جَدَل -الحقيقة-


جواد البشيتي
الحوار المتمدن - العدد: 4755 - 2015 / 3 / 21 - 18:42
المحور: الفلسفة ,علم النفس , وعلم الاجتماع     

جواد البشيتي
حتى "الخالِق" له جنده من "الإعلاميين" الذين يصعب تمييزهم من إعلاميي الحاكِم العربي، الذي في يده ملكوت كل شيء في دنيانا وديننا؛ فهؤلاء ما أنْ يتكلَّم عالِم في الغرب كلاماً كَوْنياً تَسْتَحْسنه أوهامهم الدينية حتى يَنْتَشون، وتَنْتشي معهم أقلامهم وألسنتهم؛ أمَّا ما يستبد بتفكيرهم دائماً فهو الإتيان بمزيدٍ من الأدلَّة النَّظرية الفيزيائية على عَجْز البشر عن الوصول إلى "الحقيقة، وعن معرفة وإدراك العالَم.
إنَّهم يتعصَّبون لمبدأ، أو قانون، "عدم اليقين (أو الريبة)"، لهايزنبرج؛ فالبشر ممنوعون بقوَّة هذا القانون، ولحكمة إلهية، من معرفة الحقيقة الكلية؛ وما علينا، من ثمَّ، إلاَّ أنْ نكتفي بمعرفة نصف، أو رُبْع، الحقيقة؛ والبشر لا يمكنهم أبداً تخطِّي "جدار بلانك"؛ ولا يمكنهم، من ثمَّ، أنْ يعرفوا من الحقيقة الكونية إلاَّ أجزاء منها.
"الحقيقة"، وما أدراك ما "الحقيقة".
حتى أعداء "الحقيقة"، في أمْرٍ ما، يجتهدون في طلبها، والبحث عنها، ويرغبون في الوصول إليها؛ لكنَّ "مصلحة" لهم هي التي تحملهم على إبداء العداء لها، وإنكارها، وتزويرها، وحجبها عن أبصار وبصائر كل من له "مصلحة" فيها؛ فلو أنَّ "بديهية هندسية" عادت "مصلحة" ما، لشَنَّ أصحاب هذه المصلحة الحرب عليها.
جميعنا ننشد "الحقيقة"، وننفق كثيراً من الجهد والوقت في البحث عنها؛ لكنَّنا لم نتواضع بعد، ولن نتواضع أبداً، على إجابة سؤال "ما هي الحقيقة؟"؛ وكأنَّ لنا مصلحة في تعريف "الحقيقة" بما يَخْدُم، ويُوافِق، "مصلحة" المتوفِّر على "تعريفها".
ولآينشتاين تجربته في "الحقيقة"؛ فهو القائل "إذا النَّظرية (الجديدة) لم تُوافِق (تُطابق) الواقع؛ فلا بدَّ، عندئذٍ، من تغيير الواقع نفسه".
إنَّها لـ "أفلاطونية خالصة" أنْ يدعو المرء (وأنا أعلم أنَّ آينشتاين يهزل في قوله هذا) إلى "تغيير الواقع بما يجعله موافِقاً للنَّظرية"؛ فـ "الموضوعي" في النَّظر إلى الأشياء يُعدِّل، ويُغيِّر، "النَّظرية (الجديدة)" بما يجعلها تُوافِق "الواقع (الموضوعي)"، أو بما يجعلها أكثر تَوافقاً معه؛ فكلَّما توافقت "النَّظرية (أو الفكرة)" أكثر مع "الواقع (الموضوعي)" ارتفع فيها "منسوب الحقيقة".
وشتَّان ما بين مَنْ يَقْبَل "النَّظرية"؛ لكونها متوافقة مع "الواقع"، ومَنْ يرفض "الواقع"؛ لكونه غير متوافق مع "نظرية ما (أو فكرة ما)".
حتى "الغباء" عرَّفه آينشتاين بما يؤكِّد أنَّه يفهم "الحقيقة" بما يناقِض "الطوباوية (في التفكير)"؛ فهو قال، في تعريفه له، إنَّه أنْ يُكرِّر المرء التجربة "نفسها"، متوقِّعاً (أيْ معلِّلاً النَّفس بوهم) تمخُّضها عن "نتائج مختلفة"؛ فـ "النتيجة (أيْ النتيجة العملية الواقعية)" تأتي متوافقة مع "التوقُّع" إذا ما كان "التوقُّع" واقعياً موضوعياً، وتذهب به إذا ما كان "ذاتياً (غير موضوعي)".
"الحقيقة"، ومهما كابَد المرء في بحثه عنها حتى كشفها واكتشافها، هي دائماً "بسيطة"، وأبسط مَمَّا نظن لدى بَدْئِنا البحث عنها؛ وبما يؤكِّد ذلك، عرَّف آينشتاين "الأحمق" و"العبقري"، قائلاً إنَّ "الأحمق" هو الذي يجتهد في جَعْل "البسيط" من الأشياء يبدو "معقداً"؛ أمَّا "العبقري" فهو الذي يَعْرِف كيف يُبسِّط ما يبدو معقَّداً.
هل فَهِمْت، واستوعبتَ، وتَمَثَّلْت، نظرية ما، أو فكرة ما؟
آينشتاين يجيب عنكَ (خير إجابة) قائلاً: "إذا لم تستطعْ شرح فكرتكَ لطفلٍ عمره 6 سنوات، فأنتَ نفسكَ لم تفهمها بعد".
نحن اعتدنا أنْ نَفْهَم "الخيال" على أنَّه ضديد "الحقيقة"، و"المعرفة (مع المنطق)" على أنَّها صنو "الحقيقة"؛ لكنَّ آينشتاين، والذي أنعم الله عليه بـ "عبقرية الخيال"، دعانا إلى الأخذ بطريقة جديدة في التفكير، توصُّلاً إلى "الحقيقة"، إذ قال إنَّ "الخيال" أهم من "المعرفة"، وإذ قال أيضاً إنَّ "المنطق" يُوْصِلكَ، إذا ما سِرْت في دربه، من "الألِف" إلى "الياء"؛ لكنَّ "الخيال" هو العربة التي تُوْصِلكَ إلى أيِّ مكان.
لكنَّنا ما أنْ نتوصَّل بـ "الخيال" إلى "نظرية ما" حتى يتأكَّد لنا أنَّ هذه "النَّظرية" لن تتآخى مع "الحقيقة" إلاَّ إذا أتى "الواقع (الموضوعي)" بما يؤيِّدها؛ فلا مهرب لنا من "المنطق (المنطقي)"، الذي يُلْزِمنا أنْ نفهم "الحقيقة" على أنَّها "كل فكرة تُوافِق (تُطابق) الواقع (الموضوعي)"؛ فليس من ميزان نزن به "الحقيقة" في كل "فكرة"، ولا من مقياس نقيسها به، إلاَّ "الواقع الموضوعي (الممارَسة، والتجربة العملية الواقعية)".
ويعود آينشتاين، الذي طالما تَنَقَّل بين "الذاتية" و"الموضوعية"، إلى وَضْع إحدى قدميه في "الذاتية"، فيقول إنَّ كل علومنا التي نقيسها بالواقع بدائية وطفولية (فبماذا نقيسها حتى ترتقي وتنضج؟!).
ثمَّ يُخْرِج آينشتاين قدمه من "الذاتية"، ليقول، في فَهْم "الحقيقة"، إنَّ "القوانين (أو المفاهيم، والأفكار، والنَّظريات)" كلَّما قارَبَت، أو لامست، "الواقع" اهتزَّت وتزعزعت، وكلَّما ثَبَتَت ورسخت (بتحليقها بعيداً عنه) فقدت واقعيتها؛ فالفكر "سكوني"؛ أمَّا الواقع فـ "دينامي"؛ والفكر، مهما ارتفع منسوب الحقيقة الموضوعية فيه، يظلُّ "رمادياً"؛ أمَّا الواقع فهو "الأخضر" أبداً. وهذا إنَّما يعني أنَّ "النَّظرية"، ومهما ارتفع فيها منسوب الواقعية والحقيقة، تشبه صورة (شمسية) تلتقطها لجسمٍ في حالة حركة، ويتغيَّر في استمرار، فيتَّسِع، ويَعْظُم، مع مرور الوقت، "الفَرْق" بينها وبين "الأصل".
وبعدما يُثَبِّت قدمه في "الموضوعية"، يَقْفِز آينشتاين قفزته الكبرى في فَهْم "الحقيقة"، فيقول إنَّ "الحقيقة" هي ما يَثْبُت أمام امتحان التجربة؛ فلا مقياس نقيس به "الحقيقة"، في الأفكار والنَّظريات، إلاَّ "الممارَسة"، أو "التجربة العملية"؛ فكل ما يُوافِق منها "الواقع الموضوعي" لا بدَّ له من أنْ ينتمي إلى "عالَم الحقائق".
الناس، على وجه العموم، منقسمون مختلِفون في أمر "الحقيقة"، بعضهم لا يعترف إلاَّ بـ "الحقائق النسبية"، وبعضهم لا يعترف بفكرة ما على أنَّها "حقيقة" إلاَّ إذا كانت في منزلة "الحقيقة المُطْلَقَة".
وهناك من المتطرِّفين في إنكارهم لوجود "الحقيقة المُطْلَقَة" من يُعبِّر عن موقفه هذا قائلاً: إنَّ "الحقيقة المُطْلَقَة الوحيدة" هي أنْ "لا وجود للحقيقة المُطْلَقَة؛ فكل الحقائق نسبية".
ولقد أُسيء فَهُم "الحقيقة النسبية" كما أُسيء فَهْم "الحقيقة المُطْلَقَة"؛ وإنِّي لأَنْسِبُ هذه الإساءة وتلك إلى النَّقْص في "جدلية" التفكير والنَّظر إلى الأمور؛ فنحن نميل، في غالبيتنا، إلى الفَهْم الميتافيزيقي للصِّلة بين "الضِّدَيْن"، أيْ بين كلِّ ضِدَّيْن.
إنَّ "نِسْبية الحقائق" تُشَوَّه عند كثيرين بـ "الذَّاتِيَّة"، فيُضْرَب صَفْحاً عن أمْرٍ في منتهى الأهمية هو أنَّ "الموضوعية" هي جوهر وأساس "النِّسْبي" من "الحقائق".
وخَيْر مثال، على ما أرى، نُوضِّح فيه "النسبية (الموضوعية) للحقيقة" هو الآتي:
جَلَسَ اثنان إلى طاولةٍ، وكان كلاهما في مواجهة الآخر. وَوُضِع على الطاولة إبريق وفنجان، وبما يسمح لكليهما بإجابة السؤال "أَيُّهما موضوع أمام الآخر؟".
أحد الجالِسَيْن أجاب قائلاً إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان؛ أمَّا الآخر فأجاب قائلاً إنَّ الفنجان هو الموضوع أمام الإبريق؛ فأيَّهما نطق بـ "الحقيقة"؟
كلاهما نَطَق بها؛ لأنَّ الحقيقة "نِسْبية"؛ فالذي أجاب الإجابة الأولى أصاب، ولم يُخْطئ، والذي أجاب الإجابة الثانية أصاب، ولم يُخْطئ.
إنَّه لمثال بسيط؛ لكنْ مُفْعَمٌ بالمعاني؛ ويَحضُّكَ على أنْ تُفكِّر فيه مليَّاً، وعلى أنْ تُحْسِن وتجيد التفكير فيه.
هذا التناقض الموضوعي في إجابتيهما لن ينزل برداً وسلاماً على كثيرٍ من الناس الذين اعتادت أذهانهم أنْ يفهموا "الحقيقة" بما يُوافِق المبدأ الميتافيزيقي "إمَّا.. وإمَّا..".
وعملاً بهذا المبدأ (غير العملي، وغير العلمي) سيقولون إنَّ تضارُب أو تناقض الإجابتين لا يعني إلاَّ أنَّ كلتيهما لا تمتُّ بصلةً إلى مفهوم "الحقيقة"؛ ولسوف يتساءلون، في هُزْءٍ وسُخْريةٍ، قائلين: كيف للحقيقة أنْ تقوم لها قائمة إذا ما قُلْنا إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه؟!
"الواقع الموضوعي" لـ "الإبريق" يهزأ ويسخر من قولهم قائلاً: لكنَّها الحقيقة؛ فهذا هو "الواقع الموضوعي (المتناقِض)" للإبريق؛ إنَّه موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه؛ فهل في مقدور أيِّ شخصٍ ثالث أنْ يَحْسِم الأمر (حَسْماً ميتافيزيقياً) فيقول مثلاً إنَّ الحقيقة، كل الحقيقة، أو إنَّ الحقيقة التي لا ريب فيها، هي أنَّ الإبريق موضوع الآن أمام الفنجان، لا وراءه؟!
صاحبا الإجابتين لم يتناقضا في إجابتيهما لأسباب ذاتية، أو لكونهما، على سبيل المثال، "يرغبان في" أنْ تتناقض إجابتيهما؛ فكلاهما، وبكل ما لديه من أساليب وطرائق "الاختبار الموضوعي"، يتوصَّل إلى أنَّ إجابته صائبة، صحيحة، تُمثِّل "الحقيقة".
وعلى هذا قِسْ؛ فهل هذا الكائن حيٌّ أمْ ميِّت؟ إنَّه حيٌّ وميِّت في الوقت نفسه؛ وهل هذا الجسم متحرِّكٌ أم ساكِن؟ إنَّه متحرِّكٌ وساكِنٌ في الوقت نفسه؛ وهل هذا الشخص عالِمٌ أم جاهِلٌ؟ إنَّه عالِمٌ وجاهِلٌ في الوقت نفسه؛ وهل نظام الحكم هذا دكتاتوري أم ديمقراطي؟ إنَّه دكتاتوري وديمقراطي في الوقت نفسه.
في مثالنا البسيط ذاك، وَقَفْنا على معنى "نسبية" الحقيقة، وَوَقَفْنا، في الوقت نفسه، على ما يُمْكنني نَسْبه إلى "المُطْلَق" منها؛ فـ "نسبيتها (الموضوعية)" نراها واضحة جلية في قول أحدهما إنَّ الإبريق موضوع أمام الفنجان، وفي قول الآخر إنَّ الإبريق موضوع وراء الفنجان؛ أمَّا "المُطْلَق" منها، والكامِن في "النِّسْبي" في الإجابتين كلتيهما، فَنَقِف عليه في "الإجابة الثالثة" الآتية: الإبريق موضوع أمام الفنجان، وموضوع وراءه، في الوقت نفسه (فلتتأمَّلوا جيِّداً "الضِّدَّيْن"، في هذا المثال، وهما "الأمام" و"الوراء"، وعبارة "في الوقت نفسه").
إنَّ "الوجود المتناقض لكل شيء" هو "حقيقة مُطْلَقَة"؛ لكنَّه ليس "الحقيقة المُطْلَقة الوحيدة"؛ فإنَّ "المُطْلَق" من "الحقيقة" يكمن دائماً في كلِّ "حقيقة نسبية"؛ فالصِّلة بين هذين "الضِّدَّيْن"، أيْ "النسبي" و"المطلق" من الحقائق، ينبغي لنا فَهْمهما كما فَهِمْنا الصِّلة بين "الأمام" و"الوراء" في مثال "الإبريق والفنجان"؛ فنقول من ثمَّ إنَّ هذه "الحقيقة" هي "نسبية" و"مطلقة" في الوقت نفسه.
لقد اختلف الشخصان في إجابة السؤال "أيهما موضوع أمام الآخر؟"؛ لكنَّهما لن يختلفا أبداً في أمور من قبيل إنَّ الإبريق والفنجان موضوعان الآن على الطاولة، وإنَّ الإبريق فارغٌ، إذا ما كان فارغاً، أو ممتلئ، إذا ما كان ممتلئاً.
ثمَّة "مُطْلَقٌ" في "النِّسْبي"، أيْ في نظريتيِّ "النسبية الخاصة" و"النسبية العامة" لآينشتاين؛ فأين هو هذا "المُطْلَق"؟
قَبْل الإجابة، أقول إنَّ كثيراً من "الجدليين"، وأنا منهم، لا يروقهم أنْ تُفْهَم "النِّسْبية" على أنَّها نَفْيٌ مُطْلَق لـ "المُطْلَق"؛ لكنَّ بعضهم لم يُوفَّق في اكتشاف ورؤية "المُطْلَق" في "النِّسْبية"، فَمَالَ، من ثمَّ، إلى الارتياب فيها.
لا وجود لمراقِبٍ كونيٍّ إلاَّ بصفة كونه جزءاً من "إطارٍ مرجعيٍّ"، يتِّحِد معه اتِّحاداً لا انفصام فيه؛ فكلُّ مراقِبٍ هو ابن "إطاره المرجعي"، القابِل للتغيُّر؛ فإذا تغيَّر، تغيَّر المراقِب في رؤيته لـ "العالَم الخارجي"؛ وقد يَنْفَصِل المراقِب عن "إطاره المرجعي"؛ لكنَّه لا يَنْفَصِل، ولا يُمْكنه أنْ يَنْفَصِل، إلاَّ إذا ارتبط، في اللحظة عينها، بـ "إطارٍ مرجعيٍّ آخر"؛ فلا وجود لمراقِب مُجرَّد من "إطاره المرجعي"، أو يَقَع في "فراغٍ"، أو "منطقة محايِدة"، بين "إطارين مرجعيين".
ضِمْن "إطاركَ المرجعي" المتغيِّر، والذي مهما تغيَّر، لا شيء فيه يتغيَّر، من وجهة نظرك؛ فكل شيء، وكل حادث، يَحْدُث كالمعتاد، ويَسْتَغْرِق حدوثه الزمن نفسه، وتراه، بكل أبعاده وجوانبه، كما اعتَدتَّ رؤيته، وكأنَّكَ ضِمْن "الثابت" في كلِّ ما تغيَّر، ويتغيَّر؛ فَهُنا "المُطْلَق" الكامِن في "النِّسْبية".
"إطاركَ المرجعي" هذا تغيَّر في استمرار، بالحركة تارةً، وبالجاذبية طوراً؛ وتغيَّر، في استمرار، أيضاً، "الزمن" لديك، لجهة سرعة جريانه، و"المتر"، مع "الأطوال".
نتائج وعواقب هذا التغيُّر (في "السَّاعة" و"المتر") لا تراها أبداً في "إطاركَ المرجعي"؛ لكنَّكَ تراها في "العالَم الخارجي"، أيْ في كل ما يَقَع في خارج "إطاركَ".
وحده المراقِب الخارجي، أيْ الموجود في خارج "إطاركَ"، وبعيداً عنه، هو الذي في مقدوره رؤية تلك النتائج والعواقب لديكَ؛ فهو الذي يرى (مثلاً) أنَّ الثانية الواحدة عندكَ تَعْدِل ساعات، أو سنوات، عنده، وأنَّ قَلْبَك ينبض 70 نبضة في السَّنة الواحدة، وأنَّ عُمْرَكَ الآن ألف سنة، وأنَّ طول حُجْرَتِك قد تقلَّص، وأنَّ كل شيء عندكَ يَسْتَغْرِق حدوثه زمناً أطول بكثير من المعتاد.
أنتَ، وفي "أُطركَ المرجعية المختلفة"، ترى "المُطْلَق" مُقيماً أبدياً ضِمْن "إطارك المرجعي"، مهما تغيَّر؛ وترى "النِّسْبي" يتَّخِذ من "العالَم الخارجي" مسرحاً له.
في شأن إشكالية "الحقيقة"، لا بدَّ من جلاء أهمية التجربة العملية، فمن هذه التجربة ليس إلا تَعلَّم الإنسان أمراً في منتهى الأهمية وهو أنه لا يمكنه فعل أي شيء يرغب في فعله، أي لكونه فحسب يرغب في فعله؛ فثمَّة قوانين موضوعية مادية ينبغي للإنسان موافقة فكره معها إذا ما أراد لفعله النجاح.
الإنسان، في سعيه المعرفي، إنَّما يبتغي الوصول إلى "الحقيقة"، أي إلى فهم الأمور فهما يمْكن، عبر الممارسة والتجربة العملية، إقامة الدليل على صحَّته.
وتوصُّلا إلى "الحقيقة" لا بدَّ من إنشاء وتطوير منهج، يتأكَّد، عبر الممارسة والتجربة العملية، أنَّ أخْذَنا به يُوْصلنا إلى "الحقيقة"، التي ليس من ميزان نزنها به سوى ميزان الممارسة والتجربة العملية.
وهذا المنهج هو ما تواضع الفلاسفة على تسميته "المنطق"، متوفِّرين على إنشاء وتطوير قواعد ومبادئ له.
و"الفكر"، أو "التفكير"، ينبغي له أن يراعي، تلك القواعد والمبادئ، وأن يستمسك بها ويتقيَّد، إذا ما أراد صاحبه الوصول إلى "الحقيقة"؛ فمِنْ أين أتى "المنطق"، بقواعده ومبادئه، إلى رأس الإنسان؟
لم يأتِ إلا من مَصْدَرٍ واحد هو "التجربة العملية (الممارسة)" للإنسان في سياق صراعه مع الطبيعة.
إنَّ "النجاح" و"الفشل" في التجارب العملية للإنسان هما ما فرضا عليه أن يكون "منطقيا في تفكيره"؛ و"المنطقية في التفكير" لم تنشأ لدى البشر إلا بصفة كونها "شرط بقاء".
هيجل في حديثه عن "الحقيقة" أوضح أمراً في منتهى الأهمية هو أنَّ كل ما هو "حقيقي (واقعي)" يجب أن يتَّسم بـ "العقلانية (المنطقية)"، أي يجب أن يكون متوافقاً مع "العقل"؛ لكن، هذا "الحقيقي (الواقعي)" لا بدَّ له، في مجرى التطوُّر، من أن يغدو شيئاً "غير عقلاني"، فـ "الواقعي" يبدأ "عقلانياً" وينتهي "لا عقلانياً".
وفي مثال التطوُّر المعرفي للإنسان، نرى أنَّ توسُّع وتعمُّق الإنسان في معرفة موضوع ما يفضيان إلى ولادة أسئلة وتساؤلات جديدة في رأسه، يتعذَّر عليه إجابة كثير منها، فينشأ، من ثمَّ، جهل جديد، هو جهل العالِم، أو الإنسان الذي يملك شيئا يُعْتَدُّ به من المعرفة والعِلم في هذا الموضوع.
المعرفة إنَّما هي التغلُّب على جهل قديم، لِيُوْلَد جهل جديد، فلا معرفة خالصة، ولا جهل خالص، فكلا النقيضين يخالط الآخر..
على هذا النحو تنمو المعرفة وتتطوَّر.. فالحقيقة المطلقة يرتفع منسوبها، في معارف البشر، في استمرار؛ لكنه لن يبلغ أبدا حدَّهُ النهائي والأخير؛ لأنْ لا حدَّ له يمكن أنْ يكون نهائياً وأخيراً.
ما السبب الحقيقي لهذا الشيء، أو لهذه الظاهرة؟
كل الناس، ومهما اختلفت، أو تضاربت، مصالحهم وغاياتهم ودوافعهم، لا بدَّ لهم من أن يسألوا دائما هذا السؤال، وأن يسعوا في إجابته إجابة موضوعية؛ لأنَّ "الإجابة الموضوعية" هي الشرط الأولي لإنجاز كل عمل، ولو كان الشيطان هو الذي يقوم به.
وبعد ذلك، يتقرَّر الموقف من "الإجابة الموضوعية"، إيجاباً أو سلباً، فإذا قضت "المصلحة" بنشر وإبراز تلك الإجابة، نُشِرت وأُبْرِزَت، وإذا كانت ضدَّ ذلك، حُجِبَت، بوسائل شتى، بعضها فكري، عن الأبصار والبصائر.
وعندما يَعْجَز الإنسان، أو يُعْجَز، أي يُجْعَلَ عاجزاً، عن فهم ومعرفة أسباب المصائب التي تحلُّ عليه، يَسْهُلَ جعله يَنْظُر إليها، ويفهمها، على أنَّها مُقَدَّرة عليه، لا مناص له ولا مهرب منها.
وثمَّة مصالح فئوية ضيِّقة تكمن في سعي ذويها (وخَدَمهم من المفكِّرين وأهل الفكر والقلم) إلى "التجهيل"، أو إنشاء وتطوير "صناعة العجز المعرفي"، حتى يبقى "اللا تعليل،" هو التعليل، فترضى به نفوس مَنْ تحل عليهم المصائب.
الطبيعة إنَّما هي "صانعٌ" يصنع أشياء "غير مكتملة، وغير تامَّة، الصنع"، فالشيء الذي تصنعه الطبيعة إنَّما هو "شيء (يظلُّ إلى الأبد) قَيْد الصنع"، أي أنَّه شيء "غير نهائي"، ولا يمكنه أبداً أن يغدو "نهائياً".
ونحن كثيراً ما نضرب صفحاً عن هذه الحقيقة الجدلية الكبرى في معارفنا ومفاهيمنا وأفكارنا وتصوَّراتنا.
"الفهم الميتافيزيقي" للأشياء إنَّما يعني أنْ نفهم كل شيء على أنَّه "تام الصنع"، فالقط الذي نراه الآن هو نفسه في ماضيه، ولسوف يظل هو نفسه في مستقبله؛ لأنَّه شيء تام الصنع في جوهره وخواصه الأساسية، إنْ لم يكن في كل تفاصيل هيئته.
هذا القط ليس هو ذاته في ماضيه؛ ونحن لن نفهمه أبدا إذا لم نتوفَّر على إجابة السؤال الآتي:
"كيف كان هذا القط الذي أراه وأعرفه (الآن) في ماضيه (قبل ملايين السنين)؟".
النظر إلى الأشياء على أنَّها تامَّة الصنع، لا تتغير أبداً، إنَّما هو نفسه النظر إليها على أنَّها أشياء منفصلة انفصالاً ميتافيزيقياً عن بعضها بعضاً.
إنَّ الشيء لا يمكن أن يكون على ما هو عليه إلا لكونه ثمرة تفاعل طبيعي وحتمي بينه وبين بيئته، فالمستحيل بعينه أن تتصوَّر الشيء إذا ما فَصَلْتَهُ فصلاً مُطْلقاً عن بيئته.
لكنَّنا، في التصوُّر الميتافيزيقي، نفهم الشيء على أنَّه، في ماهيته وخواصه الجوهرية، شيء منفصل تماماً عن بيئته، فهو يظل هو ذاته ولو تغيَّرت بيئته تغيُّرا تامَّاً.
ومع ذلك، نحتاج، في مُسْتَهل بحثنا العلمي، إلى المنهج الميتافيزيقي، فقبل، ومن أجل، دراسة الشيء في حركته وتغيُّره، لا بدَّ لنا من تعيين ماهية هذا الشيء.
صَوِّر طفلا يُدعى زيد.
تأتيني بـ "صورته" بعد التقاطها بثوانٍ، أو دقائق، أو ساعات، أو أيام، فتقول لي: "هذا هو زيد".
هذه "الصورة" صحيحة؛ لأنْ لا تناقض يُذْكَر بينها وبين "المُصَوَّر"، أو "الأصل"، وهو زيد؛ لكنَّها تغدو خاطئة بعد سنوات.. بعد عشر سنوات مثلاً، فالمُصَوَّر زيد اختلف كثيراً، وكثيراً جداً، في خواصه وسماته.
و"التصوير" قد يكون "جزئياً"، كأن تَلْتَقِط صورة جانبية، أو نصفية، للطفل زيد؛ وعلى هذا النحو ينبغي لنا أن نفهم كثيراً من "المفاهيم" التي في رؤوسنا، وأنْ نقيس منسوب الحقيقة الموضوعية فيها.
إنَّ "المفهوم" يتَّصِل بـ "ماضي" الشيء (أو ببعضٍ من جزئياته) أكثر ممَّا يتَّصِل بـ "حاضره"؛ وهذا ما يشدِّد الحاجة إلى "تطوير المفاهيم" بما يجعلها أكثر توافقاً مع "حاضِر" الشيء، فـ "المفهوم" إنَّما يشبه "صورة شمسية" الْتُقِطَت لطفل أصبح الآن شاباً.
بـ "العمل (والتجربة العملية)"، يَتَّسِع في استمرار المَصْدَر المادي لأحاسيس الإنسان.
"المفهوم" يُرينا ما لا تُرينا إيَّاه العين، وهو الذي به "نُثَقِّف" حواسنا، فـ "العين" ترينا "الظاهر"، و"المفهوم (أو عين العقل)" يرينا "غير الظاهر".
إنَّ "المعرفة" هي وحدة وصراع ضدين، هما: "الإحساس" و"المفهوم".
من "الإحساس" يُوْلَد "المفهوم"، الذي بفضله يتطوَّر "الإحساس"، فمن خلال "حاسة" المفهوم يتعمَّق "الإحساس".
لقد رأيتَ الشمس بعينكَ؛ لكنَّكَ ستراها رؤيةً أعمق من خلال "عين" المفهوم، أي من خلال "مفهوم الشمس".
"المفهوم" هو "عين ثالثة"، هو "حاسة إبصار ثالثة"، من خلالها يتعمَّق المرء في رؤية ما تراه عيناه.
و"المفهوم" إنَّما هو "العام" وقد رأته "عين" العقل في "الخاص"، الذي تراه العين.
كيف تُؤسَّس "النَّظريات"؟
"النَّظرية" هي في الأصْل، أيْ في أصلها "الواقعي الموضوعي"، "ظاهرة (طبيعية، مثلاً)"، مُدْرَكَة حِسِّيَّاً؛ لكنْ يَسْتَغْلِق على البشر (مِنْ مُدْركيها حِسِّيَّاً) فهمها وتفسيرها وتعليلها، أو الوقوف على أسبابها، فَتَنْشَط فيهم، وتَتَّقِد، "المُخَيِّلة"، التي بمعونتها "يَفْتَرِضون (أو يتصوَّرون)" تفسيراً، أو يتوصَّلون إلى "تفسير افتراضي"، لا بدَّ من اختباره، وَوَضْع نتائج الاختبار، من ثمَّ، في "ميزان الحقيقة (الموضوعية)"؛ فلا ميزان غيره نَزِن به "الحقيقة الموضوعية" في نظريَّاتنا وأفكارنا.
ولنا في "تُفَّاحة نيوتن" الشهيرة خير مثال؛ فلقد شاهَدَ ما شاَهَدَه من قبله ملايين البشر، ألا وهو تُفَّاحة انقطعت صلتها بشجرتها، فسقطت أرضاً؛ لكنَّه انفرد بالسؤال "لماذا تحرَّكت هذه التُّفاحة نزولاً، أيْ إلى أسفل، ولم تتحرَّك، صعوداً، أيْ إلى أعلى؟".
"الظاهرة" هذه لا ريب فيها؛ فإنَّ أحداً لا يستطيع أنْ يُنْكِر حدوث هذا الحادث؛ لكنَّ "التفسير" اسْتُغْلِق وتَعسَّر؛ فافْتَرَضَ نيوتن، إذ أطلق العنان لمُخَيِّلته، وجود "قوَّة (ما)"، في سطح الأرض، أو في مركزها، هي التي تَشُدُّ إليها، أو إلى أسفل، تلك التُّفاحة.
ولو استأثرت الظاهرة نفسها باهتمام قُدَماء البشر، ومِمَّن يستهويهم "التفسير الرُّوحاني" للظواهر الطبيعية، لأجاب أحدهم عن السؤال نفسه قائلاً إنَّ "قوَّة روحانية (ما)" هي التي تُسْقِط هذه التُّفاحة أرضاً؛ ولسوف يظل هذا "التفسير الرُّوحاني" مهيمِناً وسائداً إلى أنْ يُكْتَشَف (من طريق العِلْم) السبب الطبيعي لهذه الظاهرة الطبيعية.
إنَّ "لماذا (وفي تصاعُدِها على وجه الخصوص)" هي "سؤال العِلْم"؛ لأنَّها تَطْلُب التفسير والتعليل؛ وفي هذا المسعى، لا بدَّ لـ "المُخَيِّلة" من أنْ تكون "نقطة الانطلاق"؛ فـ "المنطق الذي يخالطه كثير من الخيال" هو الذي من رَحْمِه خَرَجَت كبرى النَّظريات العلمية.
ولتبيان أهمية "لماذا التصاعدية"، أُوْرِدْ المَثَل الآتي:
أحد الفلاسفة سأل مريضاً "لماذا تتناول الدواء؟"، فأجابه قائلاً: "حتى أشفى"؛ فسأله "ولماذا تريد الشِّفاء؟"، فأجابه قائلاً: "حتى أسْعَد في حياتي"؛ فسأله "ولماذا تنشد السعادة؟"، فاستعصت عليه الإجابة، هذه المرَّة، واسْتَغْلَقَت.
ولو سُئلْتَ "لماذا الأرض هي التي تدور حول الشمس (وليست الشمس هي التي تدور حول الأرض)؟"، لَشَعَرْتَ بوطأة وثِقَل السؤال.
"المعرفة" الكاملة المكتمِلة (في أيِّ أمْرٍ) إنَّما هي ضَرْبٌ من المستحيل--;-- فإنَّ أصغر أمْرٍ لا يُمْكننا أبداً استنفاده معرفياً (أيْ استنفاد معرفته).
لماذا?
لأنَّ كل معرفة جديدة (في أمْرٍ ما) تأتي, حتماً, بجهل جديد (في الأمْر نفسه). وهذا "الجهل الجديد" يمكن تشبيهه بـ "فراغٍ (أو ثُقْبٍ)" تشتمل عليه "المعرفة الجديدة".
إنَّه "الفراغ (أو النَّقْص) المعرفي", الذي حيَّرني أمْره, فتساءلْتُ قائلاً: "هل هو وليد السؤال أم وليد الجواب?"--;-- ففَكِّروا معي (مليَّاً) في هذا الأمر, أيْ في إجابة هذا التساؤل.
ولقد توصَّلْتُ إلى الإجابة الآتية: "إنَّ الفراغ (المعرفي) هو دائماً وليد الجواب (لا السؤال). أمَّا السؤال فهو الذي به نملأ هذا الفراغ".
إنَّكَ ما أنْ تُجيب عن سؤالٍ حتى تَكْتَشِف (أو يَكْتَشِف غيرك) فراغاً (أو ثغرةً, أو نقصاً, أو ثقباً) في إجابتك--;-- ولا بدَّ لهذا الفراغ من أنْ يُمْلأ سريعاً--;-- لأنَّ "الطبيعة" تَكْرَه "الفراغ", ولو كان في "المعرفة", أو في "إجابات الأسئلة".
وفي مسار المعرفة (الصاعِد أبداً, والذي لا نهاية له) نرى دائماً "السؤال" يقود (ولو بعد حين) إلى "جواب"--;-- و"الجواب" يقود إلى "فراغ"--;-- و"الفراغ" يقود إلى "سؤالٍ جديدٍ"--;-- وهذا "السؤال الجديد" هو الذي به يُمْلأ ذاك "الفراغ".
"النَّظرية"، وبصفة كونها "تفسيراً افتراضياً" يبدو منطقياً أكثر من غيره، تظلُّ في حاجة إلى ما يقيم الدليل (العملي) على صوابها وصدقيتها، أيْ تظلُّ قَيْد الاختبار.
ومع استجماع ما يكفي من الأدلة (العملية والواقعية) على صوابها وصدقيتها، تُتَّخَذ "النَّظرية" أداة تفسير وتعليل لِمَا عداها، فتبدو لنا (أيْ "النَّظرية") صحيحة.
لكن، ما أنْ نتوسَّع في اختبارها واستعمالها حتى نكتشف الثغرات والنواقِص وأوجه العجز فيها؛ فثمَّة ظواهر نعجز عن تفسيرها بهذه النَّظرية، وكان يُفْتَرَض أنْ نتمكَّن؛ فيتأكَّد لنا، عندئذٍ، أنَّ لكل قاعدة استثناء (ولا يُسْتَثْنى من ذلك حتى قاعدة "لكل قاعدة استثناء").
وعندئذٍ، نَجِدُ أنفسنا بإزاء تَحَدِّي "شرح وتفسير هذه الاستثناءات"؛ فيتمخَّض الجهد المبذول في سبيل ذلك عن "نظرية جديدة"، تَصْلُح تفسيراً لهذه "الاستثناءات"؛ وهذه "النَّظرية الجديدة" لن تكون "نفياً خالصاً" لـ "النَّظرية القديمة".
ستكون، ولا بدَّ لها من أنْ تكون، "نفياً جدلياً" لها؛ و"النَّظرية الجديدة" التي جاء بها "النفي الجدلي" إنَّما هي نظرية يتِّحِد فيها اتِّحاداً لا انفصام فيه "النَّفي" و"الاستبقاء" و"الإضافة".
وفي هذا السِّياق الذي لا نهاية له من "النَّفي" و"الاستبقاء" و"الإضافة"، يُبْنى صرح "الحقيقة" حجراً حجراً.
إلى هيجل، هذا الفيلسوف الألماني العظيم، المثالي الأعظم، والجدلي الأعظم أيضاً، يعود الفضل في اكتشاف (وصوغ) قانون "نفي النفي" Negation Of Negation.
هذا القانون (أو الثلاثية الهيجلية الشهيرة) والذي يشمل فعله وعمله الطبيعة والتاريخ والمجتمع والفكر، شرحه هيجل بنفسه خير شرح في مثال "البرعم والزهرة والثمرة"، فقال: إنَّ "البرعم" يختفي ما أنْ تحطِّمه "الزهرة"، وتحل مكانه؛ لكنَّ "الزهرة" التي نفت وألغت "البرعم" لن تظل في مكانها، أو على ما هي عليه، إلى الأبد، فإنَّ "الثمرة" تنفيها وتلغيها هي أيضاً، وتحل مكانها.
النفي الأوَّل الذي نراه في حياة النبتة إنَّما هو نفي "الزهرة" لـ "البرعم"؛ والنفي الثاني هو نفي "الثمرة" لـ "الزهرة"؛ وهذا النفي (الثاني) هو ما يسميه هيجل "نفي النفي".
هيجل يسمِّي الطور الأوَّل من حياة النبتة، والذي هو "البرعم" تسمية فلسفية هي "الأطروحة" Thesis، ويسمِّي الطور الثاني، وهو "الزهرة"، "النقيض" Antithesis، ويسمِّي الطور الثالث، وهو "الثمرة"، "التركيب" Synthesis؛ وهذا الطور هو نفسه طور "نفي النفي".
ثمَّ يوضِّح هيجل أمراً في منتهى الأهمية هو "تساوي الأطوار الثلاثة جميعاً لجهة أهميتها وضرورتها"، فلو لم يُوْجَد طور "الزهرة"، مثلاً، لَمَا ظهرت "الثمرة" إلى الوجود؛ وإنَّ من السخف بمكان أنْ ينظر بعض الناس إلى "الثمرة"، مثلاً، على أنَّها "الحقيقة"، وكأنَّ طور "الزهرة" عديم الأهمية، أو قليلها.
في نفي فكرة لأخرى، يمكن أنْ نقول إنَّ الفكرة الجديدة "دَحَضَت" القديمة، ويمكن أنْ يقول بعض الناس مُسْتَنْتِجاً إنَّ الفكرة القديمة ما كانت لِتُدْحَض لو لم تكن "خاطئة"، أو "زائفة"، وإنَّ الفكرة الجديدة هي، من ثمَّ، "الصائبة" و"الحقيقية".
وفي الطريقة نفسها، يمكن أن يفهم بعض الناس "الزهرة" على أنَّها "الخطأ" و"الزِّيف" في حياة النبتة، و"الثمرة" على أنَّها "التطوُّر الطبيعي والحقيقي".
وهؤلاء الناس، أو أشباههم، هم الذين اكتشفوا في النظام الرأسمالي (أو في "الليبرالية الجديدة") نهاية التاريخ، و"الحقيقة النهائية"، التي بظهورها صار "الزِّيف"، والذي هو كناية عن النظم الاقتصادية والاجتماعية التي ظهرت قبل الرأسمالية، أثراً بعد عين، فهي، أي الرأسمالية، كالثمرة لجهة أهميتها وضرورتها.
و"النفي"، حتى نُحْسِن فهمه، ولا نظلُّ أسرى فهم خاطئ له، لا يعني أبداً "الفناء التام"، أو القضاء على الشيء الذي نُفي "قضاءً مبرماً"، فإنَّ "النفي"، في معناه الحقيقي الجدلي الهيجلي، هو الفعل الذي بفضله "يُغْلَب (يُقْهَر، يُهْزَم)" Over come القديم، أي الشيء الذي تعرَّض للنفي، و"يُحافَظ عليه (يُسْتَبْقى، يُحْتَفَظ به)" Preservedفي الوقت نفسه.
وفي مثال بسيط، أقول إنَّني "أنفي" قطعة اللحم عندما آكُلُها؛ لكن هل فَنِيَت قطعة اللحم إذ أكَلْتُها؟
لا شكَّ في أنَّها "نُفِيَت"، بمعنى ما؛ لكن هذا "النفي" تضمَّن أيضاً معنى "الاستبقاء"، ففي عملية الهضم، أو عملية التمثيل الغذائي، يحتفظ جسمي بكل ما هو ضروري ومفيد من قطعة اللحم التي نُفِيَت.
وفي الطريقة نفسها، يمكننا، وينبغي لنا، فهم "نفي" نظرية ما، أو مدرسة فكرية ما، أو عقيدة ما.
وفي تاريخ العقائد، نرى أنَّ كل عقيدة جديدة لا تنفي "العقيدة القديمة" إلاَّ بهذا "المعنى المزدوج" لـ "النفي"، فـ "الجديدة" تلغي "القديمة"، وتحل مكانها؛ مُحْتَفِظَةً، في الوقت نفسه، بكل ما هو ضروري ومفيد وإيجابي وجدير بالبقاء من عناصر وجوانب وأفكار ومفاهيم "القديمة"، أي تلك العقيدة التي نُفِيَت. إنَّ "العقيدة الجديدة (النافية)" تمتص، وتتشرَّب، وتستوعب، عناصر من "العقيدة القديمة (المنفية)"، جاعلةً تلك العناصر جزءاً لا يتجزأ من بنيتها وتكوينها.
ربَّما سمعتم بما يسمى "حَجَر الفلاسفة".. ففي العصور الوسطى استبدَّت بتفكير "الكيميائيين" القدامى فكرة تحويل بعض المعادن الرخيصة، كالرصاص، إلى ذهب، فكانت "الأطروحة" من "الثلاثية الهيجلية" هي فكرة أو نظرية "تحويل العناصر".
ولقد بذل "الكيميائيون" القدامى جهوداً مضنية في سبيل تحويل الرصاص إلى ذهب؛ لكنَّ كل جهودهم منيت بالفشل؛ ومع ذلك، لم يكن هذا الفشل خالصاً مطلقاً، فهُمْ، وفي سياق محاولاتهم العبثية، توصَّلوا إلى اكتشاف كثير من الحقائق، وأنشأوا وطوَّروا كثيراً من الأدوات، فالمرء لا يمكنه أن يفشل في تحقيق أمر ما من غير أن يتوصَّل، في الوقت نفسه، إلى أشياء تجعل الفشل أُمَّ النجاح.
محاولاتهم، ومن حيث المبدأ، افتقرت إلى "الحكمة"، فهم لو نجحوا في تحويل الرصاص إلى ذهب لانتفى الدَّافِع لديهم إلى ذلك؛ فإنَّ إنتاج مزيد من الذهب، من خلال تحويل الرصاص إلى ذهب، سيؤدِّي لا محالة إلى جَعْل الذهب معدناً رخيصاً!
ومع نشوء وتطوُّر الصناعة الرأسمالية، دُحِضَت (نُفِيَت) فكرة "تحويل المعادن"، وحلَّت مكانها فكرة مضادة هي "المعادن غير قابلة للتحويل"؛ وهذه الفكرة المضادة الجديدة إنَّما تمثِّل "النقيض" من "الثلاثية الهيجلية".
وفي القرن العشرين، تطوَّر علم الفيزياء النووية، وأصبح ممكناً، من ثمَّ، تحويل عنصر إلى عنصر، كتحويل الرصاص إلى ذهب، فعاد العلماء إلى الأخذ بفكرة "تحويل العناصر"؛ لكن شتَّان ما بين "الفكرة القديمة" و"الفكرة الجديدة"، فالعودة إلى الماضي، في هذا المثال، كانت مختلفة في كثير من الجوانب، وظهرت على مستوى أعلى.
إذا تجرَّأتُ وقُلْتُ الآن، في مستهل القرن الحادي والعشرين "أجل، إنَّ الأرض هي محور الكون"، فهل أكون بقولي هذا قد عُدتُّ إلى "الفكرة القديمة"، التي لا يعتقد بها عاقل اليوم؟
قديماً كانت "الأطروحة" هي "الأرض محور ومركز الكون، والشمس هي التي تدور حولها".
هذه الفكرة نُفِيَت، وحلَّت مكانها فكرة "الأرض ليست بمركز الكون".
واليوم، أستطيع أن أقول، استناداً إلى نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، وإلى نظرية "النسبية" لآينشتاين، إنَّ الأرض، وبمعنى ما، هي مركز الكون؛ ذلك لأنَّ كل نقطة في كوننا المتمدِّد، المتسارِع تمدُّداً، يمكن اتِّخاذها مركزاً للكون (الذي ليس له مركز).
"الزمن الكوني" لا يَعْرِف، ولن يَعْرِف أبداً، ما يُدْعى "الآن (الكونية) الواحدة المُطْلَقَة"، فإنَّ "الآنية"، بمعناها هذا هي شيء مستحيل الوجود.
لماذا؟
لأنَّ "المعلومة (الكونية)" من "ضوء"؛ والضوء الحامِل (الناقِل) المعلومة على متنه، والذي بفضله نرى ونَعْرِف ونَكْتَشِف الأشياء، لا يَنْتَشِر (مِن مَصْدَرِه إلى عيوننا) انتشاراً "لحظياً (فورياً)"، فهو يَنْتَشِر (يسير، يَنْتَقِل، يسافِر) في (أو عَبْر) الفضاء (أو الفراغ) بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة (تقريباً). إنَّها سرعة عظيمة (بل هي السرعة القصوى في الكون والطبيعة) لكنْ محدودة.
هي "السرعة القصوى"؛ لأنَّ الأشياء جميعاً إمَّا أنْ تَصِل "مع" الضوء، وإمَّا أنْ تَصِل "بَعْدَه"؛ وليس من جسم، أو جسيم، يمكنه أنْ يسبق الضوء، أي أنْ يَصِل "قَبْله". و"المادة التي لها كتلة Mass (أي تملك ولو نزراً ممَّا يسمَّى "كتلة السكون")" لا يُمْكِنها أبداً أنْ تسير بسرعة الضوء؛ أمَّا "المادة التي لا تَمْلُك شيئاً من الكتلة"، أي "الطاقة"، فهي وحدها التي تسير (وينبغي لها أنْ تسير) بسرعة الضوء.
في إحدى ليالي 1987، أضاءت السماء (الكونية) فجأةً، فإنَّ نجماً ضخم الكتلة والحجم انفجر "في تلك الليلة"؛ وهذا الانفجار، الذي لغزارة ضوئه كاد أنْ يَجْعَل "ليل" الكون "نهاراً"، هو ظاهرة كونية تسمَّى "سوبر نوفا (Supernova)"، أو ظاهرة انفجار النجم المستعر الأعظم.
"الخبر الصحافي" ينبغي له (حتى يكون "خبراً") أنْ يتضمَّن إجابة سؤالين، هما: "أين حدث هذا الذي حدث؟"، و"متى حدث؟"؛ ونحن اعتدنا أنْ نفهم "متى" على أنَّها شيء منفصل ومستقل عن "أين".
ذلك الانفجار (في إجابة سؤال "أين وقع؟") وقع في المجرَّة المجاوِرة لمجرَّتنا ("درب التبانة") والتي تُدْعى "سحابة ماجلان الكبيرة" Large Magellanic Cloud. وهذه المجرَّة تَبْعُد عنَّا نحن سكَّان كوكب الأرض نحو 190 ألف سنة ضوئية (الضوء يقطع في كل ثانية 300 ألف كيلومتر).
متى وقع (ذلك الانفجار)؟
إنَّ اثنين من سكَّان كوكب الأرض مِمَّن شاهدوا الانفجار (ليلاً) لن يختلفا كثيراً في إجابة هذا السؤال؛ فالانفجار وقع، على ما شاهدوا، "في تلك الليلة من سنة 1987".
أمَّا سكَّان كوكب موجود على مقربة من "مسرح الحدث"، أي من موضِع حدوث ذلك الانفجار، فلن يتَّفِقوا معنا في الإجابة، وسيقولون لنا: إجابتكم خاطئة، فالانفجار شاهدناه قبل أن تشاهدوه بنحو 190 ألف سنة!
في تلك اللحظة من تلك الليلة من سنة 1987، يستطيع المشاهِد الأرضي (الذي شاهد الانفجار) أن يقول: "الآن" وقع؛ لكنَّ سكَّان ذلك الكوكب البعيد (الافتراضي) لهم كل الحق في أنْ يعترضوا قائلين له: هذا الانفجار وقع "من قبل"، أي قبل نحو 190 ألف سنة، ولم يقع "الآن".
تخيَّلْ أنَّ "مصوِّراً" كان هناك، أي حيث وقع الانفجار، وأنَّ هذا "المصوِّر" التقط (بكاميرته) صورة لهذا الانفجار، وانطلق، من ثمَّ، نحو كوكب الأرض، حاملاً معه تلك الصورة، ليرينا إيَّاها.
وَلْتتخيَّلْ أيضاً أنَّ هذا "المصوِّر (الذي هو كناية عن "الضوء")" يسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية.
لقد وصل إلينا سنة 1987، منهياً رحلة فضائية استغرقت نحو 190 ألف سنة؛ ثمَّ أرانا تلك "الصورة" التي التقطها (قبل نحو 190 ألف سنة).
إنَّ ما شاهدناه (في السماء) في تلك الليلة من سنة 1987 ليس سوى "صورة (ضوئية) قديمة"؛ إنَّها "صورة" الْتُقِطَت للانفجار قبل نحو 190 ألف سنة؛ لكنَّها لم تصل إلى عيوننا إلاَّ في تلك السنة، فهذه "الآن (الكونية)" تخصُّ حادثاً حدث في الماضي السحيق (أي قبل نحو 190 ألف سنة).
سكَّان كوكب آخر، يَبْعُد عن "مسرح الحدث" 200 ألف سنة ضوئية لن يشاهدوا ما شاهدناه، نحن سكان كوكب الأرض، إلاَّ بَعْد 10 آلاف سنة؛ فإنَّ "المصوِّر" الذي زارنا سنة 1987، وأرانا "الصورة"، والذي استأنف، على الفور، رحلته الفضائية نحوهم لن يصل إليهم إلاَّ بعد 10 آلاف سنة.
الانفجار نفسه هو، على ما رأينا، "اجتماع الأفعال الثلاثة معاً (الماضي والحاضر والمستقبل)".
سنة 1987، رأينا ذلك الانفجار، والذي هو انفجار نجم ضخم الكتلة والحجم؛ فإذا أردنا أنْ نَعْرِف الهيئة التي يوجد عليها "الآن" النجم الذي انفجر فإنَّ علينا الانتظار 190 ألف سنة، فـ "الصورة (مع "المصوِّر")" ما زالت تخطو خطواتها الأولى على الطريق إلينا.
إنَّكَ لن ترى من الأشياء جميعاً "الآن" إلاَّ "صورها القديمة"، أي الصور (الضوئية) التي فيها تَظْهَر الأشياء في الهيئات التي كانت عليها في ماضيها "الأقرب"، أو "القريب"، "الأبعد" أو "البعيد".
لو رأيتَ "الآن" حادث انفجار وقع في مكان يبعد عنك 300 ألف كيلومتر فإنَّ هذا الذي رأيته "الآن" هو حادث حدث قبل ثانية واحدة من رؤيتكَ له؛ ولو وقع في مكان يبعد عنك 150 ألف كيلومتر فإنَّكَ ستراه في ماضيه أيضاً، فهو وقع قبل نصف ثانية من رؤيتك له؛ ولو وقع في مكان (في الكون) يبعد عنك 10 بلايين سنة ضوئية فإنَّكَ ستراه في ماضيه السحيق، فهو وقع قبل 10 بلايين سنة من رؤيتك له (الآن).
إنَّ كثيراً من الأشياء التي تراها الآن في السماء قد اختفت من الوجود قبل ملايين، أو بلايين، السنين؛ وإنَّ كثيراً من الأشياء الموجودة الآن في الكون لم تَرَها بَعْد؛ لأنَّ "صورها (أي الضوء المنطلق منها)" لم تَصِل إلينا بَعْد.
تخيَّل أنَّ سكَّان كوكب يبعد عنَّا 80 مليون سنة ضوئية، وأنَّ لديهم من "العيون الاصطناعية (كالتليسكوب)" ما يمكِّنهم من رؤية كوكب الأرض في وضوح، فما الذي يرونه "الآن"؟
إنَّهم يرون كوكب الأرض وقد امتلأ بالديناصورات، فالإنسان، بحسب مشاهدتهم، لم يَظْهَر بَعْد.
"المعلومة (الكونية)" أو صورة الجسم (مجرَّة أو نجم أو كوكب..) هي "ضوء".. هي جسيم يسمَّى "فوتون"، ويسير بسرعة 300 ألف كيلومتر في الثانية، فنحن بفضل الضوء المنبعث من الجسم، أو المرتد عنه، نرى هذا الجسم، فما معنى أنْ ترى، مثلاً، وردةً حمراء؟
قبل أنْ تراها، ومن أجل أن تراها، لا بدَّ لضوء ما من أن يسقط عليها؛ وهذا الضوء (أو الضوء عموماً) يمكن تصوُّره على أنَّه شيء مُركَّب من سبعة ألوان (أحمر، برتقالي، أصفر، أخضر، أزرق، نيلي، بنفسجي).
الوردة، في جزئها الأحمر، تمتصُّ من هذا الضوء الساقِط عليها ستَّة ألوان، مُطْلِقَةً اللون المماثِل للونها، وهو اللون الأحمر، فَيَنْفُذ هذا "الضوء الأحمر" إلى عينيكَ، فترى، عندئذٍ، وردةً حمراء.
تراها واضحة تماماً إذا ما كانت على مقربة منك؛ لأنَّ المقدار الأكبر من ضوئها (الأحمر) يَدْخُل في عينيك؛ وكلَّما بَعُدَتْ عنك تضاءل مقدار ما يَدْخُل إلى عينيك من ضوئها، فتراها، من ثمَّ، في وضوح أقل.
ومن أجل أنْ ترى الوردة البعيدة في وضوح أكثر لا بدَّ لك من أنْ تستعمل "عيناً اصطناعية" هي التليسكوب، الذي هو أداة تَسْتَجْمِع وتُركِّز "خيوط الضوء"، فَتُدْخِل في عينيك مقداراً أكبر من ضوء الوردة البعيدة، فتراها، من ثمَّ، وعلى بُعْدِها، في وضوح أكثر.
إنَّ توضيح صورة جسم بعيد (كوكب بعيد مثلاً) يعني أنْ تُدْخِل في عينيك (من خلال التليسكوب) مقداراً أكبر من ضوء هذا الجسم.
و"صورة الجسم" إنَّما تشبه "كلمة"، حروفها على هيئة "نُقَط"، فأنتَ تراها في منتهى الوضوح إذا ما رأيتَ كل النُّقَط التي تُكوِّن حروفها؛ وتراها أقل وضوحاً إذا ما رأيْتَ كمية أقل من تلك النُّقَط.
وإنَّ التليسكوب هو الآلة التي تَسْتَجْمِع لعينيكَ أكبر كمية يمكنها استجماعها من تلك النُّقَط.
والتليسكوب يشبه "آلة الزمن" التي من خلالها نزور الأشياء (في الكون) في ماضيها، فأنت َ برويتكَ (من خلال التليسكوب) كوكباً يَبْعُد عنَّا 10 ملايين سنة ضوئية، مثلاً، تزور هذا الكوكب في ماضيه السحيق، أي تراه في الهيئة التي كان عليها قبل 10 ملايين سنة؛ وكلَّما نَظَرْتَ (عبر التليسكوب) إلى الأبعد (مكاناً) في الكون زُرْتَ الأقدم، أي الأبعد (زماناً).
وثمَّة أجسام في الكون لا نراها الآن؛ مع أنَّ ضوءها وصل إلينا منذ زمن بعيد. إنَّنا لا نراها؛ لأنْ ليس لدينا بَعْد من "العيون الاصطناعية" ما يستطيع استجماع وتركيز خيوط ضوء تلك الأجسام بما يفي بالغرض، وهو إدخال مقدار كاف من ضوئها في عيوننا (الطبيعية).
ولفهم "الآن"، لجهة صلتها بـ "الماضي" و"المستقبل"، تخيَّل أنَّك تقود سيَّارة في طريق مستقيمة لا نهاية لها؛ فإنَّكَ كلَّما اجْتَزْتَ مسافة، ولو صغيرة جداً، زاد طول المسافة المُجْتازة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ "الآن" تُسْتَنْفَد، مضاعِفَةً حجم "الماضي"، من غير أن تقلِّل حجم "المستقبل"؛ لأنَّ حجمه لا نهائي.
إنَّ "الآن" هي "لحظة قَيْد التحوُّل إلى ماضٍ، أو إلى مزيدٍ من الماضي، أو إلى الماضي الأقرب"؛ لكنَّ هذا "الماضي الجديد" لن يتحقَّق إلاَّ مع تحقُّق ما كان منتمياً إلى "المستقبل"، أي مع تحوُّل هذا الذي كان منتمياً إلى "المستقبل" إلى "حاضرٍ جديد"؛ وهذا هو المعنى المزدوج لـ "زوال الحاضر (أي لزوال "الآن")".
الأجسام في الكون، ولجهة صلتها بالضوء المرئي، بعضها، كالنجوم، مُنْتِج، مولِّد، للضوء (والحرارة) فالاندماج النووي في باطن النجم يُحوِّل بعضاً من كتلته إلى ضوء وحرارة، ينتشران في الفضاء؛ وبعضها نراه؛ لأنَّ الضوء الساقِط عليه لا يخترقه، ويرتدُّ عنه، منتَشِراً في الفضاء، فإذا وصل إلينا، واخترق عيوننا، رأيناه (أي رأينا الجسم الذي ارتدَّ عنه هذا الضوء). أمَّا إذا كان الجسم لا لون له، أي إذا كان "أسود اللون"، فإنَّه يمتص كل الضوء الساقِط عليه.
ورؤية الجسم بفضل الضوء المرتد عنه تظلُّ رؤية سطحية، فإنَّ "سطح" الجسم، لا "باطنه"، أو "عمقه"، هو ما يرينا إيَّاه الضوء المرتد عنه.
و"المعرفة الكونية" تظلُّ غير واضحة، يكتنفها كثيرٌ من "عدم اليقين"؛ لأنَّ جسيم الضوء هو "الفوتون"؛ و"الفوتون" لا يختلف في الخواص والجوهر عن "ضديده"، فالضوء بحدِّ ذاته لا يحيطنا عِلْماً بماهية المادة التي إليها ينتمي الجسم الذي يرينا إيَّاه، فمادة هذا الجسم قد تكون من جنس "المادة المضادة" Antimatter.
إنَّ الضوء (المرئي) هو الذي بفضله نرى الأجسام في الكون، ونستدل على وجودها، أو على أنَّها كانت موجودة؛ لكن ثمَّة نوع من الأجسام من فَرْط جاذبيته، أو لشدَّة انحناء "الزمكان (Spacetime)" الخاص به، لا يستطيع حتى الضوء، وعلى سرعته التي لا تفوقها سرعة، الإفلات من قبضة جاذبيته؛ وهذا النوع هو ما يسمَّى "الثقب الأسود" Black hole.
"الثقب الأسود"، وبحسب خواصه الفيزيائية التي يتصوَّرها، أو يفترضها، معظم الفيزيائيين الكونيين، هو أشبه ما يكون (من الوجهة الفلسفية) بـ "الشيء الكانطي (نسبةً إلى الفيلسوف الألماني كانط)"، أي الشيء الذي لن يتمكَّن العقل البشري أبداً من معرفة ماهيته.
هذا الجسم هو "الكثافة اللانهائية"، المتأتية من اجتماع "الكتلة المحدودة" و"الحجم الصفري (أو المعدوم)"؛ وهو، من ثمَّ، "الانحناء الأقصى (إنْ لم يكن المطلق) للزمكان"، أو "الجاذبية التي في منتهى القوَّة والشِّدة".
وهذا إنَّما يعني أنْ لا شيء، ولو كان الضوء نفسه، والذي يسير في الفراغ بسرعة هي السرعة القصوى في الكون، يمكنه الإفلات من قبضة جاذبيته؛ والنتيجة المترتبة على ذلك هي استحالة معرفة ماهية "الثقب الأسود"، فالمعرفة هي "معلومة يحملها الضوء"؛ والضوء لا يمكنه أبداً مغادرة هذا الجسم.
لكنَّ استحالة معرفة ماهية هذا الجسم لا تعني أنَّ الاستدلال على وجوده هو أيضاً أمْرٌ مستحيل، فإنَّ تأثير الجاذبية القوية لهذا الجسم في كل ما يقع على مقربة منه من أجسام ومواد هو ما يُثْبِت ويؤكِّد وجوده.
والمعرفة الكونية تزداد تعقيداً مع افتراض أنَّ معظم المادة في الكون هو من جنس "المادة الداكنة" Dark matter. إنَّها "داكنة (أو مظلمة)"؛ لأنْ لا ضوء (ولا معلومة من ثمَّ) يمكن أن يصدر عنها؛ وهي، أيضاً، يُسْتَدلُّ على وجودها من خلال تأثير جاذبيتها بـ "المادة العادية"، وبـ "الخواص الهندسية" للفضاء.
والقسم الأعظم من "المادة الداكنة" يُوْجَد، على ما يفترض فيزيائيون كونيون الآن، على شكل "طاقة داكنة" Dark energy، يَنْسِبون إليها ظاهرة "التمدُّد الكوني"، و"تسارع" هذا التمدُّد الآن؛ وهذا "التمدُّد الكوني (مع تسارعه الآن)" هو، أيضاً، مَصْدَر لمزيد من الإشكاليات في معرفة الكون.
و"تمدُّد الكون" يشبه تمدُّد بالون ضخم، نُقِّط سطحه بعدد من النُّقَط، فكلَّما أدْخلنا فيه مزيداً من الهواء تمدَّد، واتَّسعت المسافة بين كل نقطة وسائر النُّقَط. وهذا الاتِّساع للمسافة لا يعني أنَّ النُّقَط هي التي تتحرَّك على سطح البالون مبتعدةً عن بعضها بعضاً، فغشاء البالون، والذي هو كناية عن "الفضاء"، هو الذي يتمدَّد، فنرى، من ثمَّ، النُّقَط تبتعد، أو ترتد، عن بعضها بعضاً.
في نظرية "الانفجار الكبير" Big bang، يُفسَّر "تمدُّد الكون" على أنَّه نتيجة لـ "تمدُّد الفضاء نفسه"؛ ويُنْظَر إلى "النُّقَط" على "سطح البالون الكوني الضخم" على أنَّها كناية عن "عناقيد (أو زُمَر) المجرَّات"، فالفضاء المتمدِّد، المتسارِع تمدُّداً الآن، ليس الفضاء بين النجوم ضمن كل مجرَّة، وليس الفضاء بين المجرَّات ضمن كل "عنقود من المجرات"، وإنَّما "الفضاء بين عناقيد المجرَّات".
النجم يتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء الداخلي لكل مجرَّة؛ والمجرَّة تتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء الداخلي لكل "عنقود مجرَّات"؛ أمَّا "عنقود المجرَّات" نفسه فلا يتحرَّك "في (أو عبر)" الفضاء بينه وبين "عناقيد المجرَّات" الأخرى. إنَّه، فحسب، يتحرَّك، وينتقل، "مع" هذا الفضاء، فالفضاء بين "عناقيد المجرَّات" الساكنة الثابتة (غير المتحرِّكة في الفضاء) يتمدَّد، في استمرار، كما يتمدَّد غشاء البالون، فتبدو "عناقيد المجرَّات" تتباعد، أو ترتد عن بعضها بعضاً، كما "النُّقَط" على سطح البالون المتمدِّد.
إنَّ تلك "العناقيد من المجرَّات" تشبه "جُزُرَاً"، أو "أرخبيلاً"؛ وهذه "الجُزُر" الثابتة في أمكنتها تبدو تتباعد؛ أمَّا السبب (الخيالي) لتباعدها الظاهري فهو "تمدُّد البحر نفسه".
هذا "التمدُّد الفضائي (المتسارع)" يَخْلِق إشكالية كبيرة في "المعرفة الكونية"، فإنَّ كل "عنقود من المجرات" نراه الآن لن يكون "الآن" في الموقع الكوني الذي نراه فيه، وإنَّ أجزاء من الكون يمكن أن تصبح منفصلة (فيزيائياً) تماماً عن كوننا.
تخيَّل أنَّ "عنقوداً (ما) من المجرَّات" يبعد "الآن" عن كرتنا الأرضية 9000 م. لقد انطلقت منه "الآن" رصاصة (هي كناية عن الضوء) نحو الكرة الأرضية.
افْتَرِضْ أنَّ سرعة هذه الرصاصة (أي الضوء) 3000 م في الثانية الواحدة.
لو كان الفضاء ثابت الحجم، لا يتمدَّد، لوصلتنا الرصاصة بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ وسنقول، عندئذٍ، في يقين، إنَّ الرصاصة قطعت مسافة 9000 م في 3 ثوانٍ، وإنَّ ذاك "العنقود من المجرات" ما زال يبعد عنَّا 9000 م (أي أنَّه ما زال في موقعه الكوني نفسه).
لكنْ تخيَّلْ الآن أنَّ المسافة التي قطعتها الرصاصة أصبحت، بسبب تمدُّد الفضاء بين النقطة (الفضائية) التي من عندها انطلقت الرصاصة وبين الكرة الأرضية، 13500 م؛ لقد ابتعد "عنقود المجرَّات" عن تلك النقطة (الفضائية) 4500 م، وزادت، في الوقت نفسه، المسافة بين النقطة والأرض 4500 م، فأصبح طول هذه المسافة عند وصول الرصاصة 13500 م.
لقد سارت الرصاصة في مسارٍ (فضائي) يزداد طولاً كل ثانية؛ فهي تقترب من كوكب الأرض الذي يبتعد عنها في الوقت نفسه؛ لكنَّها وصلته أخيراً، قاطعةً في 4.5 ثوانٍ مسافة 13500 م، وليس مسافة 9000 م؛ فنقول، من ثمَّ، إنَّ "عنقود المجرَّات" ذاك يبعد عنَّا "الآن" 13500 م (لكنَّ بُعْده الفعلي هو 18000 م).
كان ينبغي للرصاصة أن تصل إلينا بعد 3 ثوانٍ من انطلاقها؛ لكنَّها وصلت بعد 4.5 ثوانٍ.
كان ينبغي لها أن تقطع مسافة 9000 م؛ لكنَّها قطعت مسافة 13500 م.
كان ينبغي لـ "عنقود المجرَّات" ذاك أن يظل بعيداً عنَّا 9000 م؛ لكنَّه أصبح يبعد عنا (لدى وصول الرصاصة) 18000 م.
في خلال 4.5 ثوانٍ زاد طول المسار 4500 م، أي أنَّ سرعة تمدُّد الفضاء كانت 1000 م في الثانية؛ وهي سرعة أقل من سرعة الضوء (أو الرصاصة) والتي في مثالنا التخيُّلي هذا تبلغ 3000 م في الثانية.
إنَّ الفضاء هو وحده (بحسب نظريات آينشتاين) الذي يستطيع أنْ يكون أسرع من الضوء في تمدُّده؛ فإذا افترضنا أنَّ الفضاء بين "النقطة" تلك وبين كرتنا الأرضية قد تمدَّد بسرعة 3500 م في الثانية (وظل يتمدَّد بهذه السرعة، أو بسرعة أكبر) فهذا إنَّما يعني أنَّ تلك الرصاصة (الضوء، أو كل تأثير فيزيائي) لن تصل أبداً إلى أرضنا.
ثمَّة "أُفْقٌ" للكون؛ لكن، هل من شيء يَكْمُن "وراء" هذا "الأُفْق"؟
كَوْننا قد يكون هو "الكون كله"، فلا كَوْن غيره؛ وقد يكون كَوْناً من أكوان؛ ومع ذلك، يَعْتَقِد علماء الكون، أو معظمهم، أنْ لا "معلومة" يمكن أنْ تَخْرُج من كوننا، أو تأتي إليه؛ فهو لا يُرْسِل، ولا يَسْتَقْبِل.
وفي (أيْ ضِمْن) كوننا نفسه، نَفْتَرِض وجود أجزاء (وأجزاء واسعة) منه، "تَسْتَقْبِل"، ولا "تُرْسِل"؛ وبعض هذه الأجزاء هو من نوع "الثقب الأسود" Black Hole.
"أُفْق الكون" مبني على فرضية كوزمولوجية كبرى، مؤدَّاها أنَّ عُمْر كوننا 14 بليون سنة تقريباً؛ فهو، وبحسب نظرية "الانفجار الكبير" Big Bang، وُلِدَ قبل نحو 14 بليون سنة؛ فإذا رَأَيْنا نجماً (أو جسماً) يبعد عن كرتنا الأرضية 13.5 بليون سنة (مثلاً) فهذا النجم يمكن النَّظَر إليه على أنَّه "أُفْق الكون".
الجسم الذي يُمَثِّل "أُفْق الكون" يجب أنْ يكون "مضيئاً"، أو "مُرْسِلاً لمعلومة"؛ وهذه "المعلومة" تشبه "رسالة" ضِمْن "مغلَّف"، هو "الضوء (المنطلق من هذا الجسم)"؛ ولا بدَّ لهذه "المعلومة" من السَّيْر في الفضاء الكوني بسرعة الضوء (300 ألف كيلومتر في الثانية الواحدة تقريباً).
وهذا الجسم (أو النجم) هو الأبعد في الكون، أيْ هو الأبعد عنَّا نحن سكَّان الكوكب الأرضي؛ وهو نفسه الأسرع في ابتعاده (أو ارتداده) عنَّا؛ وهو نفسه الأقدم وجوداً؛ وهو نفسه الذي نراه ضئيل اللمعان، شديد الاحمرار.
والنجم، على ما نَعْلَم، ينتمي إلى "مجرَّة"، تنتمي إلى "عنقود مجرَّات"؛ و"العنقود" يتحرَّك مع الفضاء، ولا يتحرَّك فيه؛ فالفضاء بين "العناقيد" يتمدَّد في استمرار، وبسرعة متزايدة، فنرى، من ثمَّ، النجوم في مجرَّاتها تبتعد عنَّا (عن أرضنا، وعن شمسنا، وعن مجرَّتنا) في استمرار، وبسرعة متزايدة.
ونَعْلَم، أيضاً، أنَّ الكون قَبْل تَكَوُّن النجوم والمجرَّات كان أصغر حجماً، وكان الفضاء الكوني (الأصغر حجماً) مليئاً بالجسيمات (إلكترونات وبروتونات ونيوترونات) وبنوى ذرَّات الهيليوم، وبالفوتونات، وبجسيمات أخرى؛ وفي رَحْم هذا "الكون الجسيمي" تكوَّنت النجوم مع مجرَّاتها، فاتُّخِذَت جسيمات الذرَّة مواد أوَّلية، منها تكوَّنت النجوم.
وهذا إنَّما يعني أنَّنا لن نرى شيئاً من ذلك الطَّوْر الكوني؛ فالنَّجْم، أو ما يشبهه، هو وحده ما يُمثِّل "أُفْق الكون".
قُلْنا إنَّ نجماً رَأَيْناه الآن، وُلِدَ قبل نحو 13.5 بليون سنة، ويبعد عنَّا نحو 13.5 بليون سنة ضوئية، هو ما يمكن أنْ يمثِّل "أُفْق الكون"؛ فما معنى ذلك؟
المعنى الأوَّل، هو أنَّ هذا النجم، الذي نراه الآن، هو "معلومة" نُقِلِتَ (ووصَلَت) إلينا على متن ضوءٍ انطلق من النجم نفسه قبل نحو 13.5 بليون سنة، أي قَبْل نشوء كوكب الأرض؛ ولقد قَطَعَت هذه "المعلومة"، في رحلتها الكونية، مسافة 13.5 سنة ضوئية (إنَّها مسافة قَطَعَتْها فعلاً).
المعنى الثاني، هو أنَّ هذا النجم، وفي الهيئة التي نراه عليها الآن، لم يكن يُرى، مِنْ قَبْل، من كوكب الأرض، أو من مجرَّتنا.
المعنى الثالث، هو أنَّ هذا النجم، وفي الهيئة التي نراه عليها الآن، كان يمكن أنْ يُرى من كوكب الأرض، أو من مجرَّتنا، قبل بلايين السنين، لو لم يكن الفضاء الكوني يتمدَّد؛ فتمدُّد الفضاء هو ما أطال المسافة التي قَطَعَتْها (فعلاً) تلك "المعلومة".
المعنى الرابع، هو أنَّ هذا النجم، وإذا ما كان "الآن" على قيد الحياة، يُبْعُد عن كوكب الأرض أكثر كثيراً من 13.5 بليون سنة ضوئية؛ وقد يراه سكَّان الأرض، في الهيئة التي هو عليها "الآن"، إذا ما بقي، وإذا ما بَقَت الأرض نفسها، بعد 22 بليون سنة (مثلاً). وعندئذٍ، سيقولون إنَّ "أُفْق الكون" يَقَع على بُعْد (أيْ يَبْعُد عن الأرض) 22 بليون سنة ضوئية.
المعنى الخامس، هو أنَّ علماء الكون يمكنهم، في استمرار، إعادة النَّظَر في "عُمْر الكون"، مع الاحتفاظ بجوهر نظريتهم الكوزمولوجية؛ فلو اكتشفوا، بعد سنة، أو سنتين، وجود نجم يبعد عن الأرض 18 بليون سنة ضوئية (مثلاً) يقولون: لقد أَخْطَأنا في تقدير "عُمْر الكون" إذْ قُلْنا إنَّه نحو 14 بليون سنة؛ والآن، تبيَّن لنا أنَّ عُمْره 19 بليون سنة، وأنَّ هذا النجم الجديد المُكْتَشَف الآن هو ما يُمثِّل "أُفْق الكون". وهذا إنَّما يعني أنَّ نظريتهم الكوزمولوجية تَكْمُن فيها "طاقة احتيال (فيزيائي)" لا تنضب!
وَهُمْ يكفي أنْ يُعَرِّفوا "الكون" على أنَّه كل ما وُجِد، من قَبْل، وكل ما يُوْجَد، حاضراً ومستقبلاً، أو كل ما اكتُشِفَ، من قَبْل، وكل ما يُكْتَشَف، حاضراً ومستقبلاً، حتى يَسْهُل عليهم، نظرياً، "مَطَّ" عُمْر الكون، و"مَطَّ" أُفْق الكون، معاً!
إنَّ الاختبار العملي لهذه النَّظَرية غير ممكن أبداً؛ وهذا الاختبار هو "السَّيْر في مسارٍ مستقيم، وبسرعة تقارِب سرعة الضوء، في أيِّ بُعْد من أبعاد المكان الثلاثة".
نظرياً، وبما يُوافِق جوهر هذه النَّظَرية، يكفي أنْ تسير في مسارٍ مستقيم (من وجهة نظركَ) وبسرعة تُقارِب سرعة الضوء، وفي أيِّ بُعْدٍ من أبعاد المكان الثلاثة، حتى تعود إلى النقطة التي منها بدأ سَيْركَ. من وجهة نظر المراقبين في تلك النقطة، أنتَ عُدتَّ بعد بلايين وبلايين السنين؛ أمَّا من وجهة نظركَ أنتَ، فقد عُدتَّ بعد دقائق، أو بعد ساعات، من بدء رحلتكَ الكونية، التي فيها قَطَعْتَ الكون كله، عائداً، في آخر المطاف، إلى النقطة التي منها ابتدأتَ.
إنَّكَ ستعود، حتماً، إلى نقطة انطلاقكَ؛ ولن تغادِر أبداً الكون إلاَّ إذا (وهذا افتراض آخر) ساَفَرْتَ (في طريقة ما) في "البُعْد الرابع (Hyperspace)" للمكان؛ وما أدراك ما "البُعْد الرابع"!
الكون، ولجهة صلته بعيوننا الطبيعية، المُجرَّدة من أدوات التقوية الاصطناعية للرؤية كمثل الميكروسكوب والتليسكوب، كَوْنان اثنان: كَوْنٌ نستطيع رؤيته، وكَوْنٌ لا نستطيع.
إنَّكَ بعينكَ المُجرَّدة لا تستطيع رؤية الجزيء أو الذرَّة أو نواة الذرَّة أو الإلكترون أو البروتون..
وبعينكَ المُجرَّدة لا تستطيع، أيضاً، رؤية المجرَّات والنجوم والكواكب.. البعيدة، أو البعيدة كثيراً، عن مجرَّتنا ("درب التبَّانة"). لكنَّكَ تستطيع إذا ما سافرتَ في الفضاء، وشَرَعْتَ تقترب منها.
بالتليسكوب، وهو "عَيْن اصطناعية"، يُمْكِنكَ أنْ ترى (مثلاً) نجماً يبعد عن كوكب الأرض مئات الملايين من السنين الضوئية؛ فماذا يعني، فيزيائياً، أنْ ترى جسماً بعيداً جدَّاً بالتليسكوب؟
إنَّكَ تراه "أقْرَب"، و"أكبر حجماً"، و"أوضح (تفاصيلاً)".
وأنتَ ترى هذا الجسم بفضل "الضوء" الصادِر عنه، والذي "يَصُبُّ" في عينكَ، بعدما قَطَعَ في رحلته الفضائية مسافة طويلة جدَّاً، سار فيها بسرعة 300 ألف كم/ث.
وكلَّما "صَبَّ" في عينكَ مقداراً أكبر من ضوئه (أيْ من جسيمات هذا الضوء) رأيْتَه أكثر وضوحاً؛ والتليسكوب إنَّما هو الأداة التي تَسْتَجْمِع (كما تَسْتَجْمِع قطعة مغناطيس برادة الحديد) من ضوء هذا الجسم أكبر مقدار ممكن، لـ "تَسْكبه" في عينكَ؛ لكنَّ هذه الأداة لن تتمكَّن من أنْ تُريكَ الجسم نفسه إذا لم يكن الضوء الصادِر عنه قد وصلَ إلى عينكَ من قبل؛ فإذا وَصَل، فإنَّ التليسكوب يُريكَ هذا الجسم في هيئة قديمة له، أيْ في الهيئة التي كان عليها عندما انطلق منه هذا الضوء في رحلته الفضائية الطويلة، والتي قد تكون استغرقت مئات الملايين من السنين؛ فأنتَ ترى الجسم، في الهيئة التي كان عليها قبل مئات الملايين من السنين؛ ولن تراه أبداً في الهيئة التي هو عليها "الآن".
وثمَّة أجسام في الكون تراها الآن مع أنَّها ما عادت موجودة، أو ما عادت موجودة في هيئتها التي تراها الآن؛ وثمَّة أجسام موجودة؛ لكنَّكَ لا تراه الآن (بالتليسكوب) لأنَّ الضوء الصادِر عنها لم يَصِل بَعْد إلى عينكَ، أو لن يصل إليها أبداً.
الجسيم الذي بفضله ترى الأجسام يسمَّى "فوتون"؛ وهذا الجسيم ليس له كتلة، تسمَّى "كتلة السكون"؛ فكتلته إنَّما هي " كتلة حركة"، أيْ متأتية من كَوْنِه يتحرَّك، ينتقل في المكان، ينتقل من نقطة إلى نقطة؛. فإذا توقَّف تماماً عن الحركة في المكان تلاشت كتلته الحركية؛ فإذا تلاشت زال هو نفسه من الوجود.
بفضله ترى جسماً ما؛ لكن، كيف لكَ أنْ تراه هو نفسه؟!
والآن، دَعُونا ننظر في العالَم، أو الكون، دون الذرِّي، عِلْماً أنَّنا بعيوننا المُجرَّدة لا نستطع رؤية الجزيء أو الذرَّة.
عندئذٍ، ينبغي لنا الاستعانة بـ "عَيْن اصطناعية" هي الميكروسكوب لرؤية ما يُمْكننا رؤيته من هذا العالَم دون الذرِّي.
والعقبة الكبرى التي ينبغي لنا التغلُّب عليها، قبل، ومن أجل، أنْ نرى جسيم "الإلكترون" مثلاً إنَّما هي "الحجم"، أيْ ضآلة حجم هذا الجسيم؛ والميكروسكوب هو أداة بفضلها نتمكَّن من "تكبير" هذا الحجم الصغير جدَّاً لجسيم "الإلكترون"، فنتمكَّن، من ثمَّ، من رؤيته.
وثمَّة جسيمات أصغر حجماً بكثير من "الإلكترون"؛ ونحن لا نملك من "الأدوات (وربَّما لن نملك أبداً)" ما يفي بالغرض، وهو "تكبير (حجمها)" بما يسمح لنا برؤيتها.
وثمَّة جسيمات تَجْتَمع فيها عقبتين: "ضآلة الحجم" و"سرعة التغيُّر".
إنَّها جسيمات (ضئيلة الحجم) تتغيَّر أحوالها، أو تنشأ وتزول، في زمنٍ متناهٍ في الضآلة (في جزءٍ في منتهى الضآلة من الثانية الواحدة).
ولرؤيتها نحتاج أوَّلاً إلى "أداة" تُكبِّر (لنا) حجمها؛ ثمَّ نحتاج إلى "أداة أخرى" تُكبِّر (لنا) زمن حدوث الحادث فيها، أيْ تجعله يمرُّ في بطءٍ شديد، وبما يسمح لنا برؤية حدوثه.
لو امتلكنا هذه "الأداة"، وتلك، لرأيْنا "مادية" العالَم دون الذرِّي كما نرى "مادية" العالَم فَوْق الذرِّي!
في العالَم دون الذرِّي، لن ترى إلاَّ "جسيمات"، بحجوم مختلفة؛ بعضها يسير بسرعة الضوء (300 ألف كم/ث) لكنَّه لا يستطيع أبداً السير بسرعة تفوقها؛ وبعضها لا يمكنه أبداً السير بسرعة تَعْدِل سرعة الضوء، التي هي السرعة القصوى في الكون، على ما هو مُثْبَت حتى الآن.
وترى فراغاً، أو فضاءً، بين الجسيمات؛ وإنَّني لأقول، أيضاً، بفراغٍ، أو فضاءٍ، في داخل كل جسيم، كالفراغ، أو الفضاء، في داخل كل ذرَّة.
ولو "حَسَّنْتَ" رؤيتكَ أكثر، لرأيْتَ الفراغ، أو الفضاء، بين الجسيمات مُفْعَماً بجسيمات تسير بسرعة الضوء، وكأنَّها أنهارٌ تجري في مجاري الفضاء، تَنْبُع من جسيمٍ، فتَصُبُّ في آخر. وهذا الأنهار من الجسيمات هي التي تسمَّى "الجسيمات حاملة (ناقلة) القوى (أيْ التأثيرات الفيزيائية)".
إنَّكَ ترى، مثلاً، جسيماً ما وقد تغيَّر على نحوٍ ما؛ وهذا التغيير إنَّما هو ثمرة "جسيمات حاملة للقوى" صبَّت فيه، أو ضربته، أو أصابته. إنَّ هذا الجسيم، لن يتغيَّر على هذا النحو، قبل أنْ تصل إليه، وتضربه، وتصيبه، "الجسيمات حاملة القوى (أيْ حاملة هذا التأثير الذي رأيْنا)".
العالَم المادي، أكان دون ذرِّي أم فَوْق ذرِّي، إنَّما هو الوحدة التي لا انفصام فيها أبداً بين "الجسيم" و"الفضاء (أو الفراغ)"؛ بين "بُنْيَتِه الجسيمية" و"بُنْيَتِه الفضائية"؛ جسيماته تتحرَّك في الفضاء، الذي له خاصية جوهرية هي قابليته للتمدُّد والتقلُّص.
إنَّ كوكب الأرض (مثلاً) يتألَّف من جزيئات، تتألَّف من ذرَّات؛ وإنَّ الفراغ (أو الفضاء) هو معظم حجم الذرَّة؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ الفراغ هو، أيضاً، معظم حجم الكوكب الأرضي.
والفراغ (أو الفضاء) هو معظم حجم الكون؛ والفراغ بين كلِّ مجموعتين من المجرَّات هو من الاتّساع بمكان؛ وهو، على اتِّساعه، يزداد اتِّساعاً في استمرار؛ وسرعة اتِّساعه (أو تمدُّده) هي في تزايد مستمر.
وأنتَ، نظرياً، تستطيع أنْ تَجْعَل كتلة الشمس، مثلاً، في حجم يقل عن حجم الذرَّة، جاعلاً كثافتها، من ثمَّ، في منتهى العِظَم والكِبَر؛ لكنَّك لا تستطيع فِعْل ذلك مُحْتَفِظاً، في الوقت نفسه، بنوعية مادتها نفسها.
قُلْنا إنَّ كوكب الأرض (مثلاً) يتألَّف من جزيئات، تتألَّف من ذرَّات؛ وهو إنَّما يشبه بحراً واسعاً، تتخلله جُزُرٌ صغيرة متباعدة، هي كناية عن "نوى الذرَّات"، التي تمثِّل الجزء الأكبر من كتلة الكوكب. وهذا "البحر الواسع" هو كناية عن "فراغٍ (أو فضاء)"، تتحرَّك فيه زوارق صغيرة جدَّاً، هي كناية عن "الإلكترونات".
إنَّ كل نواة ذرَّة مُحاطة بما يشبه "غيمة من الإلكترونات"؛ وهذا إنَّما يعني أنَّ كلَّ غيمتين لا يمكنهما أنْ تتقاربا من غير أنْ يشتد تنافرهما؛ فكلَّما تقاربتا اشتد تنافرهما. وهذا "الانفصال (الإلكتروني الحتمي)" بين كل ذرَّتين، أو بين كل جزيئين، يغدو "اتِّصالاً" بفضل "الجسيمات حاملة القوى".
حتى نواة الذرَّة نفسها هي حالة "انفصال، أو تنافُر، مقهور، ومسيطَرٌ عليه"؛ فالبروتونات تَجْتَمِع على هيئة "نواة ذرَّة" من طريق تقاربها؛ لكنَّها كلَّما ازدادت تقارباً اشتدت تنافراً؛ فإذا بلغَ تقاربها (وتنافرها، من ثمَّ) حده الأقصى نشطت "القوَّة النووية الشديدة"، مُرْغِمةً هذه البروتونات المتنافرة (ومن غير أنْ تلغي تنافرها) على الاندماج، والتكتُّل، والاتِّحاد، في "نواة ذرَّة". وهذه "القوَّة النووية الشديدة"، هي هذا "الفِعْل"، أو "التأثير"، وقد حُمِل على مَتْن نوعٍ من الجسيمات (عديمة الكتلة) تتبادله البروتونات.
"التغيُّر" في جسم أو جسيم ما إنَّما هو، في العُمْق من معناه الفيزيائي، "النتيجة المترتِّبة على إصابته بجسيمات عديمة الكتلة، تَحْمِل تأثيراً ما"؛ وهذه الجسيمات أصابته بعدما سارت في الفراغ، أو الفضاء، بسرعة الضوء، مُنْطَلِقة من "مَصْدَرٍ ما (من جسم أو جسيم ما)".
وحتى لا نَقَع في فخِّ "التفسير الميكانيكي" نقول، ويجب أنْ نقول، أيضاً، إنَّ طبيعة (وماهية، ونوعية، وتكوين) الجسم أو الجسيم المتأثِّر هي التي تُحدِّد كيفية (وطريقة ونتائج) تأثُّر هذا الجسم أو الجسيم بالجسيمات حاملة القوى التي أصابته؛ فإنَّ الجسيم حامِل القوَّة نفسها يؤثِّر تأثيراً مختلفاً بالأجسام أو الجسيمات المختلفة، نوعيةً، وماهيةً، وتكويناً، وقابليةً.
الفراغ، أو الفضاء، هو معظم حجم الكون، ومعظم حجم الذرَّة؛ وليس من سبب فيزيائي يَدْعُونا إلى فَهْم الجسيم، ولو كان مِمَّا يسمَّى "جسيمات أوَّلية"، على أنَّه شيء يخلو تماماً من الفراغ، أو الفضاء؛ فلو استطعتَ أنْ ترى بـ "عين اصطناعية" ما الإلكترون (وهو جسيم أوَّلي له كتلة سكون) من الدَّاخل، فهل تراه خالياً تماماً من الفراغ، أو الفضاء؟
كلاَّ، لن تراه كذلك، على ما أحسب وأتوقَّع؛ فالفراغ إنَّما هو جزء لا يتجزَّأ من التكوين الدَّاخلي لأيِّ جسيم مهما تناهى في الصِّغَر؛ وهو، أيضاً، ما يتوسَّط صلته بغيره.
وفي داخل الإلكترون، لن ترى فراغاً فحسب، وإنَّما عناصر وأنواع أخرى من المادة؛ فإنَّ "الأوَّلي" من الجسيمات يجب أنْ يكون "مُرَكَّباً"، بمعنى ما.
حتى فرضية "الخيوط (الأوتار)"، والتي نتصوَّر فيها "الخيط"، لا "الجسيم الأوَّلي"، على أنَّه أصل المادة بجسيماتها جميعاً، لا تعني، ويجب ألاَّ تعني، أنَّ "الخيط" يَشُذُّ عن ذاك التصوُّر الذي بَسَطْناه في مثال "الإلكترون"، فـ "المادة"، ولو كانت على هيئة "إلكترون" أو "كوارك" أو "نيوترينو" أو "فوتون" أو "خيط"..، لا تأتي، ولا يمكنها أنْ تأتي، إلاَّ من "مادة قَبْلِيَّة"، أيْ وُجِدَت قَبْلها؛ فإذا زالت (وينبغي لها أنْ تزول بالهيئة التي هي عليها) فلن تزول إلاَّ لنشوء مادة أخرى.
المادة (أو الجسيم) التي لها "كتلة"، ينبغي لي أنْ أفهمها على أنَّها كل مادة لا يمكنها أبداً أنْ تسير بسرعة الضوء مهما زِدْنا سرعتها؛ وأحسب أنَّ الفيزياء مَدْعٌوَّة إلى "التفسير" و"التعليل"، أيْ إلى أنْ تُفَسِّر لنا، وتُعلِّل، لماذا تملك بعض أنواع المادة (أو الجسيمات) هذه "الخاصية (الجوهرية)"، أيْ خاصية "الكتلة"، ولماذا تَقِفُ "الكتلة" حاجِزاً، أو مانِعاً، لا يمكن تخطيه بين الجسيم الذي يَحْملها وبين سيره بسرعة الضوء.
أمَّا الجسيم "عديم الكتلة"، أيْ "عديم كتلة السكون"، كالفوتون، والذي يسير، ويستطيع السير، بسرعة الضوء، فينبغي لنا فهمه، وتصوُّره، على أنَّه شيء يشبه "البالون (الصغير)"، امتلأ، قليلاً، أو كثيراً، بما يشبه "الهواء"، الذي هو كناية عمَّا يسمَّى "الطاقة"؛ فإنَّه "الحامِل" و"الناقِل" لـ "الطاقة"، التي يتغيَّر منسوبها، ارتفاعاً وانخفاضاً، في داخل هذا الجسيم (البالون).
ونحن يكفي أنْ نتصوَّر الجسيم "عديم الكتلة" على هذا النحو حتى نَسْتَشْعِر أهمية وضرورة أنْ نَعْرِف، أو أنْ نَعْرِف أكثر وأفضل، ماهية هذا "المحمول"، أو "المنقول"، وأنْ نتوسَّع ونتعمَّق أكثر في إجابة سؤال "ما هي الطاقة؟"، أو "ما هي الطاقة الخالصة؟".
إنَّنا نَعْرِف أنَّ الإلكترون (مثلاً) هو جسيم له "كتلة سكون"؛ فلو توقَّف تماماً عن الحركة (في المكان) يظلُّ على قَيْد الحياة، أيْ يظلُّ موجوداً؛ لأنَّ لديه" كتلة سكون"؛ ونَعْرِف، أيضاً، أنَّ "كتلة السكون" هذه إنَّما هي "طاقة مُجمَّدة"، أو "طاقة رُكِّزت تركيزاً شديداً في حيِّزٍ (أو حجمٍ، أو نقطة) متناهٍ في الصِّغَر".
ولـ "بَعْثَرِة (وتَفْريق، وتشتيت، وتسييل)" هذه الطاقة المركَّزة في الإلكترون على هيئة "كتلة سكون"، نحتاج إلى جَعْل الإلكترون يصطدم اصطداماً قويَّاً بالجسيم المضاد له، والذي لديه هو، أيضاً، " كتلة سكون"؛ وهذا الجسيم المضاد يُدْعى "البوزيترون".
إذا اصطدما، تبادلا الفناء، أيْ تحوَّل كلاهما إلى "طاقة خالصة"، محمولة على مَتْن جسيمين عديمي "كتلة السكون"، هما من نوع "الفوتون"؛ وجسيم "الفوتون"، على ما نَعْلَم، هو ضديد نفسه؛ فـ "الفوتون" هو نفسه "الفوتون المضاد". وإذا اصطدم "فوتونان" اصطداماً قويَّاً، تبادلا الفناء، متحوِّلين إلى جسيمين، لكليهما "كتلة سكون"، أيْ إلى "إلكترون" و"بوزيترون" مثلاً.
و"الضوء"، الذي بفضله نرى الأجسام والأشياء، ونميِّز بعضها من بعض، لوناً وحجماً، وهيئةً، وشكلاً، إنَّما هو سَيْلٌ من تلك "البالونات الصغيرة (أيْ "الفوتونات") المختلفة لجهة منسوب الطاقة فيها".
وحتى لا يَسْتَذْرِعون بهذا القول لإفساد وتشويه "مادية" العالَم، أقول إنَّ كل ما نراه (بعيوننا الطبيعية أو الاصطناعية) من أشياء وأجسام (وجسيمات) لا بدَّ له من أنْ يكون "مادة"؛ لكن هذا لا يعني، ويجب ألاَّ يعني، أنَّ "كل مادة" يجب أنْ نراها؛ فثمَّة أنواع كثيرة من "المادة" لا نراها، ولا يُمكننا رؤيتها، وربَّما لن نتمكَّن أبداً من رؤيتها، وإنْ استطعنا (بوسائل وطرائق وأساليب أخرى) الاستدلال على وجودها (وجوداً موضوعياً).
سيادة نظرية (أو فرضية) تمدُّد الفضاء (بين "مجموعات المجرَّات") وتسارُع هذا التمدُّد الآن، قادت إلى نظرية (أو فرضية) أخرى، مؤدَّاها أنَّ نوعاً من الطاقة، أسْمُوه "الطاقة الداكنة"، هو سبب، وعِلَّة، "تمدُّد (وتسارُع تمدُّد) الفضاء"؛ فإذا كانت "الجاذبية" سبب، وعِلَّة، استجماع، وتركيز، وتكثيف، "المادة"، في الكون، على هيئة كواكب ونجوم ومجرَّات..، فإنَّ "الطاقة الداكنة" هي "ضديدها"؛ هي التي تتسبَّب في تمدُّد (وتسارُع تمدُّد) واتِّساع الفضاء بين "جُزُر الكون"، أيْ بين "مجموعات المجرَّات"؛ هي ما يشبه "الثابت الكوزمولوجي" الذي افترضه آينشتاين في سعيه (النَّظري) إلى إثبات وتأكيد قوله بـ "الكون المتوازِن"، الذي لا ينهار على نفسه بسبب "الجاذبية".