الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون الرواية الجديدة لحي بن يقظان القسم الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4755 - 2015 / 3 / 21 - 12:35
المحور: الادب والفن     

في رواية أبو بكر الآشي لأفنان القاسم، يعد البطل تحت عيني القارئ صيغة جديدة لرواية ابن طفيل حي بن يقظان ضابطًا حبكة هذه "الرواية في الرواية" تبعًا للأحداث التي يعبرها. سيقوده بحثه عن الحقيقة من إسبانيا إلى الأردن ثم إلى المغرب ليعود في الأخير إلى الأردن، وستفقده تجربته في الحب المستحيل عقله، فتعطي للحكاية التي سيخرج بها منه بعدًا أقرب إلى الهلوسة والهذيان. تشكل هذه الحكاية الحياة والمغامرات الغريبة لجون روبنسون، الضابط الأمريكي الذاهب من حرب إلى حرب وفي ظنه إنقاذ العالم وإقامة السلام والعدل، والذي لا يقلع عن ظمأه في الفتح والغزو إلا على أبواب بغداد، بعد أن اكتشف الحب على خلفية حربه في جزيرة العرب. عندئذ تصبح المرأة العنصر المركزي للوجود وكينونة ما فوق الوجود أيًا كان الشكل الذي تظهر تحته: حقيقيًا أم وهميًا. أفنان القاسم يشبك القرط السردي هنا، فها هو جوابه على السؤال القديم جدًا الذي طرحه أبو بكر بن طفيل.


في روبنسون كروزو، يتناول دانيال دوفو موضوعة استوحاها من حي بن يقظان، غير أنه يبقى متأثرًا بطهرية عصره، ونبقى سجناء المغزى الفلسفي للحكاية الهندية، الأساس الأول للرواية، فما تبدل إلا الديكور.


1

اسمي جون روبنسون. لا أعرف من أين جاء هذا الاسم، ولا من أين جئت. قيل لي إن أمي ماتت يوم مولدي، وإن أبي كان مطاردًا من طرف الشرطة قبل أن يُقتل في ظروف غامضة.
في حربي الأخيرة، أبليت بلاء حسنًا. قتلت من البشر كثيرًا، أكثر مما يلزم، كيلا أتسربل بعار الهزيمة. كان الخوف من الإخفاق هو الذي يدفعني إلى القتل. سفحت الدم، وجعلت من دم الأعداء نهرًا عمت فيه. لم يكن الانتصار غايتي، كنت بكل بساطة لا أريد الموت.
وأنا أذهب من انتصار إلى انتصار، تركني الشعور بالخوف من التسربل بالعار ومن الموت، وأخذني الشعور بالمتعة عند الخطر. الرجل الكبير والقوي اللا يمكن التغلب عليه اللا يمكن ترويضه اللا يمكن قهره كان بالطبع أنا. كان العالم ساحة وغاي. تحت إمرة قوتي وبأسي، كان الناس غنيمتي وسَلَبي. بدأتُ ابنًا للحرب، وانتهيتُ إلهًا للمحاربين.
رُقيت إلى رتبة كولونيل، لكني استقلت، وتركت الجيش. ليس هذا لأنني غدوت أكره السلطة والنفوذ، وإنما بسبب نظرة أحد الذين قتلتهم. كانت عيناه تصرخان بهول الحرب. كانتا تصرخان بكوني المسئول، الممقوت، المرعب. أشعرتني عيناه بذنب لن أقوم منه. حولتني عيناه من مدافع عن الحق إلى مغتصب له. وضعتني عيناه في موقع المسبب للآلام بينما حربي كانت لأجل الحد منها: "أنت المدافع عن الحق، صرختْ بي عيناه اللتان تتعذبان أقسى عذاب، لا تفعل شيئًا آخر غير التمادي في اغتصابه".
كرهت نفسي، وكرهت العالم. بسببي كان العالم يرزح تحت ثقل الخطيئة. قلبت معايير البشر دون أن أرغب. حطمت موازين القوى دون أن أشاء. سحقت نسق القيم دون أن أتمنى. أعمى البصيرة الذي كنت، أججت البصائر، قوضت الآمال، ودفعت الناس إلى الاقتتال، في الوقت الذي أوهمتهم فيه بنبل القضية. حرب عادلة، كنت أقول.
أعطيت نفسي للنبيذ وللهوى. كان سحر النبيذ عليّ عابرًا، وسحر المرأة خالدًا. كان جسدها عبادتي، عناقها صلاتي. كان الثغر والسرة سببي وجودي، الساق والثدي ترسي في وجه الحقد والبغض، الاشمئزاز والاحتقار. لم تكن المرأة المتحضرة قادرة على التخفيف عني شيئًا من عبء ذنوبي. كان شرطي اللازم للخروج مما أنا فيه امرأة متوحشة، شرسة، بربرية، تُرضي شهواتي، تُبقي لَذاتي، تُنهي حسراتي. ولكن أين أجدها؟
كان عليّ أن أهجر العالم. كان عليّ أن أهجر العالم الذي كنت أعيش فيه. لم أكن أستطيع التخلص من ضِغني لنفسي قبل التخلص من حقيقتي، ولم أكن أستطيع التخلص من حقيقتي السوداء إلا بالتخلص من عالمي. هجرت العالم إلى إحدى جزر هاواي، هناك حيث يقال إن الأشجار تلد النساء، وليس للنساء من أخوات غير المهوات. مع ذلك، كانت جزيرتي خالية من السكان، ولم تكن للأشجار بطون. لم ألتق فيها سوى بحيوانات أليفة، من بينها الشُّقر مما ندعو، الفهود والأسود واللبؤات، فعجبت لألفة من ورائها الإنسان، ولم يكن في الجزيرة إنسان. لم تتركني الوساوس من الخطأ ولا الجزع من الشُّقر. وحدي في الجزيرة، أحسست بنفسي صغيرًا وضعيفًا. الصخرة التي كنت أستطيع سحقها بإصبع ديناميت بدت لي ضخمة، هائلة الضخامة، حتى أن كومة حصى على الشاطئ كانت أقوى مني. كانت قوة العالم تتجسد في الحجر، وكان الحجر هو العالم، كان وسيكون. كان يهيمن على كل شيء في الجزيرة. كان يهيمن عليّ. أحسست بنوع من الإجلال تجاهه، إجلال ممتزج بالخوف. كان الإنسان والحيوان والحجر خصومي المحتملة، فبنيت بصعوبة تفوق كل صعوبة ملجأ في أعالي "سِكوا"، إحدى الأشجار الحُرْجية. كان الجذع المزدوج لهذه الشجرة عظيمًا، على صورة إله، وكان في غاية القدم، مما أعطاني انطباعًا بوجوده قبل الحجر، غير أنه كان ينحدر بجذره بعيدًا في قلب الحجر نفسه. في الليل، كانت الأمواج توصل إليّ صراخ البشر على الأرض، وكانت الحيوانات تفزع من الصراخ، فتأتي باحثة عن الاطمئنان والأمان تحت جناحي. وبعد ذلك، كانت تعود إلى جحورها ومآويها آمنة مطمئنة. أما الطيور، فقد بنت أعشاشها تحت قدميّ. لم أكن أفسر رغبة الحيوانات في حماية سيد لها إلا بالفزع الذي يعتريها، وكنت هذا السيد على الرغم مني. كنت أعالج الحيوانات التي تسقط مريضة، وكنت أغيث منها ما يحتاج إلى عون، وكنت الحَكَمَ في كل نزاع.
شيئًا فشيئًا، نسيت العالم القابع هناك، وجعلت من أقرب الآفاق حدود عالمي. نسيت حربي الأخيرة، ولكني لم أنس الجسد المغري للمرأة. كيف لي أن أنساه؟ رحت أرصد أجساد السماء. لم أعد أنام في الليل، وأنا أراقب النجوم. لم أكن أغمض عينيّ، وأنا أتسلق السلالم المؤدية إليها. لم أكن أخفض عينيّ، وأنا أعوم في بحيراتها. لكني لم أستطع نسيان جسد المرأة. كانت النجوم تذكرني بسرتها، وكانت سرتها تذكرني بثغرها، وكان ثغرها يذكرني بثدييها، وكان ثدياها يذكرانني بساقيها، وكانت ساقاها تذكرانني بسرتها، وكانت سرتها تذكرني بالنجوم. كففت عن النظر إلى النجوم، وأخذت أنظر إلى الأمواج. تابعتها بنظرتي، وهي ترتمي في أحضان الرمل، فثارت فيّ تلك الشهوة المجنونة إلى امرأة. أنا الرمل، وهي البحر.
في أحد المساءات، سمعت صوت امرأة تناديني. كان يأتي من البحر، فعدوت باتجاهه، لكنه أتاني من الرمل. التفت إليها، والماء يصل إلى خاصرتيّ، فرأيتها عند ذلك، وهي تقف صامتة. انسكب عليها لجين نجمة تائهة، وأنا لم أعد أنا. كان سواد شعرها يضطرم على كتفيها، فتمنيت لو أَنمحقُ في نار الليل. وكانت لها عين زرقاء وأخرى خضراء، ومن اشتعال الأزرق والأخضر كان لون الجمر. هب الهواء فجأة، فانطفأت، وتحولت إلى تمثال من الحزن. اقتربتُ منها بذراعيّ، فارتعشت خائفةً من ذراعيّ. أخذتها بين ذراعيّ، وأنا أحملها، فرأيتني أحمل موتي الذي تركني خلال الحرب. أردت الولادة بين ذراعيها، لكنها كانت بين ذراعيّ جسدًا جامدًا. فتنني جمال الوهم جمالها، فوقعت في غرامها. أردت أن أسأل النار تحت الرماد ما مصير الغرام الذي تحضنُ، لكني خشيت أن أفقدها إلى الأبد. اقتربت بشفتيّ من شفتيها، فذبلت شفتاها، وذابت قبلتي في الهواء.
حيرتني هذه المرأة التي وجدت، امرأتي. كانت حيرتي تأتي من لون وجنتيها الأبيض. أقلقتني هذه المليكة التي استعدت، مليكتي. كان القلق يأتي من لون ثوبها الأسود. سألتها عن اسمها، فقالت "عيون المها الوحشية"، ولم يكن هناك ما هو وحشيّ غير نظرتي إليها. تركتها إلى وحشتي، وقلت هذه المرأة ليست لي، بعد أن غدت كما يشاء لها الغير. جلست وحدي، وبكيت لست أدري من أجلها أم من أجلي. كانت عيون المها الوحشية، ولم تكنها. أما عني، فلم أتوقف عن الحلم بثديي المرأة وشفتيها برقًا ينقض عليّ. كان حلمي الذي من المستحيل تحقيقه في جزيرتي النائية، ومع امرأة جرى ترويضها ترويض اللبؤة السادرة.
للمرة الأولى منذ وصولي، أحسست بحاجتي إلى العودة إلى العالم الذي هجرت. كان وضعي دون القدرة على إشباع رغبتي فيها قد ضاعف عندي من القوة ما يدفعني إلى البحث عن متعتي في الآلام. أردت الهرب من حزن لوني عينيها الأزرق الأخضر إلى عاصفة من كحل كل النساء. عزمت على الإبحار إلى عالم متعة الجسد قبل الهلاك قربها قنديلاً أنفخ عليه بشفتيّ. كانت عيون المها الوحشية أليفة مثل قطة ولها في الوقت ذاته قلق كل الأيامى. كانت خائفة مني. كانت خائفة منها. كانوا قد حذروها من الإنسان الذي في ثوبي، صاحب الجنس القوي. كانوا قد قالوا لها إن حالي من حال الطبيعة، وأنا أدعي أني ملك الطبيعة المدركة بالحواس. كانوا قد قالوا لها إني الذكر الآدميّ الرهيب لمّا تخضعه وحشية الرغبات. كانوا قد قالوا لها إني الغريب القادم من غير هذا المكان ومن غير هذا الوسط ومن غير هذا القوم، وإنها صلاة الصباح والمساء.
لم أنم في تلك الليلة. نظرت إلى النجوم طويلاً، أنا المحروم جنسيًا في ويل الحرمان. كنت دومًا ما أقارن أجساد السماء بأجساد النساء. استنبطت أن من المستحيل إشباع كل غرائزي. عزمت على أن أقيم علاقات ود حميمة أكثر مع امرأة الجزيرة الوحيدة. أوسعت معرفتي باقترابي أكثر من أسرار الحجر وبتقويتي لما يعرف بالفطرة. هذه الحال الطبيعية لمعرفة الكون، لتفسير أصله، ولفهمه. في الصباح، تأكد لي أني نسيت التفكير في ثغر المرأة وثدييها. لم أكن سعيدًا. كنت أريد ألا تكون المرأة عنصر معرفة العالم فقط ولكن أيضًا وسيلة الوصول إلى ذلك. ذهبت إذن إلى عيون المها الوحشية، وكلي عزم وتصميم على تحريرها من الألفة. كانت تصلي لإله قوي جعلني أفكر في إله الحرب. قالت لي إنه قوي بفضل عدالته وإرادة الحب التي له والسلام بين البشر. لم أصدقها. بالنسبة لي، كانت الطبيعة إلهة العدالة والسلام الوحيدة، حتى في اللحظات القاسية التي كابدتها مذ وضعت القدم في هذه الجزيرة. دخلت في ظلها، وأردت أن أنتزعها من عاصفة التقوى، فهبت بالجزيرة عاصفة جبارة رفعتنا عن الأرض، ودفعت الواحد منا بين ذراعي الآخر حتى غدونا جسدًا واحدًا. ودون أن نشاء، اتفقت طبيعتي وإلهها على أن نتحد لَمّا فجأة أَخَذْنا نسمع مزامير الهُبْلِ تعلو مع الموج. كانت الأناشيد تعظّم إله الموت والحرب، وكادت نفسانا تضيعان في صداها، كادت تغدوان صدى من الأصداء. لم يكن أمامي غير الهرب إلى عالمٍ حُلْمِيّ تحلق النفس فيه، من حلم إلى حلم، بكل حرية. كانت الوسيلة الوحيدة التي تحول دون تحوّل النفس إلى ارتداد صوت. وبين الصاحي والغافي، حلمت بها، وهي تسوق سيارة فولسكفاجن مكشوفة. إلى جانبها، بدلاً من المقعد، كان هناك دست ماء كنت أجلس فيه، وكانت تنزهني على الشاطئ دائرةً بي حول الجزيرة.
بعد ذلك بقليل، حلمت حلمًا آخر. كانت تقود سيارة أولدزموبيل هرمة، وهي في ثياب العرس، وأنا قتيل إلى جانبها. كنت بأناقة لا تصدق: اخترقت جبيني رصاصة جعلتني أبتسم. خلفها، كانت بناتنا الثلاث مثلي في آخر أناقة. كن كتماثيل الشمع، وكن يبتسمن. قادتنا حتى ساحة كبيرة، وهناك طرقت باب أحد البيوت. فتحت لنا أمها، وعاتبتها لأنها انتظرتنا إلى تلك الساعة البعيدة من الليل. حملتنا كالدمى، وصعدت درجًا خفيف الضوء.
في المرة الثالثة التي حلمت بها، كانت تناديني من الساحة الكبيرة، وهي خائفة مضطربة. ركضت لأرى ما بها. قالت لي إني تحولت إلى عُقاب أسود، وإني أفلتُّ من يديها طائرًا فوق العالم موغلاً في أعماق السماء. رفعتُ رأسي، فرأيت ملايين النجوم التي كانت تراني، وبحثتُ عني. كنت أحس باختناق هائل أثناء نومي. كنت ألهث كالملتاث ظانًا أن قلبي على وشك الوثوب خارج صدري. حاولت أن أنقُبَ حجب الليل ما وراء النجوم لَمّا فجأة ميزتُ نقطة ضوء أسود: كان العُقاب الذي أصبحت. بفضل حدة التركيز التي لي، نجحت في جذبه إليّ. سقط عليّ بقدرة من يفلق الجبل نصفين، قاذفًا إياي عدة أمتار إلى الوراء، وأنا أصرخ في نومي مرتين: "روبنسون! روبنسون!" كان العُقاب، بين ذراعيّ، ميتًا.
صحوت، وأنا لم أزل أصرخ، من شدة الرعب، فأخذتني عيون المها الوحشية بين ذراعيها بكل حنان الأم التي أبدًا لم أعرفها، وتركتني أضع خدي على ثديها الأيسر، كرسي النفس، وغفوت.








2

مضت الأيام، على غير ما كانت عليه، بعد أن وجدت في عيون المها الوحشية أمي. أصبح لوجودي، في تلك الجزيرة، ذلك الأمان النفسي الذي بحثت عنه طوال حياتي. كانت امرأتي تقضي معظم أوقاتها في تعظيم الله، وتحثني على الذهاب إلى حقيقة أخرى غير حقيقة الأجرام السماوية التي كانت تهزني وتقلقني، الحقيقة المجردة للنجوم وللعالم. كنت أحسدها على محيطات الاطمئنان التي تموج فيها، وعلى الرغم من كونها هزيلة، فهمتُ من أين تأتي قوة الهدوء التي تسكنها، لكني لم أكن أقدر على الاستسلام لقوة النفس تلك. كنت أخشى إله الحرب دائمًا، ولم يكن لي من حليف وحيد سوى الطبيعة. كانت هي التي أمدتني بما كنت أحتاج إليه من قوة فيزيقية بعد أن خانني عُقابي، وبفضل هذه القوة بنيت لها كوخًا من خشب الصنوبر، وزرعت القمح والبقول. عملت كل ما يمكن أن يكون جيدًا لها.
كانت الجزيرة، كل الجزيرة، مغطاة بالحدائق الغناء، نجد فيها كل شيء، العنب والتين، التفاح والأجّاص. وكان النهر الذي يعبر وركيها ينبع من خاصرتيها ويلقي بنفسه من وراء سياج. صنعتُ لي ثيابًا من أجنحة الطير، ولها من جلود الوعول. أخذت أصغي إلى صلواتها، وأتأمل في دعواتها. ومع ذلك، لم أجعل من إخلاصها إخلاصي، كان إخلاصي للعقل، وإخلاصها للعاطفة.
في أحد الأيام، وجدت آثار أقدام على الطريق المؤدية إلى الجبل، الطريق التي لم أسلكها منذ الشتاء الماضي. سألت عيون المها الوحشية إذا ما كانت آثار الأقدام آثارها، لكنها كانت كبيرة أمام قدمها الصغيرة. أخافتنا تلك الآثار كثيرًا. كان رسول إله الحرب ما بيننا، وبسرعة عدنا إلى الكوخ، وأوصدناه علينا. عبأت بندقيتي، وجلست كالعُقاب أعسُّ. أخذت امرأتي تدعو وتبتهل، وهي ترفع يديها إلى السماء، والسماء عالم يضغط على صدرنا بثقله. انتظرنا يومين كاملين دون أن يأتي أحد لمفاجأتنا، فخرجنا نقطف فاكهةً، ونذبح أرنبًا. وبينا كنا على حالنا، إذا بسرب من النوارس الفزعة يقطع سماء الجزيرة. ربما كانت سفينة ضائعة. فحصت البحر من فوق تل، ولم أعثر على صارية. جاء رهط من الأسود يجري على الرمل، وقد استبد به الخوف. تبعه قطيع من الوعول، فأحمرة الوحش، فالفهود. أخذتُ امرأتي من يدها، وعدت راكضًا إلى البيت. عند وصولنا، كانت المفاجأة عندما وجدنا أثار أقدام في كل مكان، فأرتجت الباب، وقعدت أنتظر قدوم الزائر الغريب، والبندقية بيدي. إلى جانبي، كانت عيون المها الوحشية تدعو، وتبتهل. انتظرنا ثلاثة أيام، ولا من زائر غير مرغوب فيه، فخرجنا إلى النهر لنستحم، ولأول مرة منذ حياتنا معًا، سمعت امرأتي تضحك ضحكًا رقراقًا أرق وأشجى من كل الأصوات التي سمعتها في الجزيرة. نادتني، وهي تمد ذراعيها إليّ، فذهبت إليها كجواد الماء العاشق لسمكة بيضاء، وأنا أرفع الموج حتى أديم السماء. عانقتها بحرارة كل المدن التي هجرت، وجعلتني أذوق عسل لسانها، فعضضت لسانها، وبدورها عضت لساني، عضة الموت والحياة. دفعتني في الماء، وهربتْ، وهي تضحك، تاركة إياي أحيل بالماء جمر الرغبة إلى رماد. عندما خرجت من النهر في طلبها لم أجدها، ولم أجد أي أثر لها.
جن جنوني! أخذت أبحث عنها. بحثت عنها حيث كان، حتى في أماكن في الجزيرة لم تطأها أبدًا قدماي. أين كان من الممكن أن تكون؟ سألت السهل والجبل، الطير والحيوان. بحثت عنها في أعماق النهر، وفي أعماق البحر، ولم أكف عن النداء لا في الليل ولا في النهار. وعندما يئست من الوقوع عليها، أخذت بالبكاء. بكيت كثيرًا. ذرفت عيناي دموع كل عيون العالم. بكت كل كائنات الجزيرة معي حتى الشجر. نُحنا طوال الليل، وكانت أصوات العالم تصلنا، وتسألنا: لماذا تنوحون؟ هذا العالم الذي كنت أظنه قاسي القلب أبدى من الشفقة علينا ما لم أعهده فيه، مما جعل روحي تغير من أرواح ناسه. أردت العودة من حيث أتيت لشن حرب جديدة. أردت الذهاب إلى القتال لتكون هزيمتهم الجديدة مسعاي. أردت أن أقتل بشرًا بريئًا، أن أعبث عبث إله الحرب الدمويّ عند الوثنيين، أن أنشر من حولي الدياجير، فأضيع إلى الأبد. لن تشير لي امرأتي إلى الطريق عندما أغدو أعمى، ولن تسقيني الماء عندما أموت ظمأً، ولن تتركني أحيا عندما يجرحني سلاح. غير أني لم أنجح في الوقوع على طريقة تسمح لي بمغادرة الجزيرة، لم أجد سوى ظلي، ظل بلا روح ولا جسد، لا يدرَكُ باللمس، لا يقدِرُ على فعل شيء، لكنه مخلص للموت، وأنا من يمقت الإخلاص. لم أجد سوى أحمرتي الوحشية وأسودي وفهودي. كانت كلها أليفة طيبة كالأطفال، وأنا من يكره الطيبة. وأنا أهرب من كل هذه الأحاسيس اللامجدية بعيدًا عن امرأتي، عدت إلى البحث عنها لأنقذ روحي، لأنقذ حياتي. كانت عيون المها الوحشية حياتي، حياة المنفيّ، كل حياتي. كانت جزيرتي. فأينها؟ وأين جزيرتي؟
تذكرت ما كانت تقول في دعواتها، إن هذه الجزيرة إصبع رِجل الله، إنه في كل مكان، إنه يسهر على كل شيء، إن اسمه يقظان، إنه يستجيب لكل دعاء، لكل ابتهال. ذهبت إلى حيث كانت تصلي لأتحقق من وجوده، لأكلمه، وأبتهل إليه أن يردها إليّ. لم يكن هناك. لم أكن أعلم أن الله والطبيعة شيء واحد، وأن الكلام مع حجر كما لو كان مع العناية الإلهية. كانت لي ولعيون المها الوحشية طريقتان مختلفتان نرى فيهما الأشياء. لم يكن يمكنني الوصول إلى فهم حقيقتها، فأضعتها، ومع غيابها غابت حقيقتي معها. لم يعد حقي يعطيني حقًا. كانت السماء والأرض موجودتين، النجوم والحجارة، الدموع واللآلئ، ولكن في حال من التخلي. كانت طبيعتي وإله عيون المها الوحشية دون إله. التنافر حل محل انسجام الكون. كانت الحياة ذات الحياة مهددة. انفجرتُ باكيًا، بما أن للعيش كان الهدم واجبًا. كان عليّ أن أجد الطاغية الذي كنت. لن يكون إلا بإعادة بناء العالم تفسير وجوده، استدراك الوقت الضائع، الالتحاق بأقدارنا. كانت عيون المها الوحشية قدري. مسحت دمعي، وجلست على صخرة، وأنا أنظر إلى البحر، من المشرق إلى المغرب، بانتظار أن أهدم كل شيء. التحقت الوعول بي، وراحت تنظر إلى البحر مثلي. هذا السلوك المتطور لكائنات من المفترض أن تكون وحشية حيرني منذ اليوم الأول لوصولي إلى هذه الجزيرة. كانت اللحظة المناسبة لمعرفة سرها، فذبحت عددًا منها، ثم دفعت يدي في صدورها، واقتلعت قلوبها. دفعت يدي في محاجرها، واقتلعت عيونها. دفعت يدي في مهابلها، واقتلعت أجنتها. لم تكن صدورها تخفي الغموض ولا العيون ولا المهابل، ولم يكن كل ذلك سوى لامنطق وميتافيزيقيا. إن لم يكن الإنسان هو المسئول عن ألفة الحيوان، فمن ذا الذي من غير قوة إلهية يمكنه ذلك؟ أخذت بالارتعاش، وهربت من المجزرة التي ارتكبتُها في الحيوان إلى مجزرة أرتكبُها في الأشياء. كانت الطريقة الوحيدة لأمتلك الحقيقة.
ذهبت إلى حدائقي الغناء، وهدمتها. انهارت الطبيعة، ولكنها ظلت ها هنا دميمة ممسوخة مشوهة، تنظر إليّ، تلاحقني، تخيفني.
حولت مجرى النهر، فمنحته قوة غريبة، وكأنه كان منذ آلاف السنين بانتظار الحرية. تفجر من حولي، ولولا الجبل الذي أنقذني لجرفني التيار. سقطت على قدم الجبل، وشكرته، وصليت لقوته ورحمته. ودفعني صوت إلى إكمال الفعل التالي:
هدمت كل ما بنيت، والطيور بدهشةٍ تنظر إليّ. أمسكت بعضها، واقتلعت أجنحتها. نظرتْ تلك الكائنات الناحلة إليّ بِحِلمٍ، على الرغم من شراستي، فرأيت في عينيها نظرة امرأتي التي كانت تنعكس فيها سماء الجزيرة. كانت كل سماء العالم فيها ضوءًا. تعجبت من عيونٍ للعصافيرِ صغيرة وقادرة على احتواء العالم. كان عليّ أن أكمل فعلي الأخير.
هدمت الملجأ، الكوخ على الخصوص، لأطرد ظل عيون المها الوحشية، وأخنق ضحكها. كان ذلك من أجل أن تعود، إلا أن ظلها لم يشأ الذهاب، وضحكها لم يشأ الإيقاف. احتل ظلها وضحكها دماغي.
صنعت نبيذًا، وأخذت أشرب، ليل نهار، حتى غدوت مريضًا، كي أستطيع أن أبرأ منهما.
تمكنت من الخلاص من ظلها، وبقي ضحكها الأرقّ من ضحك طفل يطاردني، فقتلت ضحكها، وجعلت منه ضحك طفل معذب.
حقدت عليها، لأن ظلها قد ذهب، ولكنها هي، كانت تأتي حالما أخلع ثوب الثمل، كانت تأتي كقبس من نار دون أن أستطيع الإمساك بها. حقدت عليها أكثر، وحاولت الإمساك بها من جديد دون أن أفلح حتى في لمسها.
كرهتها لأني لم أعد أعرف كيف أحبها. نسيت الحب، ولم أعد أذكر غير الحقد.
حقدت عليها، والآخر الذي فيّ لم يزل باقيًا على حبها.
حقدت على الآخر الذي فيّ.
ظلمت عيون المها الوحشية. فكرت فيها كثيرًا، في خاطفيها، في شعرها الأسود بين قبضاتهم، في ليلها الأسود من كل شهواتهم. فكرت في دمعها، في ضحكها الأبيض من كل الموت. فكرت في كل هذا، وانكسرتُ لما فجأة فهمتُ أن من الحقد الكبير يولد الحب الكبير.
عند ذلك، وبكل هوى العالم، أخذت أعيد بناء كل ما هدمت، زراعة كل ما اقتلعت، مداواة كل الكائنات التي جرحت.
عدت أراقب النجوم، وأرى في النجوم امرأتي. كانت هناك النجوم وامرأتي وآخر لم أستطع تمييزه، اليقظان. كان شكله شكلي.
عدت أراقب الجذور كيف تشق لها دربًا في الصخور، وذلك مذ كانت هناك صخور، دربًا قصيرًا كان له عمر الإلوهية. كان عمره عمري.
عدت أعاون أُمّات الطيور في إطعام أفراخها التي تريد أن تكبر والتي لا تريد أن تكبر، فأجنحتها المنشورة في السماء كانت حريته. كانت حريته حريتي.
عدت أتأمل ألوان الكواكب من سقف ملجأ جديد بنيته على ظهر شجرة كستناء، كواكب حرة لا مثيل لحريتها، بعد أن اكتشفت أن اللون الفضيّ كان أحدها، وألوانها الأخرى ألوانه. كانت ألوانه ألواني.
عدت أتأمل شفاه الثمر بعد أن اكتشفت أن لها ثغورًا، وهو شفتها العليا. كانت شفته شفتي.
عدت أداعب أجنحة الطير بعد أن اكتشفت أن لبعضها أربعة، وهو جناحاها الآخران. كان جناحاه جناحيّ.
الماء؟ النار؟ أيهما أختار؟ كنت مترددًا بين عشقي للماء وعشقي للنار ثم تعلقت بالنار وبالماء.
كنت مترددًا بين جمال العقل وجمال النفس ثم تعلقت بالجمالين.
كنت مترددًا بين الخشية من الشتاء الفاتك للنبات والرغبة في الربيع المحافظ على النبات ثم لجأت إلى أسرار الصيف.
ذات يوم، وأنا أتمشى، وأتأمل الكون، جاءني صوت عيون المها الوحشية، وكأنه نغم ناي سحري، فقفز قلبي، وقفزت أجري صوب الصوت، فإذا بي أمام العُقاب الذي ارتدى وجهي.







3

لاحظت أن لعيني العُقاب لوني عيني عيون المها الوحشية، وعلى الرغم من أنهما أزرق وأخضر، كانا يتقدان كالنار، وكان الطائر ينظر بانتباه عظيم إلى كل شيء، وينظر إلى الشمس ما شاء.
وقفت أمامه، وأنا أتابع نظرته. في البداية، كان يضاعف عندي الشوق إلى امرأتي، فيمور في قلبي هواها. ثم أخذت أرى من عينيه ما لا أراه بعينيّ. رأيتني أولاً كما أراني في مرآة، وبعد ذلك، رأيتني أرى ما يراه.
إذا ما طار إلى سمت شجرة تحاذي النهر، وسبر أغوار الماء، رأيت السمك الذي يراه. وإذا ما ترصد قوافل الدلافين في البحر، رأيتها، وهي تعبر. وإذا ما تابع أسراب الطيور في السماء، رأيتها، وهي تبتعد.
إذا ما أصغى إلى أصوات كائنات الجزيرة، سمعتها واحدًا واحدًا. وإذا ما التقط الكلمات التي تهمس بها شفة الظبي للعشب قبل قضمه، ميزتها معه.
إذا ما طار عاليًا في السماء، ونظر إلى الأرض، رأيت، بعينيه، الصراع الذي يدور بين ثور وليث أو بين ثعلب وذئب أو بين عقرب وأفعى، فأذهب إليها، وأضع العدل في نصابه.
أخذت أرسله منذرًا الحيوانات الوحشية ألا تختصم، وإذا ما لم تستجب، تركته ينقض عليها ليفرض قوانيني.
أخذت أصلح بمخالبه المرتفعات، أنقل بمنقاره الأعشاش.
بفضل يقظته وشرفه، حافظت على شرف الحيوانات.
أرسلته إلى السماء، إلى أعلى نقطة في السماء، ودعوته إلى النظر من حوله، ففهمتُ ما هي السماء، وجددت في السعي لمشاهدة وجه اليقظان لبلوغ غاية الغايات.
كانت مشاهدة اليقظان تحاصرني، رغم بلوغ عُقابي أعماق السماء.
في أحد الأيام، اختفى العُقاب، ولطمني نور اليقظان. كاد يغشى عليّ، واليقظان برق النيازك والأفلاك. وقع الحدث الذي كنت بانتظاره منذ تركتني عيون المها الوحشية. تحولتُ إلى قطعة من لهب أبيض، وأخذتُ أتوهج، ومحبوبتي معي تتوهج، كالجذع المحترق. استعليتُ العالم، وصفوتُ أعلى صفاء. تفجرتُ من نبع النقاء، وتجسدتُ بصورة العُقاب المحلق فوق الناس والأشياء، أقرب ما يكون من اليقظان، فعزم لي على ما عزمت من الوفاء. غدا الوفاء غاية من أجل الغاية بعد أن كان الوسيلة من أجل الوصول إليه.
بعد ذلك، لم أعد وحدي في الجزيرة. كنت أحس بوجود اليقظان أينما ذهبت. كنت أسمع نَفَسَه في الحجر. كنت أرى ذراعه في البحر. كان يضحك معي عندما أكون محبورًا، ويبكي معي على ظبية ماتت، ويكون مغمومًا. نسيت جسد المرأة، ولم أنس أبدًا امرأتي، عيون المها الوحشية. ولأحتمل غيابها، كنت أمضي وقتي في العمل وفي الصلاة. كان العمل في جزيرتي صلاة. كان عالم جزيرتي عالمه أولاً ثم عالمي بعد أن غدوت ظلاً في ضوئه. لم أعد أشعر بتغيير النهار إلى ليل والليل إلى نهار. كنت أنام في أي وقت وأعمل وقتما أشاء. كنت أعرف أن النهار نهار عندما أرى فراشات النهار وأن الليل ليل عندما ينام النحل أو عندما يطلب القمر إليّ النوم بين ذراعيه. حتى الفصول كانت تذهب وتؤوب، ولا أفرق بين الربيع والخريف، الصيف والشتاء. هكذا اتخذت معرفتي للأشياء وجهًا جديدًا، وفهمتها بطريقة جديدة.
في أحد الصباحات، نهضت، والرعب يدقني، على سماع جرافات تقتلع الأشجار، وتتقدم باتجاه مأواي. كانت إحدى السفن ترسو على الشاطئ، ورجال معتمرون بخوذات هنا وهناك، بأيديهم خرائط. كانوا يدخنون، ويصرخون عندما يتكلمون، ورأيتهم يحطمون الصخور. عدت إلى حيث أقيم، ولا يوصف كان غضبي منهم. كانوا يرمون إلى هدم عالمي، وجودي، اعتقادي. معاناتي كانت أقسى معاناة. هل يريد اليقظان امتحاني؟ ولماذا الآن بعد كل تلك الأيام التي قضيتها قربه بكامل إخلاصي؟ ألم أعامله كما يستحق المعاملة؟ هل حلمت بحبيبتي دون إذنه؟ هل أردت أن تكون جسدًا وسيطًا بيني وبينه دون رضاه؟ هو الذي كان غايتي، غاية الغايات.
تذكرت آثار الأقدام التي سبقت اختفاء عيون المها الوحشية. لم يكن الله يريد امتحاني، على العكس، كان يريد بيديّ معاقبة الذين اختطفوها. لهذا السبب أرسلهم، بعد أن منحني ثقته، بعد أن راز تفانيّ من أجله.
قررت أن أواجه أولئك الدخلاء لأستعيد امرأتي ولأمنعهم من اغتيال الجزيرة، هذا المكان النقيّ. كانوا يريدون تدميرها ببناء فنادق سياحية. في الليل، جعلت من الظلام رداء ومن الإرادة، وتسللت إلى الورشة: جدران مفبركة وصناديق ديناميت كانت الورشة. فجأة، دوت طلقات تبعتها صرخات وحوش. كان باستطاعتي تفجير كل ما بنوه، فلن يلبثوا أن يكتشفوا وجودي، ويجهزوا عليّ. زيادة على ذلك، لن يمنعهم هدم الجدران من بناء غيرها. قررت أن أفجر السفينة التي يقضون الليل فيها. خبأت صندوقًا من الديناميت في غار ثم ذهبت لأراقب السفينة: أضواء من الكوات كانت تتسلل. كان بعضهم يعود من الصيد. سمعتهم يتكلمون عن بيع الجلود بأثمان مغرية. كان عليهم أن يبيدوا كل حيوانات الجزيرة من أجل "حماية" السياح.
أضاءت كشافات النور سطح السفينة، فرأيت نساء اختُطِفن بالقوة من الجزر المجاورة. كان لدي انطباع أن عيون المها الوحشية بينهن. اقتربت من السفينة لأتأكد من ذلك، فدوت طلقة نار ثم صرخة حادة وبكاء. لم أكن أنا المعني. ألقوا بامرأة في البحر.
بعد كل ما جرى، وجدت نفسي مضطرًا إلى اللجوء إلى غار. كان عليهم ألا يعلموا بوجودي. وقبل أن أقوم بتفجير السفينة، كان عليّ أن أعلم إذا ما كانت امرأتي على متنها. وعلى كل حال، لم يكن باستطاعتي ذلك طالما بقيت نساء الشمس رهنًا لجليد الحضارة.
في اليوم الذي نقلت فيه إلى الغار أمتعتي اكتشفوا ملجأي في أعالي شجرة الكستناء، فاقتلعوها من جذورها، وانتشروا في الجزيرة بحثًا عني دون أن يجدوني. عندما عدت إلى الورشة، في الليلة التالية، كانوا قد وضعوا صناديق الديناميت تحت الحراسة. دوت طلقات نار تبعتها صرخات حيوانات الجزيرة، وما لبثوا أن عادوا بصيدهم الليلي. انتزعوا جلود فرائسهم، وألقوا بجثثها في مركب دفعوه إلى عرض البحر. وللاحتفال بما فعلوا، أحضروا نساء الجزر، ووضعوا أسطوانة، وأجبروهن على الرقص. كانوا يشربون، ويأخذونهن في أحضانهم، وكانت فرصتي لأصعد على ظهر السفينة، وأبحث عن امرأتي. دخلت إلى القمريات كلها دون أن أجدها. عندما عدت إلى الشاطئ، تعثرت بجثة إحدى النساء، ورأيت على طرف ناء امرأةً أخرى يغتصبها أحدهم. هاجمت المغتصِب، وهربت مع المرأة. أكدت المرأة لي في الغار أن عيون المها الوحشية ليست على متن السفينة، فعزمت على العودة إلى السفينة في الليلة نفسها لإنقاذ باقي النساء وتفجيرها بمن فيها من الجانين.
وهذا ما وقع.
بعد أن حررت ست نساء من نساء الشمس، فجرت السفينة، ثم فجرت الورشة. كان ذلك كما لو أني حررت امرأتي، وكان ذلك برهان الوفي لمن له الوفاء. أعانتني تلك الجزيريات في بناء مأوى، وغدت كل الجزيرة بيتي الهادئ. عدن بعد ذلك إلى جزيرتهن على مركب صنعنه من أغصان الشجر، وقطعن عهدًا بإعادة امرأتي ذات يوم.
في أحد الأيام، شاهدت آثار أقدام على بعد وجيز من مأواي، فلم آبه بها. لم تعد مصدرًا للخوف، تعبدت بصوت عال، دون أن تصلني أقل إشارة. ثم، فجأة من ورائي، سمعت صوتًا يشبه صوتي. استدرت، ورأيت رجلاً على صورتي. كان يتعبد هو كذلك، فخاف الواحد من الآخر. عقدت الدهشة لساننا، حاولنا النطق، فلم نستطع. وفي الأخير، استطاع الرجل لفظ اسمه، كان اسمه "أبسال".
تذكرت من هو، ولم يتذكر من أنا. لم يعرفني بسبب لحيتي الكثة، ولم أستطع قول اسمي. تركته يحكي حكايته، قال إنه شارك في الحرب الأخيرة إلى جانب جون روبنسون، وإن القيادة قد كلفته بالبحث عنه. ذهب إلى جزر هاواي واحدة واحدة، ولم يعثر عليه. بالمقابل، عثر على نفسه التي أضاعها خلال الحرب. ضيّع عالمُ المادة الناسَ، فأحيلت القيم الحقيقية إلى غبار، واستحالت الأرض إلى قفص ضخم يضاهي فيه الإنسان كل وحوش الغاب.
حاولت سؤاله عن أسباب بحثه عني، فلم أستطع النطق من الكلام أصغره. كتبت اسمي بعودٍ على الرمل، فنهض، وعانقني. قال عني قديسًا، وهو، كما كان في الماضي تابعي، سيكون في المستقبل تابعي.
كتبت على الرمل هذه الكلمات: "لماذا تبحث عني؟"
أوضح لي أن حربًا أخرى على وشك الاندلاع، وهم في القيادة في أمس الحاجة إليّ.
عدت أكتب على الرمل: "ألم تكن حربنا الأخيرة؟"
"الحرب القادمة ستكون الأخيرة، قال، لأنها ستكون الحرب المدمرة الأكثر في التاريخ. ستكون الحرب الوحيدة التي ستستعمل فيها كل أنواع الأسلحة الساحقة، أسلحة لم يعرفها من قبل إنسان."
"أين سيكون مكانها؟" كتبت.
"في جزيرة العرب"، أجاب.
طلبت إليه الصلاة من أجل نجاة الإنسانية، فالصلاة كانت سلاحنا الوحيد في تلك الجزيرة. صلى، ثم طعم لحم جديٍ مقددًا، أما أنا، فشربت لبن شاة.
علّمته كل شيء: الزراعة والصيد وهوى النفس. تعلم ببطء هذا صحيح، لكنه أبدى نضجًا وعقلاً وذكاءً استثنائيًا. وبدوره، علمني النطق، فأخذت أستذكر كيف ألفظ الحروف والكلمات، وشيئًا فشيئًا امتلكت من جديد اللغة التي فقدت.
حدثته عن المبدأ الأول، العلم الإلهي، والكائن الأسمى، اليقظان، ورؤيته التي هي رؤيتي. حكيت له كيف تم لي ذلك، وأنا أحلق كالعُقاب، وأنا أحترق في ضوئه. كشفت له ما يشدني أكثر ما يشدني فيه: لونا الأزرق والأخضر لعينيه، لونا عيني امرأتي التي فقدتها ووجدتها فيه.
قضيت كل الليالي مع أبسال، ونحن نبتهل ونتعبد، وهو لا يبدي تأففًا أو تعبًا. كان يتأمل في كينونة ما فوق الوجود المادي، حتى أنه كان مفتونًا بذلك.
في أحد الأيام، عاد يشكو من مصائر البشر، ويحثني على فعل شيء من أجل إنقاذ النفوس، أنا التجسيد للعقل، ابن يقظان والطبيعة، رجل الخير.
في البداية، لم أبال بما يقول، ثم أخذت أصغي إليه، وأفكر في ملايين الناس الذين يعمرون الأرض. بحذر ونعومة، طلب مني الذهاب لنشر حقيقتي، وذلك بالمساهمة في الحرب القادمة، فصفعته بعنفٍ يكادُ يشقُّ الحجرَ كما يشق الماء. اعتذر موضحًا أن دوري سينحصر في العمل من أجل السلام ومن أجل المعرفة ذات المعرفتين التي هي معرفتي. أخبرني أن في الطرف الآخر حاكمًا عربيًا اسمه "سلامان"، حاكمًا عُرف بإرادة العدل وقوة التوحيد بين الشعوب، باستطاعتي أن أفاوضه. من جهته، سيتكلم مع القيادة، ويقنعها بالتفاهم مع سلامان من حول طاولة المفاوضات.
بعد فيض من النقاش والتأمل، نجح في إقناعي بالذهاب إلى جزيرة العرب، وشرطي الوحيد كان عدم شن الحرب قبل وصولي. وافق، فوافقت.


يتبع القسم الثاني