ممكنات بناء حركة اجتماعية فلسطينية فاعلة


وسام رفيدي
الحوار المتمدن - العدد: 4749 - 2015 / 3 / 15 - 22:36
المحور: القضية الفلسطينية     


ربما تكون نتائج الانتخابات الرئاسية الأخيرة للسلطة الفلسطينية مناسبة للفكر السياسي بأن يضع على جدول البحث ما بات واضحاً أنه يشكل ظاهرة سياسية- اجتماعية هامة وجديدة في الساحة الفلسطينية. فإذا كان البحث الاجتماعي قد رصد منذ سنوات ظاهرة تنامي دور ومكانة المنظمات غير الحكومية، كإحدى مكونات الحقل الاجتماعي- السياسي الفلسطيني، إلا أن الانتخابات الأخيرة أظهرت أن الممثل الأبرز لتلك الشريحة المؤسساتية- المنظمات غير الحكومية، قد بات يحتل مكانة بارزة في الفعل السياسي، وليس فقط كمكون من مكونات الحقل السياسي، ونعني بهذا الممثل الأبرز، المبادرة الوطنية التي شكلها حيدر عبد الشافي وقادها فعلاً مصطفى البرغوثي.
إن الوشائج كثيرة بين المبادرة الوطنية كتيار، وهي على العموم تيار لا حركة أو حزب، وبين المنظمات غير الحكومية. فمن جهة تشكلت المبادرة بالأساس من منظمة غير حكومية لمعت في السنين الأخيرة بحجم كادرها المهني وخدماتها وإمكانياتها المالية الكبيرة، نعني بها الإغاثة الطبية، والتي قادها د. البرغوثي منذ أن كان يحتل مكانة قيادية في الحزب الشيوعي الفلسطيني- حزب الشعب لاحقاً. وما جرى مع العديد من القيادات والكادرات في الحزب التي تقود منظمات خدماتية وديموقراطية تابعة للحزب، جرى مع مصطفى: اختلف مع الحزب فانسحب ومعه المنظمة- التي غدت مؤسسة مهنية. هكذا جرى أيضاً مع لجان المرأة العاملة، واللجان العمالية. فكادر المبادرة أساساً هو كادر الحزب، وقد استوعبت في داخلها المئات من التوظيفات الجديدة نتيجة إمكانياتها التمويلية الكبيرة.
ومن جهة ثانية فإن البرنامج الذي نادت به المبادرة، بالتركيز العالي على المسألة الديموقراطية والإصلاح السياسي والإداري، كان يتفق والخطاب الدارج في المنظمات غير الحكومية، التي يمكن ببساطة ملاحظة تبنيها للخطاب الليبرالي الديموقراطي الجديد الوافد مع الدعم المالي. وإذا كان البرغوثي قد نجح أحياناً بإيجاد الخيط الفاصل بين خطابه الوطني العام، والخطاب الليبرالي الجديد فإن المعلم الأبرز لخطابه كان الثاني، لسبب جوهري وهو تركيز جهد أعضاء المبادرة ونشاطها الوطني على مهام وطنية لا تعتمد الاشتباك مع الاحتلال بقدر ما تعتمد النضال السلمي، وإن غُلف بمصطلح النضال الشعبي الديموقراطي، الأمر الذي أبقاها في منأى عن المواجهة الدامية، فغلف نضالها بالطابع الاجتماعي-الديموقراطي فحسب.
أما القضية الثالثة والأبرز التي تُظهر عمق الترابط بين المنظمات غير الحكومية والمبادرة، فكان مرده إلى ما يمكن تسميته بالمكون الاجتماعي الطبقي للاثنتين، المبادرة والمنظمات غير الحكومية. وهذه قضية تحيل على نقاش مكانة ودور الفئات الوسطى الفلسطينية في النضال السياسي والاجتماعي المعاصر.
إن قطاعاً واسعاً من هذه الفئات كان اليسار الفلسطيني قد نجح بتحقيق التفافها حوله. فلو أخذنا حجم الكادر الوسيط والمتفرغ، وحجم المنظمات الشعبية الديموقراطية لهذه الأوساط، وكذا النفوذ في أوساط اتحاداتها ومؤسساتها ونقاباتها المهنية والفنية والثقافية...لو أخذنا كل ذلك كمؤشرات- أولية فحسب-لأمكن ملاحظة حجم التفاف واسع لهذه الفئات حول اليسار. وهذا الواقع بالذات هو الذي يفسر الحمَّى التي أصابت اليمين الوطني في الثمانينات للحاق بنفسه لتشكيل إما مؤسسات ومنظمات موازية، أو لشق القائم منها لمحاصرة نفوذ اليسار.
ومع انهيار قوى اليسار، وعوامل ذلك ليست من صلب المقالة ، كانت تلك الفئات أول من هجر اليسار. والحقيقة التي يجب ملاحظتها أن المسألة المالية كانت عاملاً حاسماً، إضافة لعامل تغيير الموقع الأيديولوجي الذي تتصف به الفئات الوسطى عموماً، في سلوك تلك الفئات. كان اليسار موقع تشغيل للآلاف من هذه الفئات طوال عقد الثمانينيات وأوائل التسعينيات، سواءً كان عبر التوظيف على الملاك المتفرغ للحزب اليساري، الشعبية والديموقراطية وحزب الشعب، أو كان عبر التوظيف في المنظمات الديموقراطية والمكاتب والهيئات المختلفة( منظمات المهنيين، منظمات الخدمات الزراعية والصحية، والمكاتب الصحفية والإعلامية…). فكانت النتيجة محتومة بعد الانهيار وتراجع معدلات التوظيف بشكلٍ حاد: إما الانتقال لمؤسسات السلطة، وهنا كان الاستيعاب ضئيلاً، فبالنهاية فتح، كحزب للسلطة معينة بتوظيف كادرها وأعضائها لتعزيز القاعدة الاجتماعية لسلطتها الوليدة، وبالتالي ارتهن توظيف الأعضاء اليساريين السابقين أو الملتزمين بحسابات الكوتا التنظيمية التي لم تخلُ من الابتزاز قطعاً. فكانت النتيجة أن الكم الأقل من التوظيفات توجه إلى ملاك السلطة، بالمقابل فالقطاع الخاص وظَّف جزءاً يسيراً، فطاقته التشغيلية أصلاً محدودة..
أما الكم الأكبر من التوظيفات فقد توجه إما لمؤسسات قائمة، أو دخل( السوق المفتوح) وأسس المنظمات وفق أولويات التمويل، فنشأت ظاهرة باتت معروفة( وحتى تتشابه مع العديد من دول العالم) أن المنظمات غير الحكومية تتشكل أساساً من مناضلي اليسار السابقين، وجزء يسير منهم لا زال يحافظ على روابط رسمية مع قوى اليسار.
لكل ذلك يمكن القول أن المبادرة بما شكلته من تيار هي التعبير الأبرز عن انخراط المنظمات غير الحكومية في العمل السياسي ( ولو من بابه الضيق غير المفتوح على الاشتباك مع الاحتلال)، ولكنه المفتوح على مصراعيه على الخطاب الليبرالي الديموقراطي الجديد.
وتلك ظاهرة جديدة في الساحة الفلسطينية وإن كانت ليست كذلك في العالم، أعني سعي المنظمات غير الحكومية لتأسيس حركة اجتماعية ببرنامج ديموقراطي عام. ولكن لدينا تبقى الخصوصية الفلسطينية تلقي بثقلها، فالوطن محتل والسيادة الوطنية معدومة تماماً، فالمهام لا زالت والحال هكذا مهاماً وطنية بالدرجة الأولى. وانطلاقاً من هذه الخصوصية هل يمكن النجاح ببناء حركة اجتماعية فلسطينية، بما تتضمنه من خصائص الحركة الاجتماعية المعروفة: حركات تنبني وفق معايير اجتماعية، مطلبية عامة، تتجاوز الانقسام الطبقي، وتركز على ما يجمع الجميع؟ ولاحقاً لهذا السؤال: هل يمكن لأية حركة اجتماعية فلسطينية وليدة أن تنجح بالتوفيق بين المهام الوطنية والمهام الديموقراطية؟ أم إنها ستقول: نحن نناضل من أجل الإصلاح والديموقراطية، أما النضال الوطني فله مؤسساته، ويعنون م.ت.ف؟ وإذا كانت م.ت.ف أصلاً غير قائمة في الواقع، فما دور هذه الحركة الاجتماعية؟ وأيضاً، إذا كان اليسار يقر بواقع أزمته- مع أنه وجد هناك وحتى بعد النتائج الأخيرة من يصر أنه لا يعاني أزمة!!- فما موقفه من الحركة الاجتماعية الوليدة هذه، وهو الذي كان دائماً يحرص على كسب الفئات الوسطى لبرنامجه، لا تركها نهباً لبرنامج البرجوازية حتى لو كان ليبرالياً ديموقراطيا؟ كما أن اليسار الذي لم يكف عن حلم توحيد قوى التيار الديموقراطي، هل سيدير ظهره للحركة الوليدة، أم سيضع خيارات الوحدة معها على قاعدة تصليب موقفها وزجها في النضال؟
والحركات الاجتماعية في العالم طبعت السنوات العشر الماضية بطابع إنجازات تُحسب لها. فمؤتمر ديربان في جنوب إفريقيا، والحركة النشطة المناهضة للعولمة ومنظمتها الأبرز، منظمة التجارة العالمية، والحركة العالمية المعادية للعدوان الأمريكي- البريطاني على العراق كلها كانت ثمرة هذه الحركات بالذات، علماً أن اليسار المنظم، الجديد والشيوعي، قد وجد ضالة أزمته في هذه الحركات، فنشط من خلالها وله بعض التأثيرات عليها. وقد تتوج هذا الجهد أخيراً بالنجاحات المحققة في البرازيل وفنزويلا والتي باتت تزعج الإمبريالية الأمريكية، خاصة الأخيرة.
من نافلة القول أن سحب التجارب ميكانيكياً لا يفيد احداً، ولكن عدم رؤية التجارب الجديدة للشعوب ضمن الخصوصية الوطنية، يقود للانغلاق والحماقة! إن ممكنات بناء حركة اجتماعية فلسطينية مناضلة أمر يبدو لي ممكناً كقراءة أولية إذا تمكنت من حل المهام التالية:
 أن تجمع في نضالها بين المهام الديموقراطية والمهام الوطنية وتكف عن التعامل بأن المهام الديموقراطية لنا والوطنية لم.ت.ف فالأخيرة هيكل مفرَّغ إلا من البيروقراطية والفساد، وليس لها أي تأثير في الشارع الفلسطيني. بالعكس فالجرأة السياسية باتت تتطلب المجاهرة بالدعوة لبناء مؤسسة وطنية جديدة ديموقراطية تمثل الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات وتؤكد وحدته التي مزقها أوسلو. وتلك مهمة يمكن أن تنهض بالدعوة لها الحركة الاجتماعية- فالقوى المختلفة لا زالت أسيرة شعاراتها القديمة، وتقتات على فتات المنظمة المالي والبيروقراطي- فهي المدخل للمسك بإحكام بالبرنامج المزدوج الديموقراطي والوطني. وتجربة النضال الفلسطيني أكدت أن حجر الزاوية في شعبية أية قوة ومدى ثقة الجماهير فيها والالتفاف حولها كان يرتبط بمدى قدرتها على الإبقاء على نهج المقاومة راسخاً، لا تُلقى رايته تحت شعار التسوية السياسية، كما يريد أبو مازن، ولا يميع تحت شعار المهام الديموقراطية، كما يُفهم من سلوك العديد من ممثلي الليبرالية الديموقراطية، بل الجمع بين نهج المقاومة والنضال الديموقراطي ضد السلطة السياسية.
 ولاحقاً لهذا صياغة المهام الديموقراطية والمجتمعية بما يخدم الهدف الأساس، التحرر من الاحتلال، دون التعامل بسذاجة وكأننا في سويسرا مثلاً! فالهدف من بناء مقومات مجتمع ديموقراطي، علماني، ينبغي أن يكون في المرحلة الحالية: تصليب مقومات الصمود في وجه الاحتلال، ومنعه من تدمير الكيانية الوطنية، لتوفير مقومات الانتصار لاحقاً عليه. إن الفصل بين العملية الديموقراطية والهدف الوطني المرجو منها، ستطبع النضال الديموقراطي بطابع غريب، أقل ما يوصف به أنه لا يتفق ومهام شعبنا بالتحرر.
 لذلك، يصعب الوثوق بقدرة حركة اجتماعية دون بناء قاعدة شعبية صلبة لها، منظمة ومرتبطة بالحركة، لا بحكم التوظيف بل بحكم الانحياز للبرنامج والمصداقية. وبناء القاعدة الشعبية ليس فقط لدواعي استمراريتها، بل أيضاً لتكون قادرة على حمل البرنامج المزدوج أمام القمع المزدوج، السلطوي والاحتلالي.
 واليسار بحكم تجربته السياسية والكفاحية والتنظيمية هو المؤهل لتوفير الضمانتين أعلاه. ولا بد من التأكيد هنا أن الفرق بيِّن بين من يضع تاريخه ومكانته في صندوق المنظمات غير الحكومية الانتخابي وبين من يعزز التحالف معها على قاعدة برنامج مزدوج يلعب فيه اليسار دوراً طليعياً لا ملحقاً. والطليعية يجب أن لا يفهم منها إلحاق الحركة الاجتماعية باليسار، بل توفير ما تعجز عن توفيره، على قاعدة المساواة في التحالف والندية، ودون شخصنة تافهة، سلباً أم إيجاباً، تترك تأثيراتها السلبية على العمل المشترك.

ختاماً، إن ما سقته هنا ليس وصفة جاهزة لإنقاذ ما يعرف بتيار اليسار والتيار الديموقراطي في الساحة الفلسطينية، إنها أسئلة سريعة فحسب، وأفكار أولية تحتاج لمزيد من التعمق فيها.