فى تمثّل دور رئيس الدولة


امال قرامي
الحوار المتمدن - العدد: 4744 - 2015 / 3 / 10 - 10:59
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تساءلت مختلف وسائل الإعلام، وخاصة السمعية منها عن غياب رئيس الدولة. فهو لم يلق كلمة ولم يعط تصريحا بشأن نكبة حلّت بالشمال التونسى، ونعنى بذلك الفيضانات التى ألحقت أضرارا تكبّدها المواطنون بهذه الجهات المنسية. ولم يتأخّر الردّ عن هذا التساؤل الذى تضمّن نقدا لأداء رئيس الجمهورية إذ باغت «السبسى» مقدّم حصّة صباحية فى الإذاعة الوطنية ليقدّم له عبارات الشكر ويثمّن جهد الإعلاميين الذين تنقّلوا إلى المناطق المنكوبة.

أثارت هذه الحادثة ردود فعل متفاوتة بين مستحسن متابعة الرئيس البرامج الإذاعية، ومنتقد اهتمامه بذلك، والحال أنّه مطالب بعقد مجلس وزارى لمعالجة الأوضاع. وبالرغم من تباين المواقف فإنّ اللافت للنظر أنّ هذا الاتصال ذو دلالات مهمة تعيننا على فهم مدى استيعاب التونسيين لنمط الحكم الجديد، والصلاحيات المنوطة بعهدة الرئيس، وطبيعة العلاقة التى يرسيها النظام الرئاسى المخضرم.


إنّ استفسار عدد من الإعلاميين عن «غياب» الرئيس، وإن كان يحمل فى طياته لوما، إلاّ أنّه يشير فى ذات الوقت، إلى طبيعة العلاقة التبادلية التى نشأت بين السياسى والإعلام، وإلى السلطة التى باتت تتمتّع بها المؤسسة الإعلامية بعد الثورة. فبعد أن كان الرئيس يتدخّل لتطويع الإعلام بالقوّة، وتوظيفه لخدمة مصالحه، وإضفاء الشرعيّة على سياساته صار السياسى حذرا فى تعامله مع وسائل الإعلام، ومقدّرا ما لها من أهميّة فى تجييش الرأى العامّ أو توجيهه.

ثمّ إنّ التعجّب من «غياب» الرئيس ينمّ عن تصوّر تقليدى لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم وتمثّل لشخصية رجل الدولة يظلّ موصولا إلى متخيّل جمعى لا يزال فاعلا فى المجتمع التونسى. فالمتوقّع من رئيس الجمهورية، حسب أغلبهم، أن يكون الأب الحنون والحامى، الزعيم، المخلّص، ومن ثمّة يتساءل الناس عن غيابه باعتبار أنّ حضوره الدائم فى وسائل الإعلام يحقّق الإشباع النفسى، ويبعث فى نفوسهم الطمأنينة المرجوّة.

من الثابت أنّ الرئيس فقد «القداسة» التى استمتع بها طيلة عقود، وقد زالت تلك الطقوس السياسية المعقّدة التى كانت تحدّد طبيعة الجموع به. وها هو اليوم مدى التندّر والسخرية والانتقاد اللاذع... وكلّ ذلك «المسّ من هيبة فخامة الرئيس» صار مبرّرا بحريات انتزعت، وأخرى فرضها السياق الثورى لعلّ أهمّها حرية التعبير، وحرية الإعلام. وبالرغم من هذا التحوّل فى صورة السياسى، والدور المطالب بالنهوض به، والمسئولية الملقاة على عاتقه إلاّ أنّ التونسيين يظلون متشبثين بصورة الرئيس الذى يعتنى بلياقة مظهره، وطريقة تعبيره، وبلاغة خطابه، ودهائه السياسى وفطنته... صورة تجعل من الرئيس يحتل المركز، فى حين يبقى الآخرون فى الهامش... هى تركة الماضى ترمى بظلالها على الحاضر، تحاصر رجل الدولة وتأبى أن يتحرّر من أسرها.

لم يستوعب التونسيون هذه النقلة النوعية التى يفرضها نظام الحكم الجديد، والتى تمنح رئيس الحكومة أدوارا أكبر من رئيس الدولة كما أنّهم لم يدركوا دخول السياسيين معترك تجربة الديمقراطية التشاركية التى تقتضى التفاعل بين أطراف مختلفة تملك هى الأخرى سلطة. إنّ وعى أغلب التونسيين لم يرتق بعد إلى مستوى التخلّى عن تصوّر يجعل الشعب عوّالا على السياسى / الفرد الذى يحتكر كلّ السلط. وليس تذمّر التونسيين أمام عدسات الكاميرا، وتوجيههم رسائل الاستغاثة إلى «سى الباجى» إلاّ علامة على هيمنة التصورات القديمة التى ضبطت علاقة الراعى بالرعية على الوجدان الشعبى. كما أنّ هذا السلوك يوضّح صعوبة تخطّى الزمن، واستشراف طبيعة المرحلة القادمة التى يجب أن تؤسس لعلاقة جديدة بين الرئيس المكلّف بخدمة الشعب وفق مقتضيات ضبطها الدستور، وسائر المواطنين.

لقد ولّى عهد الزعيم، القائد الفذّ، فخامة الرئيس، سيّد الأسياد، صانع التغيير، الأب الحامى... وحلّ عهد السياسى المسئول الذى انتخبه الشعب لفترة، لم يسلّمه شيكا على بياض وإنّما حمّله مهمّة تسيير البلاد وكان عليه رقيبا.