحب ملكية (حرفة أو ورشة أو منشاة مزرعة صغيرة) لكنه يعمل بنفسه، وهو موجود في بلادنا بشكل رئيسي في مجال الخدمات والتجارة والزراعة، وبالتالي فهو مالك وشغيل، رب عمل، وعامل، مهني صغير، موظف، مدني أو عسكري، أو طبيب أو محامي أو مهندس، طالب جامعي أو مثقف… الخ، ولذلك فإن التردد، أو الموقف التوفيقي والحلول الوسط والتقلب وعدم الاستقرار، والتذبذب، والانتهازية والتطرف أو الاندفاع السريع، والهبوط أو التراجع السريع أيضا، والتسويات والمواقف اللامبدئية، من اهم مواصفات البرجوازي الصغير، حسب الظرف الزماني وحسب المكان والعلاقات المحيطة به، فهو مسلم متعصب في ظروف معينة، وهو يساري متطرف في ظرف آخر، أو هو توفيقي وسطي انتهازي أو سريع الاستسلام والهروب من الواقع، وكل ذلك لا يلغي إمكانية توفر القائد أو الكادر الديمقراطي واليساري الثوري إذا ما إمتلك الوعي العميق والإرادة القوية للإنسلاخ عن طبقته.
لذلك، أرى أن استخدام مصطلح »البورجوازية الصغيرة« بشرائحها الثلاث: العليا، والمتوسطة، والدنيا. هو الأكثر دقة واقتراباً وتفسيراً للواقع الاجتماعي في بلادنا، وهو واقع يوفر سبل السيطرة والهيمنة للبورجوازية الكبيرة بكل شرائحها التجارية والصناعية والزراعية والمالية والعقارية وهي شرائح تتميز بطابعها الرث، الكومبرادوري الطفيلي التابع.
وبالتالي فإن هذه الهيمنة والسيطرة والانتشار لمختلف شرائح "البورجوازية الكبيرة" في بلادنا ، في إطار اندماجها المصلحي مع النظام الحاكم من ناحية والنظام الرأسمالي العالمي من ناحية ثانية، تجعل من امكانية توفر قاعدة مادية للانتاج الرأسمالي الوطني القادر على توليد وبلورة الوجود الطبقي للبورجوازية المتوسطة أمراً مستحيلاً
وهنا بالضبط يمكن ان نتوصل إلى الاستنتاج الذي يؤكد على ضرورة توفر القاعدة المادية للانتاج كشرط من شروط الاستدلال على وجود الطبقة الوسطى، سواء المعبر عنها بذاتها او المعبر عنها لذاتها، وفي حال توفر وعيها لذاتها بالمعنى السياسي والفكري الذي يعكس مصالحها الطبقية ، فإنها ستعمل بالتأكيد على بلورة ذلك الوعي في توجه سياسي فكري اقتصادي ليبرالي احادي البعد باتجاه يساعدها على الارتقاء والتقدم صوب تكريس وتطوير مصالحها الطبقية لتحقيق المزيد من مراكمة الارباح ورأس المال، ولن تكون معنية، كطبقة وسطى، بالتعاطي مع التعددية السياسية أو الفكرية، بل تسعى إلى تحقيق طموحها في الاندماج مع البورجوازية العليا، التجارية الكومبرادورية أو الصناعية او العقارية أو المالية، بما يعزز استقرارها الطبقي، وبالتالي يستحيل هنا أن تفكر نخبها في تأسيس أطر سياسية اشتراكية أو قومية أو دينية نقيضة لمنلطقاتها ومصالحها الاقتصادية /الطبقية، ما يعني من وجهة نظري أننا امام الشريحة الوسطى من الطبقة البورجوازية الصغيرة التي تجد مصلحتها في دعم وتأييد هذا النظام أو ذاك من الأنظمة ذات الدخل المرتفع الذي يضمن صمتها مثل النظام الديني الثيوقراطي في ايران من جهة والسعودية والخليج من جهة أخرى رغم التناقض السياسي بينهما، أو أنها تسعى مع الشريحتين الأُخرتين: الصغرى والعليا إلى تجسيد مشاريع أو رؤى وبرامج وأحزاب وحركات سياسية وطنية أو قومية أو دينية أو اشتراكية كما جرى في بلادنا.
 ففي ضوء توفير فرص الحياة والدخل المرتفع رغم مظاهر الاستبداد وقمع حرية الرأي، إلا أن البورجوازية الصغيرة ومعها "البورجوازية المتوسطة" المفترضة مندمجة كلياً لشروط الطبقة العليا السائدة في إيران أو في السعودية والخليج، ولا توجد -حتى اللحظة- اية ارهاصات ضد الطبقة السائدة على طريق النضال الديمقراطي الثوري.
وحتى لو اتفقنا على وجود شريحة بورجوازية متوسطة تمتلك نسبياً قاعدة مالية أو انتاجية ، فإنها في ظروفنا الراهنة لا يمكن الا ان تندمج مصلحياً في إطار التحالف الكومبرادوري الطفيلي.
وبالتالي لا معنى أو قيمة للقول بالبورجوازية المتوسطة لأن ذلك يستدعي ايديولوجية متوسطة هي في الحقيقة أيديولوجية البورجوازية الصغيرة المتعددة الفروع والمنطلقات السياسية بين اليسار واليمين والوسط، فالايديولوجيا السائدة هي ثقافة وايديولوجية البورجوازية السائدة وهي في بلادنا بورجوازية رثة وتابعة.
ولذلك لا يمكن الحديث عن ايديولوجية خاصة بالبورجوازية المتوسطة كطبقة مستقلة موجودة بذاتها ، بحكم انها غير متبلورة في مجتمعنا ،الا اذا اعتبرناها مجموعة فرعية او شريحة متوسطة من البورجوازية الصغيرة  .
لذلك كله أرى أن الحديث عن مفهوم "الطبقة" المتوسطة يصبح أكثر وضوحاً وتحديداً وملموسية حينما نتناوله من خلال الحديث عن الشريحة الوسطى من الطبقة البورجوازية الصغيرة التي تتوزع على ثلاث شرائح: العليا والمتوسطة والدنيا. إذ أن "الفئات المتوسطة لا تشكل طبقة أو عدة طبقات اجتماعية بالمعنى الدقيق للكلمة، فليس هنالك طبقة وسطى بل مجموعة من الفئات الاجتماعية المتباينة الموجودة في مركز متوسط تحتله البورجوازية الصغيرة يحدد وضعها كطبقة وسيطة بين البورجوازية والطبقة العاملة.
 
حول التداخل والخلط بين مفهومي البورجوازية المتوسطة والصغيرة :
في هذا السياق أعود إلى الحديث عن الخلط المعرفي لدى العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع الذين لم يفصلوا بين البوجوازية المتوسطة والصغيرة فصلاً واضحاً أو حاسماً ، بل اكدوا في كتاباتهم على قبولهم بالتداخل بين الطبقة الوسطى والطبقة البرجوازية الصغيرة، نلاحظ ذلك لدى نيكوس بولانتزاس في مقدمة كتابه "الطبقات الاجتماعية[2] في حديثه عن البورجوازية الصغيرة التي "تنقسم إلى بورجوازية صغيرة تقليدية وبورجوازية صغيرة حديثة المسماة "الفئات الوسطى الجديدة".
أما الفيلسوف الفرنسي الراحل جورج لابيكا ، فلا يرى فرقاً بين البورجوازية المتوسطة والصغيرة ، حيث يقول : "يمثل هذا المفهوم (بورجوازية صغيرة/ طبقة متوسطة) واحداً من أعسر المفاهيم تحديداً وأكثرها على المستوى النظري غموضاً ، على الإطلاق، وليس من قبيل الصدفة أن يحمل العنصر البورجوازي الصغير هذا الاسم، فهو أكثر العناصر ميوعة وأصعبها تحديداً وأقلها وعياً، فهوية البورجوازية الصغيرة، بالمقارنة مع الهوية الثابتة للبورجوازية أو للبروليتارية (أو الطبقة العاملة) أو حتى للمزارعين، تتأرجح بين الكلمتين اللتين تكونان اسمها: فهي "بورجوازية" لكنها في الوقت نفسه "صغيرة" فهل تبقى فعلاً "برجوازية"؟[3]
 ويضيف قائلاً "إن الملاحظة نفسها تنطبق على مفهوم الطبقة الوسطى. فهي طبقة وسطى لكن لأي وسط؟ وما هو المستوى المتوسط المقصود؟ وما هو دورها؟ هل الربط أم الفصل، وما هو مضمون هذه الطبقة؟ ما هي مكوناتها؟ هل هي تلك التي يسهل تعريفها سلبياً كأن نقول مثلاً اللاعامل أو اللارأسمالي، هل نقصد ذلك القريب والمغاير في الوقت نفسه ، أي المنتج الصغير والشغيل اللامنتج؟ أم نقصد أولئك الآخرين، أي التجار والحرفيين والملاكين الصغار والمثقفين والمستخدمين وأصحاب الريوع؟ لكن كيف يمكن أن نحشر كل هؤلاء في صف واحد؟ ومن أين انحدروا؟ هل من علاقات الإنتاج القديمة أم من علاقات الإنتاج الرأسمالية؟
 قبل الإجابة عن كل هذه الأسئلة لابد من التعرض إلى دلالة هذا الواقع الموجود "بين بين". فالبرجوازية الصغيرة هي إذاً تلك "الطبقة الوسطى" ، أي بمثابة طبقة المرور أو الانتقال التي "تذوب في صلبها مصالح الطبقتين المتعارضتين"[4].
على أي حال ، بالنسبة للعلاقة بين البورجوازية المتوسطة والبورجوازية الصغيرة لا خيار أمام الباحث أو الأكاديمي سوى ملاحظة ذلك التداخل من حيث المفهوم والمكونات بين الفئات الوسطى والبورجوازية الصغيرة، لكنه تداخل يؤدي إلى الإرباك بسبب هلاميه مصطلح الطبقة الوسطى، كما يشير إلى ذلك عبد الغفار شكر[5] والمفكر الراحل د.رمزي زكي، الذي يرى "أن مصطلح الطبقة الوسطى هو مصطلح هلامي وفضفاض حيث يفتقد إلى الدقة العلمية إذا ما استندنا على صرامة المفهوم العلمي لمصطلح "الطبقة""[6].
فالطبقة –كما يقول د. رمزي زكي- هي "مجموعة كبيرة من الناس التي تتجانس فيما بينها – في ظل تكوين اجتماعي محدد- من حيث موقعها من عملية الانتاج وموقعها من ملكية وسائل الانتاج، وبالتالي من حيث أسلوب تحصيلها للدخل وبكمية هذا الدخل، أما مصطلح الطبقة الوسطى فهو يضم في الواقع كتلة واسعة من الفئات الاجتماعية التي تتباين فيما بينها تبايناً شديداً من حيث موقعها من عملية الانتاج ومن ملكية وسائل الانتاج، وتتباين، بالتالي، في حجم ما تحصل عليه من دخل"[7].
 وهنا بالضبط يتحدث د.رمزي زكي عن مواصفات الطبقة البورجوازية الصغيرة وليس عن الطبقة الوسطى، خاصة حين يقول"واذا كان من المفترض ، أن الطبقة، تتسم غالباً بوحدة الوعي الطبقي بين أفرادها وتجانسهم ، في المواقف الاجتماعية والسياسية؛ إلا أن هذا الانسجام غير موجود في حالة الطبقة الوسطى، حيث غالباً ما يسود بين صفوف هذه "الطبقة" مختلف ألوان الفكر الاجتماعي والسياسي.
ولهذا، هناك من يرى، أنه من الأفضل أن نتحدث عن "طبقات وسطى" وليس "طبقة واحدة"[8]، وعلى هذا الأساس ، يؤكد د. رمزي زكي أنه يستخدم هنا "مصطلح "الطبقة الوسطى" تجاوزاً".
بعد ذلك يقوم د. رمزي زكي بتقديم تعريف للطبقة الوسطى لا علاقة له بهذه الطبقة ، بقدر ما هو تعريف واضح للبرجوازية الصغيرة، حيث يقول : "ان هذه الطبقة تمثل مختلف الشرائح الاجتماعية التي تعيش، بشكل أساس ، على المرتبات المكتسبة في الحكومة والقطاع العام وفي قطاع الخدمات والمهن الحرة الخاصة، بمعنى أنها تضم أيضاً من يعملون لحساب أنفسهم".
أما عالم الاجتماع المصري الراحل د.عبد الباسط عبد المعطي، فيقول: "البرجوازية الصغيرة هي أحد أهم المواقع الوسطى، التي ثار جدل واسع وممتد حول توصيفها، هل هي الشريح الدنيا من الرأسمالية، أم أنها تمثل موقعاً طبقياً له خصائصه النوعية والخاصة؟ ورغم أن المجال لا يتسع لمناقشة حاسمة في هذا الصدد، فإنها في مجملها تمثل الجماعات الأكثر تعقيداً وتداخلاً نظراً لتركيبتها المتناقضة . وهي تضم  من بين ما تضم- العناصر الأكثر قدماً وتقليدية من مكونات الطبقة الوسطى فهي في بعض التحليلات "الطبقة التي تملك ، ولكن ملكيتها  - سواء من حيث الإدارة أو الحجم – لا تفضي بها إلى حراك صاعد نحو شرائح الرأسمالية، كما أنها أيضاً الطبقة التي تخشى – خشية الموت- الهبوط إلى الطبقة العاملة. ولهذا فهي تتمسك حتى النهاية بتراث الملكية الفردية، ولكنها في صراع طبقي ضار مع الطبقات الأعلى، وفي الوقت نفسه – نتيجة لتناقضها البنيوي –تتضامن وتتحالف أحياناً مع الذين تخشى السقوط بينهم".[9]
وعن المواقع الوسطى والتداخل مع البورجوازية الصغيرة، يقول د.عبدالباسط عبد المعطي: "تتألف الطبقة أو المواقع الوسطى من مجموعة متباينة من الأقسام والشرائح نتيجة لتباين مواقعها من علاقات الإنتاج. فهي تضم البرجوازية الصغيرة، التي تعد أحد مكونات المواقع الوسطى والتي كانت تضم صغار حائزي الأرض الزراعية، كما كانت تضم من يعملون لحسابهم ولا يستخدمون عملاً مأجوراً على نحو يسمح بتحقيق تراكم رأسمالي، كأصحاب الورش، والمصانع، والموظفين، المحلات العاملة في النشاطات الاقتصادية المختلفة"[10].
كما تضم أيضاً رجال العلم والثقافة وأصحاب المهن الفنية والمحامين والمحاسبين وغيرهم من أصحاب المهارات ، وتعيش كل هذه الفئات في تباينات دائمة بين بعضها البعض وفي داخل كل منها، كما تقسمها الانتماءات الدينية (بكل تلاوينها)، إلى جانب الإنتماءات والأحزاب الليبرالية واليسارية. [11]
هذا التوصيف ينطبق تماماً على الطبقة البورجوازية الصغيرة بكل شرائحها العليا والوسطى والدنيا، وما يفرزه هذا التكوين الثلاثي من اختلافات وتناقضات فيما بين اطرافه، كما هو الحال في التكوين الاجتماعي لهذه الطبقة البورجوازية الصغيرة في المجتمع الفلسطيني.
ان هذا الخلط والارباك المفاهيمي حول العلاقة بين البورجوازية المتوسطة والصغيرة ، نلحظه ايضا  في كتاب د.جميل هلال -الطبقة الوسطى الفلسطينية-  حيث يشير بوضوح إلى حالة الإرباك و"الخلط بين البورجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى عند مراجعة الأدبيات المعنية بالطبقة الوسطى"[12]، فيقول : "ويساهم في إرباك مفهوم الطبقة الوسطى الحديثة الخلط بين فئاتها فئات البرجوازية الصغيرة ( أو الطبقة الوسطى القديمة أو التقليدية) من أصحاب الدكاكين والحرفيين وصغار الفلاحين وأصحاب المشاريع الصغيرة" [13] (هنا لا يفرق د.هلال بين البرجوازية الصغيرة والمتوسطة).
أما استنتاج د.جميل هلال لسمات الطبقة الوسطى في الضفة الغربية، في قوله أن "الطبقة الوسطى الفلسطينية غير قادرة على حمل مشروع ليبرالي ديمقراطي، وهي لا تستطيع حسم الهوية السياسية للنظام السياسي الفلسطيني"[14]، فإنني أعتقد أن هذا الاستنتاج ينطبق تماماً على البورجوازية الصغيرة وليس على الطبقة الوسطى، لأن الطبقة الوسطى هي تاريخياً التي حملت المشروع الليبرالي في أوروبا بعد انتهاء مرحلة المانيفاكتوره ، وبداية تطلع البورجوازية الصاعدة آنذاك صوب القطيعة مع النظام الاقطاعي، استجابة لمقتضيات تطورها الانتاجي السلعي وتراكم رأسمالها وتبلورها كطبقة بورجوازية صاعدة استلهمت الأفكار الليبرالية ، كما عبر عنها الأب الروحي لليبرالية الاقتصادية آدم سميث، وكما عبر عنها أيضاً كبار المفكرين والفلاسفة في عصر النهضة وصولاً إلى انتصار الثورات البورجوازية في فرنسا 1789 وبقية أوروبا، ومن ثم تكريس وانتشار مفاهيم المساواة والحرية والفردية والمواطنة والديمقراطية وكافة المفاهيم الليبرالية التي استجابت وتطابقت مع شعار آدم سميث "دعه يعمل دعه يمر" .
لذلك ، أؤكد على وجهة نظري –القابلة للنقاش- بخصوص افتقار مجتمعنا الفلسطيني (والعربي) إلى وجود طبقة بورجوازية متوسطة تستند إلى قاعدة انتاجية رأسمالية محددة تمكنها من حمل مشروع فكري ليبرالي يتسجيب لطموحاتها البورجوازية أو الرأسمالية، ما يعني أن "عدم قدرة الطبقة الوسطى الفلسطينية" على حمل مشروع ليبرالي يعود بالدرجة الأساسية إلى عدم وجود هذه الطبقة لذاتها عموماً، وعدم وعيها لذاتها خصوصاً.
وعلى هذا الأساس ، فإنني أرى أن استنتاج د. جميل هلال ينطبق تماماً على الطبقة البورجوازية الصغيرة العاجزة فعلاً عن حمل مشروع ليبرالي ، لانها طبقة غير متجانسة ولا تمتلك قاعدة مادية للانتاج ، وبالتالي كان من الطبيعي أن تتوزع فكرياً وسياسياً على محاور دينية ويسارية وقومية ووطنية دون أي مشروع ليبرالي واضح المعالم.
أما حديث د.جميل هلال عن "الصراع بين أفكار ليبرالية تحديثية وأفكار محافظة دينية في أوساط الطبقة الوسطى في رام الله والبيرة حيث يتمركز مجموعة من المثقفين والمفكرين ، بما يميز الضفة الغربية عن قطاع غزة الذي لا توجد فيه جذور قوية للطبقة الوسطى بسبب ان أغلبية سكانه من اللاجئين"!!
وقبل أن أسجل ملاحظتي الحوارية النقدية على استنتاج د.هلال في الفقرة السابقة، أعيد التأكيد على تحليلي بالنسبة لاختلاف عملية أو مسيرة التطور الاجتماعي / الاقتصادي / والثقافي بين الضفة الغربية وقطاع غزة تاريخياً، حيث نلاحظ نوعاً من التمايز الحضاري بينهما في البنية الفوقية المنتجة للفكر والثقافة في إطار النضال والصراع ضد الاحتلال، دون أن يعني ذلك اختلافاً جوهرياً في التطور الاجتماعي / الطبقي بينهما خصوصاً في مرحلة الاحتلال ما بعد عام 1967 إلى اليوم، أو أن أي منهما يشكل وحده اقليماً موحداً، وهنا أسجل ملاحظتي النقدية على حديث د.جميل هلال "عن عدم إمكانية وجود مجتمع فلسطيني (كتشكيلة اجتماعية سياسية مترابطة تقيم باقليم موحد) باستثناء ، ربما ، قطاع غزة" كما يقول[15] .
إذ أنني أرى غياب أي مستقبل للضفة أو لقطاع غزة بانفصال أي منهما عن الآخر ، واعتقد أن د.هلال يوافق تماماً على هذه الرؤية، لكن استنتاجه قد يستغل من أي حركة تسعى للانفراد بقطاع غزة بإسم الإمارة الدينية أو الدويلة الممسوخة.
أما بالنسبة لعدم وجود جذور قوية للطبقة الوسطى في قطاع غزة ، فهو استنتاج صحيح لا ينطبق على القطاع فحسب، بل أيضاً على الضفة الغربية ، إذ لا وجود للطبقة الوسطى فيهما، أما إذا كان د.هلال يقصد الطبقة البورجوازية الصغيرة (وهو لا يفرق بينهما في الكثير من فقرات كتابه)، فهي طبقة متجذرة في قطاع غزة كما هو الحال في الضفة الغربية، مع اختلاف سماتها بينهما من حيث التعاطي والانسجام مع التيار الديني بمساحة أكبر من التيارات الأخرى، اليسارية، والقومية، والوطنية الليبرالية .
وفيما يتعلق بحديث د.جميل هلال عن اللاجئين الذين يشكلون أغلبية السكان في قطاع غزة، كسبب من أسباب "عدم تجذر الطبقة الوسطى" ، فإنني أرى هنا خطأً منهجياً وتحليلياً وقع فيه د.هلال، لأن كلمة اللاجئين تقابل كلمة المواطنين حيث لا فرق بينهما في إطار التحليل الطبقي، رغم أن اللاجئين في القطاع يمثلون كتلة أو تجمع بشري يضم في إطاره ما لا يقل عن 65% من سكان قطاع غزة (1,14 مليون نسمة نهاية 2014) يشكلون مع إخوانهم المواطنين في غزة والضفة وكافة التجمعات والمخيمات ، خارطة طبقية تراتبية من العمال والفلاحين والبورجوازية الصغيرة وبورجوازية الكومبرادور والبورجوازية العقارية والمالية والطفيلية.. إلخ وهي أطر أو شرائح طبقية تجمع في صفوفها اللاجئ مع المواطن دون أي انفصام .
أما من ناحية "التوجهات المحافظة" في أوساط الطبقة البورجوازية الصغيرة في قطاع غزة (أو الوسطى حسب د.هلال) فهي انعكاس لطبيعة ما يمكن أن أسميه إعادة انتاج التخلف في القطاع بعد الانقسام في 14/6/2007 وسيطرة حركة حماس عليه، ومحاولتها الدؤوبة في نشر وتكريس الهوية الإسلاموية بديلاً للهوية الوطنية الديمقراطية ، إلى جانب كافة ممارساتها الإكراهية على الصعيد الاجتماعي التي عززت ذلك الطابع المحافظ أو الرجعي في الأوساط الاجتماعية في قطاع غزة عموماً وفي أوساط المرأة على وجه الخصوص، مع مراعاة طبيعة المرحلة التي عززت صعود مشهد الإسلام السياسي، وإعادة انتاج التخلف التراثي والاجتماعي والتراثي السلفي النقيض لمفاهيم الديمقراطية والوطنية والقومية والتقدم الحداثي، ليس في قطاع غزة فحسب، بل في العديد من مدن الضفة الغربية والشتات علاوة على الدور الخطير الذي تمارسه معظم الجامعات والكليات المتوسطة –في ظروف الانحطاط الاجتماعي والمأزق السياسي الراهن- في انتاج أفكار ومقولات التخلف الاجتماعي.
وفي مثل هذه الظروف، فإن قسماً كبيراً من البورجوازية الصغيرة لم يتحمل قسوتها ومرارتها ونتائجها السياسية والاجتماعية ، مما جعلهم يشعرون بحالة من الإغتراب، ظهرت بصورة واضحة بعد أقل من ثلاثة أعوام على قيام سلطة الحكم الذاتي 1994 عموماً، وبعد الانقسام خصوصاً، وتعززت في أوساطهم قيم اللامبالاة واليأس أو النفاق وتمجيد المصالح الشخصية والبحث عن أي مصدر للكسب السريع، مما دفع بالعديد منهم إلى ترك أحزابهم والذهاب إلى تحقيق المصالح الخاصة عبر العلاقة مع سلطة رام الله، أو حكومة غزة أو عبر منظمات NGO S أو مغادرة بعضهم إلى الهجرة للخارج هروباً من الواقع الذي لم يعد قادراً على احتماله بعد أن تفككت ونهارت الأفكار الوطنية التوحيدية في مجتمعنا.
إن تسجيلنا لهذه الملاحظات، شكل من الاجتهاد يستهدف العودة بمفهوم كل من "الطبقة الوسطى" و"البورجوازية الصغيرة" ووضعه في إطاره الصحيح، منعاً للإرباك في تحليلنا للأوضاع الاجتماعية ومكوناتها وأزمتها في بلادنا، خاصة وأن سمات "الطبقة الوسطى، كما أوردها العديد من المفكرين وعلماء الاجتماع المشار اليهم ، هي نفسها سمات الطبقة البورجوازية الصغيرة من حيث الثقافة والوعي والتوصيف الطبقي، ومن حيث دورها في النشاط السياسي والاجتماعي بمختلف منطلقاته وأهدافه التقدمية والديمقراطية الليبرالية أو القومية الشوفنية أو الوطنية أو الدينية الرجعية وفق مصالحها التي لا ترتكز على قاعدة مادية انتاجية أو محددة المعالم بمقدار ما هي قاعدة تمثل إطاراً واسعاً فضفاضاً جاهزاً لتقديم خدماته وفق ما تمليه ظروف هذا الفرد أو تلك المجموعة من هذه الطبقة البورجوازية الصغيرة، ذلك ان تأرجحها وعدم ثباتها يشكل أحد العوامل الأساسية في حراكها السياسي والمجتمعي، باتجاه التقدم والديمقراطية أو باتجاه الانغلاق والتخلف السلفي الرجعي.
 وفي هذا السياق نلاحظ بوضوح التركيبة القيادية والكادرية ذات المنشأ الطبقي البورجوازي الصغير لمعظم الأحزاب والفصائل والحركات السياسية في بلدان الوطن العربي ، مثالنا في فلسطين : حركة فتح / الجبهة الشعبية / الجبهة الديمقراطية / حزب الشعب / حركة حماس / الجهاد ... إلخ ، آخذين بالاعتبار أن هذا المنشأ الطبقي المشترك، بسبب افتقار البورجوازية الصغيرة للبنية الفوقية المتجانسة أو الموحدة، كان –وسيظل- عاملاً رئيسياً في تعدد واختلاف المنطلقات الأيديولوجية والسياسية لأحزاب وحركات البورجوازية الصغيرة وتوزعها في الأطر الليبرالية، والأطر اليسارية والقومية، والوطنية، والدينية، وفق ظروف ومتغيرات الأوضاع العربية من حولنا، حيث نلاحظ كيف قامت هذه الطبقة بادوار –تاريخية وراهنة- بالغة الأهمية سواء في النضال السياسي ضد الاستعمار منذ اوائل القرن العشرين، وفي النضال الديمقراطي و"الصراع الطبقي" من جهة إلى جانب قيامها بأدوار مشبوهة لحساب الاستعمار والأنظمة العربية الرجعية، الأمر الذي يؤكد على أن هذه الطبقة شكلت –وما زالت- وعاءً واسعاً أسهم في تخريج كل أطياف وتلاوين التيارات السياسية والفكرية.
 
البورجوازية الصغيرة والطبقات والصراع الطبقي في المجتمع الفلسطيني:
إن التكوينات الاجتماعية أو "الطبقات" في الضفة والقطاع مازالت تجمع في طياتها خليطاً متنوعاً مازال بعيداً عن الاستقرار الطبقي المحدد المعالم، على سبيل المثال: الشرائح الفقيرة التي تفتقر إلى الوعي بوجودها أو بالظلم الطبقي الواقع عليها، فطالما تعيش آلاف  العائلات عند خط الفقر أو دونه في ظروف اقتصادية واجتماعية تسودها كل أشكال المعاناة والحرمان، وطالما بقي التخلف أو النمط القديم مسيطرا، ولا تتوفر لهم الأطر السياسية والنقابية، المعبرة عن حقوقهم، كما لا تتوفر مقومات التجانس الفكري والسياسي أو الوعي المشترك بالظلم الواقع عليهم، فهم لا يشكلون طبقة بأي حال من الأحوال، فالطبقات الاجتماعية هي مجموعات من العاملين الاجتماعيين الذين يحددهم بشكل رئيسي انعكاس وعيهم وشعورهم المشترك بمصالحهم الطبقية المشتركة، لدورهم وموقعهم في مسار الإنتاج، أي في الميدان الاقتصادي بصورة أساسية .
والواقع أنه يجب أن لا نستنتج من الدور الرئيسي للموقع الاقتصادي أن هذا الموقع يكفي لتحديد الطبقات الاجتماعية، صحيح أن للعامل الاقتصادي، الدور الحاسم في نمط معين من الإنتاج وفي التشكل الاجتماعي، ولكن العامل السياسي والوعي بالمعاناة المشتركة، كشعور جماعي، إلى جانب عوامل ثقافية واجتماعية أخرى في إطار البنية الفوقية لها دور بالغ الأهمية، إذ أن الطبقات الاجتماعية تنطوي على ممارسات طبقية أو صراع طبقي، ولا تتبدى إلا في هذا الصراع والتناقض، وهو مضمون ما زال خافتا في مجتمعنا بحكم عوامل التناقض الرئيسي مع العدو، وعوامل التخلف الاجتماعي والاقتصادي، في سياق استمرار علاقة التبعية والحصار، علاوة على الصراع والانقسام الداخلي، وهي كلها عوامل ساهمت في عدم إنضاج الظرف الذاتي للتبلور الطبقي في بلادنا، ومن ثم انعدام أو حالة الضعف الشديدة لعملية الصراع الطبقي، بسبب استمرار تأثير الانقسامات الفئوية التي تخفي في طياتها المصالح الطبقية "فعلى الرغم من اهمية ومركزية التحليل الطبقي والصراع الطبقي في الفكر الاجتماعي والسياسي، فإن ظاهرة الصراع الطبقي تكاد تكون معدومة في معظم الأقطار العربية بصفة عامة. ويرجع ذلك إلى أن العلاقات الرأسية والتقسيمات الرأسية للمجتمع العربي (العائلة، القبيلة، الجماعات العرقية.. إلخ) تمثل نمط التفاعلات والعلاقات السائدة في هذه المجتمعات"[16].
دليلنا على ذلك ظهور –وهيمنة- عصبية الدم أو العلاقات العشائرية، في المجتمع الفلسطيني عموماً وفي قطاع غزة خصوصاً أثناء حالة الفلتان الأمني والصراع الدموي بين فتح وحماس، حيث لجأ القسم الأكبر من أبناء القطاع إلى الاحتماء بعصبية الدم في الحامولة أو العشيرة أو العائلة بعد أن فقدوا ثقتهم بدور النظام والقانون في توفير متطلبات حمايتهم بعد أن تفكك النظام ، وبعد ان تراجع مفهوم الوطن والوطنية لحساب مفهوم عصبية الدم التي أعيد انتاجها وتجديدها في الضفة والقطاع ، حيث خلقت مصادر القوة العشائرية إلى جانب مظاهر الفساد وتفكك النظام السياسي ، مناخاً مواتياً يفتح الطريق نحو مراكمة المال والثروات بصورة طفيلية أكبر بما لا يقاس مما توفره الثروة في إطار الانتاج الصناعي أو الزراعي ..إلخ كإطار موضوعي لمراكمة عوامل القوة بالمعنى الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي.
 
 
الشرائح البورجوازية الصغيرة (أو المتوسطة) في المجتمع الفلسطيني:
أؤكد هنا على حقيقة "عدم التجانس" داخل الطبقة البورجوازية الصغيرة في البلاد المتخلفة حيث تتوزع إلى شرائح تقليدية وشرائح حديثة. وشرائح ريفية، نلحظ ذلك بوضوح في الضفة بين الريف والمدينة كما نلحظه في تمايز الضفة عن غزة ، فبالرغم من وصف مجتمع الضفة إنه مجتمع ريفي إلا أنه ريفي متمدن، مقابل وصف مجتمع قطاع غزة انه مديني ، إلا أنه مدني متريف وأكثر تخلفاً بالمعنى الاجتماعي والاقتصادي والثقافي عن توأمه في الضفة الغربية، لكننا رغم ذلك نلاحظ حالة من التخلف الثقافي –بدرجات متفاوتة- بين الضفة والقطاع تعكس مدى هشاشة وضعف المفاهيم العقلانية والديمقراطية والمواطنة والحداثة انعكاساً للتطور الاقتصادي الاجتماعي الضعيف والتابع.
تشكل هذه الشرائح، المساحة الأوسع، والحجم الأكبر، في مجتمعنا الفلسطيني، فهي تتكون – كما سبق أن أوضحنا – من جموع صغار الحرفيين والموظفين المدنيين والعسكريين، وصغار التجار والمهنيين بكل انواعهم...الخ في الضفة والقطاع، مع مراعاة الخصائص والسمات التي ترتبط بهذه الطبقة في مجتمعنا، ونقصد بذلك المستوى المتدني من التطور الرأسمالي من جهة، والمستوى المتدني لحياة أو مستوى معيشة الغالبية العظمى لشرائحها، بما يؤثر في التركيب الاجتماعي عموما، وفي تركيب هذه الطبقة بصورة خاصة من جهة ثانية، لان طبيعة تكوينها وتشكلها، تتميز بضعف إنتاجيتها الناجم عن عدم امتلاك البورجوازية الصغيرة عموما، قاعدة اقتصادية منتجة، إذ أن هذه الطبقة – رغم ضخامة حجمها واتساعها، لا تسهم بأي دور مركزي أو مؤثر في إطار الطبقة أو السلطة المسيطرة، رغم انصياع القطاع الأكبر منها، للدفاع عن سياسات السلطة وحكومتيها(في رام الله أو غزة) والمجموعات المسيطرة فيها، وتفسير هذا الموقف يعود إلى أن السلطة هي رب العمل – المباشر وغير المباشر - للبورجوازية الصغيرة، بحكم ارتباطها الوثيق بالسوق المحلي بجانبيه العام والخاص، وبحكم الحرمان المادي والاضطهاد الاقتصادي والسياسي الواقع عليها، والناتج عن ضعفها وعدم تماسكها الداخلي وتذبذبها، إلى جانب عجز وقصور وفشل القوى الديمقراطية واليسارية في توعيتها وتحريضها وتنظيمها والتعبير عن تطلعاتها.
وإذا اخذنا بعين الاعتبار ان القطاع الحكومي سواء في حكومة السلطة / رام الله أو في حكومة حماس/غزة، يشكل 15.5% من إجمالي القوى العاملة ، وبنسبة 22% من القوى العاملة بالفعل (حوالي 200 ألف موظف)، يبين لنا التأثير السلبي الذي يحدثه هذا الواقع على دور ونشاط البورجوازية الصغيرة بسبب القيود القانونية والإدارية من ناحية والطبيعة المتذبذبة لهذه الطبقة وحرصها على مصالحها الخاصة من ناحية ثانية، بما يؤدي إلى شل وتعطيل القسم الاكبر من هذه الطبقة، من العاملين في الجهاز الحكومي، عن ممارسة دور سياسي رئيسي خارج إطار الحزبين الرئيسيين ارتباطاً بحكومة كل منهما.
 وهنا تكمن انتهازية العديد من أفراد هذه الطبقة أو خوفها أو لامبالاتها، أو غير ذلك من المواقف السالبة التي تحكم ممارساتها السياسية في هذه المرحلة بالذات، لما تثيره من نوازع القلق والخوف والتردد والانتهازية في نفوس ووعي هذه الطبقة، إلى جانب حرص حكومتي رام الله وغزة على تأمين رواتب موظفيها لضمان ولائها السياسي، ادراكاً من الحكومتين أو من القطبين الرئيسيين "فتح وحماس" ان امتصاص هذا القدر من افراد البورجوازية الصغيرة، هدف ضروري، لتعزيز مكانة أي منهما السياسة، نظراً لوعي القطبين بأهمية دور هذه الطبقة التي تشكل غالبية السكان في الضفة والقطاع، إلى جانب اضعاف امكانات هؤلاء البورجوازيين الصغار في ممارسة دورهم في النضال الوطني والديمقراطي عموماً واضعاف وتهميش دورهم في ممارسة الحراك الديمقراطي والضغط الشعبي لانهاء الانقسام، ولكن يبدو ان تراكمات مظاهر القلق والإحباط واليأس في صفوف جماهير شعبنا عموماً، والبورجوازية الصغيرة خصوصاً ، عزز ضعف هذه الطبقة وحالة دون أداء دورها السياسي والديمقراطي المطلوب.
بالطبع إن إيقاظ الوعي الوطني والطبقي لدى البورجوازية الصغيرة في مدننا وقرانا ومخيماتنا أمر بالغ الأهمية بحد ذاته، لأن قطاعات كبيرة منها يمكن أن تظل عبر جدلية الاضطهاد والمصالح الحياتية، مرتهنة وخاضعة عموماً للقطبين المتصارعين حسب النفوذ الجيوسياسي لكل منها في الضفة أو قطاع غزة، وهو ما يدفعنا إلى الاهتمام بقضايا هذه الطبقة، وتفعيل دورها خاصةً وأن حجمها يصل إلى حوالي 60% من مجموع السكان في الضفة والقطاع أو حوالي 2,772 مليون نسمة  يتوزعون على حوالي (554.4) ألف أسرة بواقع 5 أفراد (كمعدل متوسط) للأسرة الواحدة، وهو إطار أو تجمع غير متجانس من حيث الدخل أو مستوى المعيشة و ينقسم إلى ثلاثة شرائح أو فئات :
الفئة الأولى أو العليا من هذه الطبقة التي تملك دخلاً شهرياً يبدأ من 2500 دولار شهرياً ولا يتجاوز 5000 دولار، ولا تتجاوز نسبتها أكثر من 2,5 %   أو ما يعادل (69,300) ألف نسمه من أصل المجموع التقديري للطبقة البورجوازية الصغيرة، وهذه النسبة تشمل المعيلين من الفئات العليا من أساتذة الجامعات والمحامين والمهندسين والصيادلة والأطباء ومسئولو ومدراء المراكز ومؤسسات المنظمات غير الحكومية ونواب المجلس التشريعي والتجار وأصحاب المشاغل المتوسطة وكبار الموظفين ( المدنيين مدير عام فما فوق، والعسكريين، عقيد وما فوق) والفلاحين الذين يملكون 20-50 دونم، وهذه الفئة منقسمة في ولائها بين حكومة رام الله أو حكومة غزة حسب ظروف وطبيعة العمل أو الانتماء السياسي أو ألمصلحي الانتهازي.
الفئة الثانية أو المتوسطة، التي تملك دخلا شهريا يبدأ من 1000 $ ولا يتجاوز 2500$ وتمثل تقريبا حوالي 5% من مجموع التعداد التقريبي للبورجوازية الصغيرة، وبالتالي فإن مجموع هذه الشريحة المتوسطة يبلغ 138.6 ألف نسمه، وتشمل المعيلين أو أصحاب الدخل من الفئات الوسطى من المهنيين والأكاديميين وأساتذة الجامعات والعاملين في المنظمات غير الحكومية وصغار التجار وأصحاب المشاغل الصغيرة والفلاحين المالكين من 5 – 20 دونم، والموظفين* المدنيين من درجة مدير إلى مدير عام، والعسكريين من رتبة مقدم إلى رتبة العقيد، وهي فئة يمكن أن تجد في المعارضة الديمقراطية ملاذاً لها .
الفئة الثالثة، أو الشريحة المتدنية / الفقيرة، من أسر البورجوازية الصغيرة، التي تملك دخلاً يبدأ من خط الفقر الوطني البالغ 2375 شيكل ( 580 دولار )[17] شهريا للأسرة ولا يتجاوز ألف دولار وتمثل هذه الشريحة 92,5 % ( حوالي (2,564) مليون نسمه) من مجموع هذه الطبقة، وهذه النسبة تشمل صغار الموظفين ورجال الشرطة والأمن وصغار المهنيين والحرفيين والباعة وهي شريحة أقرب –من ناحية موضوعية- إلى المعارضة اليسارية الديمقراطية، ومن الممكن أن تشكل – إذا ما تم الاهتمام السياسي والاجتماعي بقضاياها- وعاءا هاما لها إلى جانب "الطبقة" العاملة والفلاحين الفقراء، لكن عجز وضعف احزاب اليسار عزز مساحة الفراغ السياسي من ناحية وأسهم في تكريس يأس الجماهير الفقيرة ولجوئها إلى قوى التيار الديني والإسلام السياسي من ناحية ثانية.
وفي هذا السياق، من المفيد أن نشير هنا إلى أنه "إذا كانت الأرقام الخاصة بفروقات معدل الدخل للفئات الاجتماعية المختلفة، تساعد على اثبات واقع وجود مجموعات ذات مصالح متشابهة فيما بين الواحدة منها، ومختلفة مع مصالح مجموعات أخرى بدرجات متفاوتة، وتتواجد على مستويات مختلفة من حيث علاقتها بالنظام الاجتماعي الاقتصادي وحصتها من توزيع الدخل، فإن هذا وحده لا يكفي لتلمس الدور الاجتماعي الذي تضطلع به كل فئة أو طبقة منها، والسياسة التي تدعو لها، والظروف والعوامل العائدة لطبيعة تركيبها ونشاتها، والمؤثرات الداخلية والخارجية التي تسهم في نهاية المطاف بمقادير متفاوتة الاهمية في تحديد السمات ومعالم التركيب الطبقي للمجتمع والمواقف العامة لمختلف الفئات والطبقات[18]".
وبناء عليه فإننا، ندرك بكل موضوعية ووعي، أن استمرار تطور العلاقات الاجتماعية في بلادنا على صورتها المشوهه الراهنة، هو أمر بقدر ما يتعارض مع قوانين الحياة ومتغيراتها وتراكماتها الدافعة صوب الارتقاء والتقدم، يتعارض أيضا مع نضال شعبنا وتضحياته الغالية في صراعه الطويل مع العدو الصهيوني، من أجل تحقيق أهدافه في التحرر والعدالة الاجتماعية والديمقراطية، الأمر الذي يستوجب استنهاض كل القوى الوطنية الديمقراطية، كضرورة موضوعية ملحة، حتى لا يصبح المستقبل كأنه " قدر محتوم " نساق إليه من نظام العولمة الأمريكي الصهيوني.
فبالرغم من المتغيرات التي أصابت البنية الاقتصادية الاجتماعية الفلسطينية طوال الفترة الممتدة منذ عام 1967 حتى اليوم، إلا أن هذه التحولات لم تستطع تجاوز أو إلغاء علاقات الإنتاج ما قبل الرأسمالية وشبه الرأسمالية القائمة بل عززتها وأبقت عليها، بفعل عوامل خارجية تتمثل في السياسات الإسرائيلية تجاه الاقتصاد الفلسطيني من ناحية وعوامل داخلية فلسطينية تتمثل في مجموعات المصالح الطبقية التقليدية والمستحدثة الطفيلية الحريصة على إبقاء العلاقات القديمة وعدم تجاوزها (في المنشآت الصناعية شبه العائلية عموماً، والإنتاج العائلي في الزراعة ونمط الإنتاج السلعي الصغير المنتشر بكثرة في الضفة والقطاع عموماً وفي المناطق الريفية خصوصاً ... الخ) وبالتالي فإن النمط السائد غالباً هو نمط رأسمالي تابع ومشوه تتداخل فيه الأنماط القديمة ضمن صيغة من التعايش والتعاون والصراع، وفي هذا الجانب نشير إلى أن تعدد أنماط الإنتاج قد يتجسد في بعض القطاعات الاقتصادية أكثر من غيرها، وفي هذا السياق يمكن أن يوصف النمط السائد عندنا بأنه نمط محكوم بآليات "رأسمالية المحاسيب" ارتباطاً بالتحالف بين الصفوة السياسية والبيروقراطية ورجال الأعمال والمال والكومبرادور في الضفة والقطاع، وفي ضوء هذا التحليل يمكن أن نطلق على هذا النمط انه نمط رأسمالي طفيلي، لكنه في كل الأحوال ومهما كانت التسمية، فهو نمط تابع ومتخلف، ما يعني بقاء التطور الاقتصادي والاجتماعي/الطبقي محتجزاً بسبب هذه العوامل الخارجية والداخلية ذات المصلحة المشتركة في إبقاء حالة التطور المحتجز في بلادنا ودور هذا التحالف الطبقي في تفكيك المجتمع السياسي الفلسطيني وإعاقة توليد آليات المجتمع المدني الديمقراطي، الأمر الذي يقتضي العمل على كسر هذا التحالف وإزاحة كل هذه العوامل ورموزها وشخوصها صوب إعادة الوحدة السياسية المجتمعية بين الضفة والقطاع وفق الأسس والثوابت الوطنية والديمقراطية، وفق أسس اقتصادية تنموية تستهدف تحقيق مقدمات الصمود الوطني والمقاومة والنضال بكل أشكاله على طريق التحرر والاستقلال والعدالة الاجتماعية.
احتمالات المستقبل:
يمكن القول أن الحالة الفلسطينية اليوم، انتقلت بالفعل من أرضية النضال الوطني والأهداف الكبرى من أجل التحرير والعودة والاستقلال ، إلى أرضية الخضوع والمساومة على حقوق شعبنا التاريخية، من ثم الهبوط بتلك الأهداف والحقوق بذريعة التوصل إلى إقامة دولة مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة عبر التفاوض العبثي مع دولة العدو الصهيوني، على الرغم من إدراك تلك القيادة لمواقف الدولة الصهيونية عبر لاءاتها الخمس: لا لحق العودة، لا لإزالة الاستيطان، لا للإنسحاب الكامل من الضفة الغربية، لا للقدس عاصمة للفلسطينيين، لا للدولة المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، لكن القيادة الفلسطينية في م.ت.ف وحركة فتح بحكم مصالحها الطبقية، لم تجد مدخلاً ومبرراً لهبوطها واستمرارها بعملية التفاوض العبثية سوى السياسة الواقعية الرثة الأقرب إلى الاستسلام لشروط العدو عبر التنازل عن كامل حقوق شعبنا في أرض وطنه المغتصبة عام 1948.
نستخلص مما سبق أن مسيرة النضال الوطني التحرري والإجتماعي الديمقراطي الفلسطيني قد انتقلت من حالة الأزمة التي بدأت منذ أكثر من ثلاثة عقود، إلى حالة المأزق الذي يصيب اليوم بنيانها وقيادتها وفكرها السياسي.
فلقد أدى الانقسام إلى تفكيك النظام السياسي الديمقراطي الفلسطيني، ومعه تفككت أوصال المجتمع الفلسطيني، الذي يبدو أنه ينقسم اليوم إلى مجتمعين أحدهما في الضفة والآخر في قطاع غزة، ناهيكم عن عزلتهما عن أبناء شعبنا في الشتات والمنافي.
وهنا بالضبط تتجلى ملامح المأزق السياسي والمجتمعي الفلسطيني، عبر مواقف كل من حركتي فتح وحماس وصراعهما الفئوي على السلطة والمصالح بعيداً عن جوهر وشكل المشروع الوطني التحرري الديمقراطي الفلسطيني، بحيث يمكن الاستنتاج ، أن كل من فتح وحماس ، قدمتا لشعبنا الفلسطيني أسوأ صورة ممكنة من حاضر ومستقبل المجتمع المحكوم بصورة اكراهية ، لادوات ومفاهيم الاستبداد والاستغلال والتخلف ، وهي مفاهيم وأدوات وممارسات لم ولن تحقق تقدماً في سياق الحركة التحررية الوطنية ، بل على النقيض من ذلك ، ستعزز عوامل انهيارها والانفضاض الجماهيري عنها وصولاً إلى حالة غير مسبوقة من الاحباط واليأس ، كما هو حال شعبنا اليوم عموماً، وفي قطاع غزة على وجه الخصوص.
 
دعوة الى تأسيس كتلة تاريخية :
وانطلاقاً من ذلك ، أرى أن من واجب الأحزاب والفصائل والقوى والفعاليات الوطنية الديمقراطية أن تسارع إلى البدء بحراك وطني وديمقراطي واسع، يستهدف إخراج جماهيرنا من حالة الركود والإحباط التي تعيشها في هذه اللحظة، من خلال تأسيس "الكتلة التاريخية" (جبهة وطنية عريضة) مفتوحة لكل أبناء شعبنا المعنيين بتحقيق أهداف الحرية والاستقلال وتقرير المصير وحق العودة والعدالة الاجتماعية والديمقراطية.
إن هذه الكتلة التاريخية المقترحة ، ستخوض وتجابه التحديات الماثلة اليوم أمام مسيرة النضال الوطني والديمقراطي لشعبنا الفلسطيني في الوطن والشتات ومجابهة ثنائية فتح وحماس بأشكال سياسية وديمقراطية، بما يمكننا من مواصلة النضال وفق الرؤية والثوابت الوطنية في الصراع مع العدو الصهيوني من ناحية، وفي الصراع الديمقراطي الداخلي ضد التحالف الطبقي الكومبرادوري المهيمن راهناً عبر القيادة اليمينية في م.ت.ف والسلطة ، أو قوى اليمين الديني في حماس والسلطة.
في ضوء ما تقدم، فأنا لا أرى من المناسب التعويل على دور نهضوي / تنويري / وطني / ديمقراطي أو ثوري للبورجوازية المتوسطة، واعتقد بأهمية وعينا وتركيزنا على البورجوازية الصغيرة أو قسم منها للقيام بهذا الدور، خاصة المثقف الديمقراطي اليساري بالمعنى العضوي أو الجرامشي ، وهو دور سيتطلب من هذا المثقف الثوري حجماً كبيراً من المعاناة والتضحية، عبر نضاله السياسي والكفاحي والديمقراطي (المطلبي أو الطبقي) أن يتحمل من خلال الإطار الجمعي للمثقفين العضويين (الحزب) المسئولية الكبرى على طريق النهوض والتحرر والتقدم الديمقراطي والعدالة الاجتماعية، وهي مسئولية ستظل تشكل ضرورة موضوعية في ظل غياب الحامل الاجتماعي أو الطبقي الذي سيستمر طالما ظل الوجود الطبقي للعمال والفلاحين الفقراء وكل الكادحين والمضطهدين وجوداً كمياً أو وجوداً بذاته وليس وعياً لذاته.
 


[1] الطبقات الاجتماعية ومستقبل مصر- د. عبد الباسط عبد المعطي – الطبعة الأولى 2002 – ميرت للنشر والمعلومات – ص298
[2] نيكوس بولانتزاس – الطبقات الاجتماعية في النظام الرأسمالي - ترجمة: احسان الحصني - منشورات وزارة الثقافة والارشاد القومي – دمشق 1983 – ص6
[3] معجم الماركسية النقدي  - جورج لابيكا - البورجوازية المتوسطة / البورجوازية الصغيرة – دار الفارابي – بيروت – ط1- 2003 - ص316
[4] معجم الماركسية النقدي  - المصدر السابق  - ص317
[5]  عبد الغفار شكر - الطبقة الوسطى والمستقبل العربي - الانترنت - موقع الحوار المتمدن .
[6]  د. رمزي زكي - وداعاً للطبقة الوسطى - دار المستقبل العربي - القاهرة - 1997 - ص84/85.
[7] د. رمزي زكي – وداعاً.. للطبقة الوسطى – دار المستقبل العربي – الطبعة الأولى 1997 – ص83
[8] د. رمزي زكي – المصدر السابق -  – ص84
[9] الطبقات الاجتماعية ومستقبل مصر – د.عبد الباسط عبد المعطي – الطبعة الأولى 2002 – ميرت للنشر والمعلومات – ص315
[10] المصدر السابق - د.عبد الباسط عبد المعطي– – ص69
[11] المصدر السابق - د.عبد الباسط عبد المعطي– ص375
[12]  د. جميل هلال - الطبقة الوسطى  الفلسطينية – مؤسسة الدراسات الفلسطينية / بيروت – مواطن/رام الله – يناير 2006 – ص20
[13] د. جميل هلال – المصدر السابق – ص17
[14] د. جميل هلال – المصدر السابق – ص282
[15] د. جميل هلال – المصدر السابق – ص2
[16] الدكتورة ثناء فؤاد عبدالله – الدولة والقوى الاجتماعية في الوطن العربي - مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – ط 2 – 2008 – ص66
* بلغ عدد موظفي القطاع العام (حكومتي الضفة والقطاع) نهاية عام 2014 حوالي 200 ألف موظف، منهم 40 ألف مع حكومة حماس/غزة، والباقي يتبع حكومة السلطة في رام الله موزعين إلى 88 ألف في الضفة،  72 ألف في قطاع غزة ، ومجموعهم 160 ألف موظف منهم 64 ألف عسكري/أمني و 96 ألف موظف مدني.
[17]  قد يبدو هذا المبلغ مرتفعا قياسا ببعض الدول العربية ، ودول العالم الثالث ، ولكن عند مقارنة أسعار المواد الأساسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة بمثيلها من المواد في البلدان العربية المجاورة نلاحظ ارتفاع الأسعار بنسبة تزيد عن 200% في بعض السلع مثل الغاز المنزلي الذي تبلغ ثمن الاسطوانة الواحدة منه 15 دولار تقريبا ، أما اللحوم البلدية فتتراوح أسعارها بين 14-18 دولار للكيلو ، فيما يبلغ سعر السمك في غزة كمعدل متوسط أكثر من 10 دولار ، أما كيلو الخبز فيصل إلى  دولار في حين ارتفع سعر الأرز إلى 2.5 دولار وكذلك الأمر بالنسبة للزيوت والمواد الغذائية الأساسية علاوة على كل أنواع الملابس والأدوات المنزلية والمدرسية التي ارتفعت بنسبة تزيد عن 100% بسبب استمرار الحصار من ناحية وجشع تجار السوق السوداء والانفاق من ناحية ثانية .
[18] المصدر: بعض قضايا الصراع الاجتماعي في الاردن – من منشورات الحزب الشيوعي الأردني – اصدار دار الاتحاد – حيفا – 1972 – ص65.