كنفاني ...العصيُّ على البوْتَقَة!


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4753 - 2015 / 3 / 19 - 23:30
المحور: الادب والفن     

قد أكون بما سأسوقه ألان كمن يحكّ جرحاً كانت مظاهره تطل برأسها بين الحين والآخر وبشكل غير معلن على الأغلب. وسأبدأ حديثي المكتوب هذا بتساؤل: من أيّة زاوية ينبغي دراسة وتكريم كنفاني؟ هل من الزاوية السياسية –الوطنية باعتباره من أبرز قيادات حركة المقاومة الفلسطينية؟ أم من الزاوية الحزبية باعتباره عضواً في المكتب السياسي للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، قام بمهامه بما يتناسب وهذا الموقع القيادي؟ أم ترانا نتناوله من الزاوية العسكرية لاعتبار مهامه وتراثه الكفاحي؟ أم أخيرا ً من زاوية الأدب والدراسات الأدبية حصراً لكونه روائياً واقعيا-ثورياً ودارساً، تركت رواياته ودراساته بصمات لا تمحى على تطور الرواية العربية والدراسات النقدية؟
كلٌ من متناولي غسان غنى ويغني على ليلاه! فمنظمة الجبهة الشعبية في الوطن سّمت تنظيمها الشعبي الكفاحي في الانتفاضة على اسمه" كتائب الشهيد غسان كنفاني" فألبسته ثوباً عسكرياً كما لو كان محض جنرال، فانتفت في الصورة التي شكلها جيل بأكمله، الأبعاد الأخرى في شخصيته.
أما الذين يضمرون حقداً سياسياً "مؤدلجاً " ضد أسلوب الكفاح المسلح فسعوا جهدهم إلى نزع "تهمة" العسكرية عنه والتي "تلوث" أدبه فحُُشر في ثوب الأدب . كان هؤلاء جميعاً ينهلون من مدرسة الكاتب الراحل إميل حبيبي الذي كان في كتاباته وأحاديثه ينتفض غضباً لمجرد ذكر الكفاح المسلح!
وأخيراً فالباحثون في شؤون الأدب على وجه العموم والرواية على وجه الخصوص من أكاديميين وغيرهم حاولوا جهدهم نزعه عنوة من الحاضنة السياسية-التنظيمية التي تربى فيها" حركة القوميين العرب سابقاً والجبهة الشعبية لاحقاً" وإن ذكروها فعلى عجالة وكأنها ليست ذات تأثير في تكوين شخصيته ....حتى أن أحد الأكاديميين اللامعين- والنزيهين على أيّة حال- قال مرة عنه"بس لو إنه مش ماركسي"!! في زلّة أربأ على َمنْ مثله أن يقع فيها.
كان التناول السابق كله أحادي الجانب ، ضيق بل ونزق ويفتّت معالم تجربة غنية لا مجال لتفتيتها، وبالتالي يصعب دراستها بتنوع وتعددية زوايا الدراسة، فإبداع الكاتب بالنهاية هو حصراً في القدرة الكامنة في نصه الأدبي وتجربته العملية على التفتح لتعددية القراءة.
ولا مندوحة من التقرير بأن من حق أي دارسٍِ لكنفاني أن يتناوله من الزاوية التي تخصه وتثير انفعاله واهتماماته...فمن حق المنتفض أن يرى فيه النموذج الكفاحي والعسكري كما من حق الباحث والناقد أن يرى فيه روائياً ودارسا للأدب ، كما ويحق للجبهة الشعبية أن تفخر أن تنظيمها بسياسته المرنة تجاه الإبداع، قدمت للعالم شخصية جمعت بين المسدس والقلم وهذا لعمري نادرٌ في تاريخ الحركات الثورية. إنه بالضبط " أحمد العربي" الذي جمع بين الصخر والتفاح وبين البندقية والغزالة "في قصيدة محمود درويش.
ولكن بين حرية التناول وحشر المتناوَل وتجربته في بوتقة التصنيف الضيق، شعرة هي كشأن كل الشعيرات التي تنتصب في الحياة كما في الفكر بين الضّديّن. وأعترف أنني لم أقع على من أحسن التقاط الشعرة فتناول شخصية كنفاني بأبعادها وزواياها وإنتاجيتها المختلفة بل والمتناقضة، سياسياً وحزبياً وأدبياً.
لسنا أمام سوبرمان ولا أنا ممن يتحمسون لشطط تقديس الشخصية وإضفاء ملامح أسطورية عليها، ولكننا أمام شخصية كانت قادرة على الجمع بين العمل التنظيمي المنمنم بالمفهوم اللينيني وبين معالجات معقدة ونفسية للصراع في روايتي"عائد إلى حيفا وما تبقى لكم" وبين الصحافة ومسؤولياتها الإدارية والمهنية وبين المهام السرية التي تتسع باتساع علاقات الجبهة آنذاك مع فصائل اليسار العالمي....بين الملالة من تفاصيل الاجتماعات القيادية التي جعلته يهرب منها للرسم وبين كتابة مسلسلٍٍ إذاعيٍ بوليسي...
تلك كانت شخصية متداخلة،مركبة،متنوعة،أرجو أن يرحمها تاريخنا الوطني والأدبي من التصنيف الضيق.