أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الثاني عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4750 - 2015 / 3 / 16 - 11:12
المحور: الادب والفن     

وصل بسام المنصوري غاضبًا.
- منعني رجال أبي عبد الله العوفي من مقابلته، قال مشمئزًا، تحت حجة أنني التجسيد للجميل، مكاني ليس بينهم: كلهم بشعون، مهما كانت طبيعتهم أو أصولهم. أحمرنا ليس أحمرنا، أبيضنا ليس أبيضنا، أسودنا ليس أسودنا، أكد لي أولئك الأوباش. مكانك كمكاني ليس قرب الملك.
بدا حزينًا وتعيسًا.
- كدنا نفقد مصداقيتنا لدى الخيول، غمغم، وهذا ما سيحزنها أكثر، لأن الخيول حزينة دومًا!
وبريشة البرق، كتب هجاءه الطويل، أطول قصيدة في تاريخ السخرية الإنسانية.
- سأنهج على منوالك، أكدتُ، سأرفض السياسة لو اتصلت بي، ليست هي المرة الأولى التي اتخذ فيها مثل هذا القرار، ولن أقبل بالأدب إلا إذا دق على بابي.
في الواقع، جاء الأدب يطرق بابي بقوة، بقوة كبيرة. قصة أبي بكر الآشي، هذا النص الاستثنائي الذي بحثت عنه في الإيسكوريال، وفي الكُتُبِيَّة، ها أنا أجده أخيرًا. وقفتُ عليه مُدَنَّسًا، وسأقف عليه مُدَنِّسًا، فقررت اقتفاءه، وذلك بالذهاب إلى شارع شذونة. صعدت إلى الطابق العلوي، فوجدت رجال البلاط الملكي، وهم يعملون على معصرة لزيت الزيتون. كانت حبات الزيتون تنط على شريط متحرك، كرؤوس البشر، قبل فرزها، فرأيت فيها صورة الأردنيين، وكل واحد منهم يحمل مصيره قبل أن يلقي بنفسه في المعصرة. في الناحية الأخرى، كان مهرجو أبي عبد الله العوفي يفتحون أفواههم بالقدر الذي يستطيعون عليه، وكالماء، يعبون الزيت الهادر كالشلال، بينا يتركون عدة قطرات للمتسلقين المنتظرين خلفهم، في ظل السيف الجهنميّ.
قززني كل هذا، وتصاعد الغضب في نفسي. فهمني أبو بكر الآشي، فنزل من مهده النجميّ، وخرجت المرأة، المحبوبة أكبر حب، من عينيه، وأتتني. ابتسمت لي، وسحبتني من ذراعي. على النافذة، كان العاهل الهاشمي ينتظر حمامته الغبية، ويفكر في "هلا"، أصغر بناته. زواجها من الشيخ النفطي كان خير علاج له، لكن فترة نقاهته ستكون طويلة. تحاشيتُ التحدثَ إليه، واستجرت بالسعير استجارةَ خيرٍ أكثرَ من استجارتي به، فقادتني حبيبة أبي بكر حتى ساحة الجامع الكبير حيث اختفت. لم تكن الوجهة وجهتي، فالأوهام هي هكذا، تصنع الأوهام. ذهبتُ في تاكسي إلى شارع شذونة، وصعدته، وأنا أمني نفسي بالوقوع على أحد يقول لي أين تسكن رشا الآشي. كان الشارع يبعث على اليأس لخلوه من العابرين، ولعلوه بين النوافذ والأرصفة، نوافذ كلها مغلقة، وأرصفة كلها مفرغة. رحت فيه وجئت، بلا سلوى. دعوت الله أن يعبر عابر، بلا جدوى.
وأنا يائس يأس المصابين بغير أمراضهم المصيبين لغير أهدافهم، إذا بسيارة مرسيدس صفراء تصل، حسبتها سيارة أجرة. وقفت قربي، ونزل منها رجل وجهه يشبه مؤخرة الطفل. من بابها الخلفي، خرجت امرأة كانت هي، رشا الآشي. كانت حبلى، وبين ذراعيها رضيع. خرج عدد كبير من الأطفال من بناية، وهم يثيرون الضوضاء والضجيج، فشتمهم الرجل. صاح برشا، وجذبها من جديلتها. أخذت تبكي كالعصفور الكسير الجناح، والأطفال يَضَجُّون حولها.
أحرقت لي روحي، رشا الآشي. كنت كالمتحجر، لا أستطيع فعل شيء. تلاقت أعيننا، فمسحت دموعها، وشخصت ببصرها إليّ. بدوري، مسحتُ جروحي، وشخصتُ ببصري إليها. كان الواحد يشخص ببصره إلى الآخر كمن يبحث عن شيء في الدخان، والأطفال من حولنا يواصلون إثارة الضجيج والضوضاء. أردنا الهرب منهم. بلا جناحي الرجل الغريب، وزير الإرادات الإلهية، لن يمكننا التنقل بين الأرض والسماء تنقل الكمثرى بين الأصابع والأسنان. بشراسة، أبعدها زوجها عني، فأدارت رأسها نحوي، لَهِفَةً سفرجلية، قبل أن تخترق عالم الواجبات الجهنمية.
في الجامعة، أخذتُ طريقي إلى مكتبي. وجدت فيه أبا الحسن الفزاع، والشبه الكبير بينه وبين بسام المنصوري أفزعني.
- ادعني عليًا، قال لي.
قبل أن يضيف:
- تُذَكرني بمن كان يحتل هذا المكان قبلك. أنتما تتشابهان إلى درجة تجعلنا نعتقد أنكما توأمان.
- أبو بكر الآشي؟ سألتُ.
- هذا كرسيه، وهذا مكتبه، وهذه أشياؤه. هل سمعت بقصته؟
- ومن لم يسمع بقصته؟
- لم تكن سوى مزحة سمجة، أفضى لي.
فاجأني كلامه، وأججت سخريته فضولي.
- مزحة سمجة!
- كل ما جرى لأن والدي رشا أرادا أن يتأكدا من مدى صدق مشاعر أبي بكر، فكان لِلَّعبة وقع في نفسه، ولعبها حتى النهاية.
- ورشا، ماذا كان موقفها؟
- كانت تريد أن يكتب عنها، ولما تحقق لها هدفها، كفت عن الاهتمام به. اعتادت على مثل هذه العلاقات العابرة التي تضع حدًا لها بسرعة. امرأة تهوى إشعال النفوس، لو تعلم. اختارته لأنه الأحسن، وما فعلته له كان بإملاء من لا وعيها، ثم ألقته كشيء لا أهمية له.
عضضتُ دهشتي بأسناني لِما سمعت، فصرخَتْ دهشتي على شفتيّ. سكت الفزاع قليلاً قبل أن يضيف:
- اليوم تجدها تتعذب من وخز الضمير، كان أبو بكر يعلم أنها ستندم، أنها سترجع إليه. سترجع إليه وهي تحبو على الأربع! لكنه سيطردها كالكلبة!
نهض ليقوم بدورة في هذا الجحيم، كما قال، تاركًا إياي أغرق في عدم اليقين. بعد قليل، لحقتُ به. كانت طبقات دنيا الجحيم تنطبق على بعضها، فلا تمييز بينها. غدا الممر نفقًا بلا نهاية، فانبثق الفزاع من العتمة، وجذبني من ذراعي.
- من أنت؟ سألتُ، وأنا لا أميز وجهه.
- أنا الحاضر الغائب، أجاب. أنا الظاهر الخفيّ. أنا العادل في الحب وفي الكره. أنا الرجل الذي يعرف كل شيء ولا يقول شيئًا!
- هل رأيتها؟ كانت ترتعش كالعصفور الكسير الجناح!
- رأيتها، لكني لا أريد أن أرى شخصًا آخر غيرك. هي، هي لم تزل شابة، ستصنع حياتها. أنت، أنت لم تزل شيخًا، سنوك الباقية معدودة.
نصحني بتركها، والبحث عن السعادة قرب غيرها. وصفها كشخص غير ناضج: "هذه المرأة لم تُصنع لعالِم من معدنك!" أنهى.
- ولكني أنا، أحبها!
لَعَنَ مثل هذا حب، التدمير جوهره.
- استثمرِ الحبَّ الذي تُكِنُّهُ لها في الكتابة، قال لي، إنها الوسيلة الوحيدة لنسيانها.
واختفي في أقصى النفق.
لم أصل إلى طرد صورة العصفور الكسير الجناح، المبتل الرياش، المرتعش تحت المطر. كانت تلك الصورة تلخص كل حياتي، التي حطمتها رشا. كيف جرى من فتاة رقيقة مثلها أن تراكم أطنان العذابات تحت معالمها الملائكية، أن تخفي وجه الشيطان، وتنشر الشر؟
حلمتُ برشا، وهي بصحبة أصدقائها، ما أن رأتني حتى تركتهم، وجاءت تقبلني. قدمتْ لي عنقها لأطبع عليه قبلة، قبل أن تتعلق على ذراعي، وتغادر معي. إلا أنها أوهام السابح في أحلامه، فعكسها ما وقع لي.
وأنا أغادر الجامعة على الساعة الواحدة، رأيتها بصحبة أصدقائها. رأتني، وأنا أقترب، فأعطتني ظهرها. لم أحتمل منها ذلك، فضربْتُها على ظهرها ضربة خفيفة. رمتني بنظرة شرسة، نظرة حاقدة. كان الحقد كحلها، والشراسة أزرقها أخضرها أحمقها. رشقتْ عيناها المكحلتان الشرر، غير أن صورة العصفور الكسير الجناح ظلت تطاردني طوال الليل. لم أمنعني من التفكير في صدرها الضامر تحت كنزتها الناعمة التي لمستُها بإصبعي. كانت تنكّدني هذه المرأة التي لا رغبة لها ولا عاطفة. كانت في نهاية الأمر امرأة خاضعة لإرادتها. ماذا كانت تريد؟ أن نضعها في قفصٍ ذهبيّ؟ كانت سعيدة في سلاسلها، بين العادات والتقاليد البائدة. لم تكن عبدة الحب الذي تكنّه لشخص آخر. لم تكن تعرف كيف تحب. عرفتُ فيما بعد لماذا هي وأمها كانتا متآلفتين ضدي. كانتا ضحيتين لإرادتهما. نعم، لقد خدعتا جلادهما. كانت مدريد اللامخلصة الكبرى. كانت إيزابيل اللامتيمة الكبرى، كان مليكي اللاغيري الأكبر. كان آميديه اللامبالي الأكبر. الأعمدة التي هدمها أصدقاؤه الباسك في بلازا مايور، أجمل ساحة في العالم، كانت الحقيقة الوحيدة، حقيقة بالأحرى فظيعة.
اكتشفتُ فجأة أن مدريد ليسها غير أعمدة ضخمة، وأن إسبانيا ليسها غير صفحة في المخطوطات المدنسة اللاموجودة، صفحة ملطخة بالدم. كنت تلك الصفحة. كنت خؤونًا. كانت الخيانة محور حياتي. دونها، لم أكن لأوجد. تعلقي برشا لم يكن له سبب آخر ليكون: أن أكون خؤونًا بشكل دائم. تهاويت. لم أعد أريد التفكير في شيء، كنت أريد التفكير في رشا، المتآمرة. لم أكن أريد التفكير إلا في صورة العصفور الكسير الجناح. لم أعد أريد تشكيل النجوم، لم أعد أريد الكتابة، ولا العودة إلى السياسة. لم أعد أريد العيش، لم أكن لأقدر عليه دون أن أخونني.
انهارت عمان من حولي، اقترب الليل من نهايته، عم الصمت. كانت هذه المدينة مقبرة بالفعل، البيوت القبور، الظلال الأشباح، الأرواح الأنصال. فتحت واسعًا عينيّ الميتتين، لكني لم أر شيئًا. كنت أرى فقط العصفور الكسير الجناح، وكنت أرى رشا، في تلك اللحظة، رشا التي حطمت حياتي.
هذه الصورة، مع فكرة أنها لا تريدني، جعلت الدموع تتدفق فيضًا من عينيّ. كانت دموع كل المحبين، كل اليتامى، كل التعسين المجانين المأفونين المدنسين. كانت تجري كالأنهار. تَفَجَّرَ ضغطي. غدا جسدي جزيرة. كان ينهضُ بالليل. بدت عمان لي نُقَطًا. نقطًا كثيرة. نقطًا لا تعد ولا تحصى. نقطًا لانهائية. اجتاح الثقل ساقي. الحديد غدا خفيفًا. كنت أريد الضياع، ومن تلك الإرادة كانت تنبثق متعتي، متعة الضباع. بفضلها، كنت أصل إلى ما لم يصل إليه الإنسان. اكتسبت معرفة الوقائع الحاضرة ببصيرة ثاقبة. بصيرة في ذاتها، تجسيد لثورة فلكية ضد إرث العصور البائدة. لكني لم أكن قد وصلت بعد إلى الحكمة. كنت أعلم أنني لن أصل إليها إلا بعد البداية الجديدة. بداية ستكون في آنٍ واحدٍ نهاية. كنت أتجه نحو النهاية. كي أصلها كان عليّ أن أحقق شرطين: شرط العمى وشرط الشلل.
في الجامعة، لمحتُهَا في الساحة مع جمع من الأصدقاء. على الرغم من ساقي التي تؤلمني، حاولت أن أقطع المسافة التي تفصلني عنها بصعوبة. اختبأتْْ خلف جدار من أجساد أخذت تدور حولي. أخذت تدور حولها وتدور حولي. أخذت تدور حولها ويدور العالم حولي. كنت على حافة الهاوية. كل حياتي، كل تاريخي، كل حضارتي، منذ أول سفينة رست على شواطئ مالاقا حتى آخر مجذاف مكسور في العقبة، كل حياتي، وكل تاريخي، وكل حضارتي، كل هذا كان على وشك السقوط في سديمِ هاويةٍ بلا قرار.
راح أصدقاء رشا يدفعونني، وهم يقهقهون. ناديتها كي تأتي لنجدتي، فأخذت، هي الأخرى، تدفعني، وهي تقهقه. فقدتُ التوازن، وبدأتْ رحلتي نحو سقوطي الأبدي. تعلقتُ بماضي كل المحبين في العالم، ورفضتُ ماضي العرب. تسلقتُ حاضر كل المعذبين في الكون، وطردتُ حاضر العرب. استعنت بمستقبل كل التقهقريين في أبدان البشر، وبصقت مستقبل العرب. كنت على وشك الوصول إلى المتعة الماضية وإلى الوقت الضائع. كنت أعد نفسي لاحتفالات الظلام، وأنا أتقاسم سعادة العناكب وأعشق الظلال. رفعتني ضحكات المرأة التي أحب حتى أديم السماء. كانت تأخذني بيديها اللامرئيتين، وتلوح بي كما تلوح بمنديل. قبلتني بشفتيها الزجاجيتين، ثم تركتني كقطعةِ دماغٍ مُدْمٍ عند حافةِ جمجمةِ العالم.
خلال سقوطي، كنت أرى ظلال الأقدام التي كانت تقفز فوقي. اتحدت كل الظلال لتصنع ظلاً واحدًا. كان ظل قدميها. اقتربتْ، ووطئتْ وجهي. تفجرت أغشية عينيّ، ورأسي. وطئت عقلي. وطئت قلبي. وطئت كنهي. وطئت كياني. وطئتني كلي. أطلقتُ صرخاتٍ تَفْلِقُ الروح. كانت النهاية.
آهٍ! كم تمنيت، في تلك اللحظة، أن أكون في سن العشرين!
تأملتُ المكتب الذي جلس عليه أبو بكر الآشي، لامسته بأصابعي، فخورًا بامتلاكي إياه، وكأن العلم والفِلاكة ومدريد، المدينة والأنثى، لي. تناولتُ أشياءه التي كانت له واحدًا واحدًا، وتأملتها مليًا، دون أن أمسح الغبار عنها. رفعتُ عينيّ إلى السقف، وفكرت في كل ما فكر فيه. تخيلت رشا، وهي تجيء إليّ، كما كانت تجيء إليه. ثغرها، ثغر التوت الوحشيّ، غَنّى في قلبي.
شدني مفتاح معلق على المكتب، كان مفتاح الجوارير. جررت الأول. مغلق. الثاني. مغلق كذلك. الثالث. مغلق كالاثنين السابقين. كان المفتاح يغلقها كلها في وقت واحد. حاولت فتحها، فلم أُفْلح. كان المفتاح صدئًا. عدت إلى سحب الجوارير واحدًا واحدًا، بعنف. لم تتحرك. حاولت تحرير المفتاح، أو على الأقل إدارته، بلا فائدة. ضربت الجوارير بيدي، محاولاً من جديدٍ فتحها، لم تتحرك. ركّزتُ و، بجهدٍ جهيد، تمكنتُ من إدارة المفتاح. بسرعة، فتحت الجارور الأول. لا شيء. الثاني. لا شيء كذلك. الثالث. جَمَدَتْ أصابعي. ترددتُ قبل أن أفتحه، وقلبي يخفق بقوة. تذكرتُ اعتقالي في مراكش، من أجل حب قصة حب. تقاطرتْ في رأسي كل الصفحات المصفرة التي تصفحتها. أدمتني النظرات الولهى للأميرة إيزابيل عندما ألزم المرض آميديه الفراش. خنقتني أو يكاد زوجتي الزاهدة، المهجورة في قمة الأطلس مع إله عاشق. عقرتني ابتسامة كلارا وزارا وسونيا. قتلتني تلك القبلة البعيدة، البعيدة جدًا، في شذونة أو أرخذونة، لست أدري على التحديد، عندما قلت الوداع لطفولتي للمرة الأخيرة. آهٍ! كم أتمنى أن أرجع إلى الوراء، أن أعود طفلاً، لآخذ نفس القبلة. آهٍ! كم أتمنى أن أحرق كل كتبي لأكتبها من جديد بطعم تلك الشفتين اللتين لا أستطيع نسيانهما.
في تلك اللحظة، لحظة المتع التي لن تعود والأماني الضائعة، وجدتُ القوةَ على فتح الجارور الثالث، قوة يائسة، مجبولة بالانتظار الفاجع. فتحتُهُ، ورأيتُ... إصبعًا مقطوعة. كانت سبابة أبي بكر، وجملة واحدة مكتوبة بدمه:
"الله ورشا على الأعداء!"


يتبع الفصل الثالث عشر والأخير من القسم الثالث