أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل السادس


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4744 - 2015 / 3 / 10 - 10:22
المحور: الادب والفن     

- منذ الصباح الباكر، تلفنت لها على مكتبها، فلم تكن موجودة. ذهبت إليها بعد محاضراتي، كان الباب موصدًا. في تلك اللحظة، جاءت زميلتها من آخر الممر عابسة. تشاءمت من لحظاتي القادمة، لأنها كانت تبتسم لي، مع بداية علاقتي برشا، ابتسامات مشجعة. كشرتْ، ورمتني بنظرة عدائية. على غير شعور مني، وصلني صوت من ورائي:
- ماذا تتوقع؟
التفتُ، كان الفزاع.
- ألم تفهم بعد؟
- لم أفهم.
- تعال.
جذبني من ذراعي، وعاد بي إلى مكتب رشا. فتح الباب، وأدخلني من أمامه.
- انظر.
- لا أحد هناك.
- وراء الستارة.
رفعت الستارة، فرأيت رشا وزميلتها عاريتين، وهما تقبلان بعضهما. أمام ذهولي، انفجر الفزاع ضاحكًا.
- هذه نايا، قال.
- نايا؟
- اسم شركسي يعني بنت الغزالة.
نظرت إلى أجمل عناق بين المرأتين، بضع لحظات، وأعطيتهما ظهري سأمًا من المتابعة.
- إلى أين؟ أوقفني الفزاع. أنت لم تر شيئًا.
- أنا أبحث عن رشا.
- رشا بدعة، اخترعها لك دماغك.
- رشا ليست بدعة، رشا حقيقتي.
- حقيقتك إذن زائفة.
- أقبل بها زائفة.
- وأنت؟
- أنا ماذا؟
- هل تساءلت مرة واحدة إذا ما كنتَ حقيقتها؟
- لمن؟
- لنايا.
- لرشا.
- للخراء.
تركته، وهو، من ورائي، يصرخ بغضبٍ شيطاني.
وجدت رشا تجلس أمام مكتب مديرها القديم، وكأنها على شفا جُرْفٍ هاوٍ. نظرت إليها، إلى حقيقتي الزائفة، وخمنت، وأنا أرى صف الطلاب، أنها تشرف على استقبالهم. ناديتها بعينيّ، فتابعها بنظرته زميلٌ، كانت تبتسم له، نظرة المغرم. لم يكن ينظر إلى حقيقته الزائفة، لهذا كان غيورًا، يعني عاشقًا.
- متى أستطيع أن أراكِ؟
- عند منتصف النهار.
في تمام الثانية عشرة، كانت واقفة أمام باب مكتبي، متجهمة الهيئة. كنتُ أخيبُ أملها على ما يبدو، زَيْفَهَا الحقيقي. نهضتُ، وابتعدتُ معها في الممر. كان شعاعُ شمسٍ دافئٍ يتسلل من الحديقة، ومع ذلك، لم يكن الشتاء قد انتهى، ورشا التي تحب المطر، كانت قربي متجهمة الهيئة. كان لها عبوس صديقتها، وكنت خائفًا من إرادة تأجيلها للأشياء. بالفعل، قالت إنها كتبت لي رسالة. ابتسمتُ، وأنا ثملٌ قرب شفتيها.
- رسالة حب؟
- رسالة وداع.
ترنحتُ وأنا أميد.
- لا تلعبي معي هذه اللعبة الخطرة، نبرت.
- أنا لا ألعب.
- إذن ماذا هناك؟ هل أخفتك؟
- لم تخفني.
وأفرغتْ دفعة واحدة كل ما كانت تريد قوله لي:
- قبل أن تأتي عندنا بيوم، قُرئت الفاتحة لاقتراني برجل آخر، لم أكن أعلم بنيتك على الزواج أنت مني.
كانت الكذبة مضحكة.
- حتى ولو سلمتُ بالأمر، أجبتُ، فلن أقبل. أنتِ لي، ولن تكوني لأحد غيري.
في تلك اللحظة، كانت تعابير وجهها تعكس الكره في لا وعيها، ليس كرهها لي، فأنا الآن لست الحقيقي، كرهها للعالم، والذي من هذا الكره كرهها للآخر، للحقيقي الذي خدعها.
- سأكون لغيرك، شئت أم أبيت، ولو كان الأمر بيدي لما حصل ما حصل.
تمالكتُ عن غيظي.
- من هو؟ سألتُ.
- أحد أقرباء أبي.
انفجرتُ.
- لن أقبل، سأكلم أباك.
أعطتني الرسالة.
- سأصاب بسكتة قلبية، قلت بالإسبانية.
- كيف؟
- ومستقبلنا؟
- ما الذي جعلك تفكر بأنني سأواجه مستقبلي معك؟
بدت دميمة، شيطانية، ذاتها، تلك التي تريد أن تكون فاجعتي كما تكون الفاجعة لا الفاجعة كما تكون فاجعتي.
- سأعود لنتحدث في هذا فيما بعد.
وذهبتْ.
انكسر قلبي، كنت هشًا كإبريق زجاجي، لم أكن أعلم. ذلك العظيم الجبار الذي كنته، كنته لأنني كنت كذلك في عيني أنطونيو. عدت إلى مكتبي. وضعت رسالتها أمامي. لم تكن الرسالة أنطونيو، وبقيت هكذا، أنظر إليها. لم أكن أجرؤ على قراءتها. ثم، مترددًا، فتحت الرسالة. كانت تعتبرني كاتبها المفضل، وجعلتني رمزًا. كنت لها الصديق، الأب. وختمت: "أضعُ حدًا لحبنا قبل نهاية الشتاء، كي أذكره كلما أمطرت، كلما بكت السماء!"
بدأتِ الرسالة ب "عزيزي جون روبنسون"، وأنهتها بتوقيع "عيون المها الشرقية"، الشخصيتان الرئيسيتان في نصي الجديد لحي بن يقظان.
تناولتُ الرسالة بأصابعي النَّمِلَة، وذهبت لأجد حقيقتي الزائفة. مضيت بين الطلبة دون أن أرى أحدًا. خلتهم كالهداهد، وهم يمشون على تيجانهم. حياني بعضهم، وناداني بعضهم، فلم أجب لا على بعضهم، ولا على بعضهم. كانت لحظاتي الأخيرة قبل الإعلان عن موتي. موتي لا الحقيقي ولا الزائف. موتي الصوري. يعني الأفظع. سأموت ماشيًا إلى المرأة التي أحببتها. كنت رعشة الشفة التي قالت وداعًا، وتحولت إلى مأتم.
حمدت الله أني لم أجدها في مكتبها، فلو وجدتها لقتلتها. وجدتها في مكتب مديرها القديم، وهي تثرثر مع زميلتها، مع الرجل الذي ابتسمت له كما كانت تبتسم لي، الرجل الذي تشتهيه كما كانت تشتهيني. كانت تحقد على الآخر الذي كنته، وتشتهي الآخر الذي كنته، الحقيقي الذي خذلها في ثيابي، لهذا كانت تمزح، وكأني لم أكن أكثر من نكتة. كان هناك رجال آخرون ونساء أخريات، جنودًا خلتهم كالأعمدة، المنهارة، الزاحفة بين سيقان الخيول. لم أكن أرى أحدًا آخر سواها، كالكاردينال ريفيرا كنت أراها، ككاتدرائية قشتالية، أليسها حقيقتي الزائفة؟ تقدمت منها، وهي ذاهلة. قذفتها بالرسالة مجمجمًا كلمة، كلمة واحدة: "شكرًا!"
وأنا أتركها، تذكرت، نعم، كل شيء غدا ذكرى على مثل تلك السرعة، تذكرت وجهها، رد فعلها. كانت قد التقطت الرسالة بعجلة، ولم تجد شيئًا آخر تقوله غير "عفوًا!" منافقة، جبانة، جِدّ جبانة، جد زائفة.
ماذا أقول لك، يا أخي؟ ماذا أقول لك عن هذا التغير القاسي الذي شوّشني؟ هل تكون أمها السبب، زميلتها، أم شعرها الأسود من الليل؟ هل بسبب شعورها بكونها ضحية أبدية؟ هذا الشعور بالرعب في الفراش، وهذا الفزع من الذكورة الذي يدفعها إلى إلجاء أمرها إلى أحضان أفلاطون؟ ماذا أقول لك، يا أخي، عن الحال التي وضعتُ فيها زوجتي وبناتي وفيها نفسي؟ يقال إن الضعف حب القلوب العظيمة، وأنا، أقولُ، حب القلوب الفاشلة!
فهل هو المروق الكريم؟ المجون البصير؟ أم أنه الإيغال في الافتراء والتلفيق؟
قررت أن أتحدى العالم أجمع، بدافع الزَّيْف، الاختلاق، الأفك، الكذب. بدأت، أولاً وقبل كل شيء، بأمها. كنت واثقًا من طاعة رشا لها. لم أكن الواثق بالله. كنت الواثق بالزائف. لم تكن الطاعة للقواد. كانت الطاعة للأمهات.
كانت تريدني، لكن أمها منعتها.
كانت تحبني، لكن أمها عملت كل شيء لتثنيها عن حبها.
كانت صغيرة، في الحب، وفي كل شيء.
قررت أن أجعلها تشاركني تجربتي، وأن أحميها. أن أحميها مني بالأحرى. لكني اختلقت العادي الفاجعي ولم أختر الاستثنائي الهزلي. كنت ألعوبة بين أيادٍ خفية. زائغ الفكر كنتُ، وأنا لهذا لم أكن مسؤولاً عن ذلك، وكان من واجبي ألا أستسلم أمام نوايا أمها.
كانت ليلة آرقة، لم أنم فيها لحظة واحدة. تحول الليل إلى بحر، شقتي إلى جزيرة. كانت عمان، ما وراء نافذتي، تتلاطم. تأوهتُ، طوال الليل، كنجم مختنق. أنّت معي الحيوانات، زعقت الطيور، أسلمت الأشجار الروح، عزمت الأسماك على الانتحار، وأخذ كل شيء يطفو في أحلام، كأحلام.
في الصباح الباكر، ذهبت عندها. سرت بقوة كل الشبان المقموعين، كل العشاق الملعونين، كل البسطاء المغتصَبين، كنت زائفًا حتى النخاع. تقدمت بإرادة كل آمالهم الانتحارية، كل خيباتهم العاطفية، كل صدماتهم الانفعالية، كنت كاذبًا حتى العظم. حملت فيّ كل الفروسية، كل الأصولية، كل الذكورية، كنت مزورًا حتى الرأس. رفعتُ على عضوي كل ماضي العرب المجيد، كل علمهم وأدبهم وفلسفتهم، كل حاضرهم وخلقهم وخالقهم، وفي ثقبي، حشوتُ القاهرة ودمشق وصنعاء والرباط والرياض والقدس والخرطوم وبغداد، كنت غائطيًا حتى العقل.
جاءتني كل مدن شبه الجزيرة الإيبيرية.
تبعتني كل مدن شبه الجزيرة العربية.
حضرت كل العواصم المنتصرة تهنئني أجمل تهنئة.
خَرَّ كل الشرق على قدميّ.
كان الغربُ ابنًا لي، القمر أسرتي مع زحل وباقي الكواكب.
الشمالُ والجنوبُ عاهرتان بعد أن كانا بنتين من بناتي.
عزمنا كلنا على الانكسار في زَيْفِ الحب، كان أعظمُ حبٍ زَيْفًا، أعظمُ عذابٍ كَذِبًا. عزمنا على تدشين أول قافلة للمحبين الزائفين منذ آدم وحوا، مرورًا بآميديه وإيزابيل، وانتهاء بأبي بكر الآشي ورشا الفاسية. مُسِخْنا جرذانًا سعيدة، في عالمٍ حقيقيٍّ أناسُهُ لا يفهمون معنى التعاسة. أردنا أن نقاتل في سبيل قصة حب بين جرذ وقطة، لأن الناس يحبون الكره. آهٍ، يا أخي، كم كانوا يكرهون الحب، وكم كنت أحب رشا!
أخذت تاكسي. لم أطلب من السائق أن يوطئ الراديو. أردت أن أخترق عالم الضجيج الشرقي والصخب العالم الثالثي، أن أغدو خفيفًا قبل أن أسقط عند بابها جناحًا من حديد. الحديد في بلدٍ مسترقَقٍ هو القوة والعزم، وبشكل آخر، الحقيقة عندما تغدو زَيْفًا. كانت طريقتي الوحيدة لإقناع أمها، أمي. فجأة، خفت من أمي التي لم أعد أخافها مذ بلغت السادسة عشرة، وكذلك من أمها، وكأني كنت ابنها الذي لها في الخمسين. كانت أمها زَيْفَ الكارثة. لو كانت الكارثة، وليس زَيْفَ الكارثة، لاستطعت احتواءها. كنت كثير الخوف من ملاقاتها، ذكرني هذا باللحظات التي سبقت مقابلتي للعاهل الإسباني بعد هروب صاحبة السمو الملكي الأميرة إيزابيل من الإيسكوريال، غير أني أَمَلْتُ أن تقف رشا إلى جانبي. أملٌ زائفٌ! سعيًا وراء الأمل الزائف، في تلك الساعة من الصبيحة، يجب أن تكون السنيوريتا نائمة.
تأخرت أمها عن فتح الباب، كانت تنام، هي كذلك. عادةً ما لا تبقى نائمة حتى هذا الوقت، كيلا يأكلها الصدأ. قضت المساء عند ابنتها الكبرى، وسهرت، هذا كل ما هنالك. وافقتُ على أن آخذ قهوة معها، نوع من النفخ في غير ضَرَم. كانت تريد أن تخرجني عن طوري، وكل مرة تعود فيها من المطبخ، تقفل باب الممر من ورائها. زَيْفُ الكارثة. كارثةُ الزَّيْف. ليسهما واحدًا. وضعتْ فنجان قهوة أمامي برائحة طيبة، فَعَمُقَ حبي لرشا.
- أريد التحدث إلى رشا، قلت لها، أيقظيها.
ابتسمت بعينيها.
- كلمني بدون كُلْفة، قالت، قل لي كل ما تريد قوله.
لم تدع لي الوقت لأقول أي شيء. بدأت بالحديث عن نفسها، أنها تحب الأدب و، ابنتها الصغرى طلعت عليها. رشا معجبة بالكاتب الذي كنته أكثر من العالم أو الفلكي. ربما تركتني رشا أتصور شيئًا آخر دون إرادتها. إن كان الأمر كذلك، فهي المذنبة.
- ومن ناحية أخرى، قرأنا فاتحة خطوبتها في اليوم نفسه الذي أردت فيه زيارتنا، هل تذكر؟ وهي، لهذا السبب، اقترحت عليك المجيء في اليوم التالي.
- من هو؟
ترددتْ:
- أخو صديقة طفولتها، وهو يطلب يدها منذ ستة أعوام.
- ما اسم عائلته؟
رفضت أن تقول.
- ماذا يعمل؟
لم تكن تعلم.
- كل ما أعرفه عنه أنه متخرج من فِيَنّا.
- اسمعي، الفاتحة التي قُرِئت، سنقرأها بالمقلوب، وينتهي الأمر.
ضحكتْ.
- إنها العادات والتقاليد، أبوها التزم، وما على رشا سوى الطاعة والإذعان. عندما استقبلناك، استقبلناك صديقًا. كم صديقٍ لرشا جاء عندنا! هكذا عودتها، وعودت أختها. زوجي استقبلك بصفتك عالمًا وكاتبًا معروفًا، ولو عرف أن ذلك كان لأجل الزواج منها لانصعق. الأخت الكبرى لرشا تزوجت من واحد شرق أردني بعد انتظار دام ستة أعوام، وكان ذلك صعبًا جدًا لزوجي. لو توقف ذلك فقط على زوج ابنتي لاحتفلنا بزواجها منذ زمن بعيد، لكن أهله بدو... وحوش بالفعل، أنت تعرف هذا. يا إلهي! كيف ستحتملهم؟
ثم عادت إلى رشا.
- سأدعوك إلى عرسها، قالت، وهي تبتسم من عينيها، لن تأتي، طبعًا. آه! كم أحب هذا: ندوات، محاضرات، آداب! غير أني ارتضيت بقدري. رشا أيضًا سترتضي بالقدر المكتوب لها. الحب ليس مهمًا. يأتي بعد الزواج، وإلا، يجب أن يرتضي المرء بقدره. هكذا عوملنا، وهكذا نعامل بناتنا. على كل حال، تولد البنت عندنا مع تعاستها. بحب أم بدون حب، هذا لا يبدل شيئًا.
ضحكتْ.
- ولكنك أنتَ، تابعتْ، أنت نسيج وحدك. صحيح ما يقال، الحب لا سن له! وفوق هذا، أنت تبدو أصغر من عمرك.
ضحكتْ من جديد. عملت لي قهوة ثانية، وهي تفتح وتغلق باب الممر دون توقف. خِلْتُ رشا حبيسةً في قفص، كالطائر الكسير الجناح. أغمضتُ عينيّ، وتهتُ في حلم هذياني، دام، رغم ذلك، بضع ثوان: نادتني رشا، فحاولتْ أمها بكل الوسائل أن تصرفني. تمكنتُ من الإفلات منها، وذهبتُ إلى المكان الذي تصل منه النداءات. أخذت أمها ترغي وتزبد، في الوقت الذي تطول فيه قامتها، وتبلغ طول السعلاء، بشكل مرعب، لم يكن عني غريبًا: كانت ما سمته كتب التاريخ "سعلاء الأندلس"، زوجة غول كورسيكا، التي التهمت الشبيبة التهام الحروب. وجدتُ رشا بنتًا صغيرة في قفص ذهبي، كانت تبكي، وترجوني أن أنقذها. واجهتني أمها، وهي تقهقه، ساخرة من قدراتي. ألقتني أرضًا، وطالبتني باختيار موتي: "بالحب سيكون موتك أم بالحرب؟". "بالحرب". قهقهت من جديد: "أنت، العاشق، تختار القتال؟" "أختار القتال ضدك في سبيل الفتاة التي أحب". طردتني، وقذفتني من أعلى الدرج: "كن أولاً بقواي، ثم تعال لتخوض الحرب معي". بعد ذلك، ذهبتْ تزقم الطفلة، لتسمن، ولتغدو وجبة شهية. بانتظار قدوم العاشق، أخذت السعلاء المرعبة تشحذ سكينها الكبير، كواجبٍ مقدس. وأنا أمضي من تحت نافذة رشا المغلقة، سمعت صرخاتها، ولم أفعل شيئًا!
ناديتها في الليل، صرختُ، وبكيت من الحَنَق عليها. كنت أريد لصرخاتي أن تكون صرخات كل المحبين اليائسين، ولدمعاتي دمعات كل أرامل العالم. كنت أعض مخدتي خوفًا من أن أوقظ النيام من جيراني في ساعة جِدّ متأخرة من الليل، خشيةً من أن ينهضوا من أجل المجيء لحضور موتي الصوري. كنت أراه يقترب، هذا الموت التقديري، يقترب، بتنبهٍ وافتتان. سأموت ببطء، كآميديه في الإيسكوريال، لكن رشا لم تكن قرب سريري مثلما كانت الأميرة إيزابيل قرب سرير الأرخذوني. لم أستطع أن أفعل شيئًا آخر غير تخيلها قريبة مني، كل ما كان باستطاعتي. كانت لها عينان مفتوحتان، وكان رأسها على المخدة المجاورة. كانت تشخص ببصرها إليّ، فسقط القفص عليها. شلتني هذه الرؤيا الزائفة. كانت الطبيعة معتقلة، الفضاء مقيدًا، الجمال مدنسًا. نزفت روحي.
نهضت لأكتب لها كلمة أبرر فيها كل ما كان في حقيقته زائفًا، دائمًا الزائف، أبدًا الكاذب، الزائف، الكاذب، الباطل: أني لا أستطيع إنقاذها من عادات وتقاليد بلد أنا عنه غريب، أني وحيد، لا سلطة لي ولا قوة، لا أستطيع أن أفعل شيئًا لها. أمها امرأة فذة، ولكن أنانية، الهيمنة المشخصة لسعلاء تجترئ على الزمن. رجوتها أن تفعل شيئًا لذاتها، أن تتمرد. أطنبت عليها أن تكون ذاتها، أن تتحرر كما فعلت أختها. قَبَّلْتُ يديها. أردتها أن تصرخ، نعم، أن تصرخ، أن تبرز مخالبها، أن توجعهم جدًا كيلا تتوجع أبدًا. قلت لها في الأخير الوداع، وداعًا زائفًا.
يوم السبت التالي، ذهبت مباشرة إلى مكتبها، فوجدته موصدًا. أخذتْ أسبوعًا واحدًا كعطلة، فاتجهت إلى مكتب زميلتها. لم تكن هناك، هي كذلك كانت في عطلة. حلت محلها آنسة قالت لي إن رشا مددت عطلتها ثلاثة أسابيع، فكيفني سأتعامل مع غرائزي، وأولها الغريزة الجنسية؟ ارتقى ثدي رشا عرشًا، في مملكة السماء، وأذلني إذلال الآلهة. كاد يجن جنوني. كل هذا شيء حقيقي لا يحتمل. كل نجوم العالم كانت سوداء في رأسي. كل الأفكار. كل الفرضيات. كل الافتراضات. كل هذا، ما كان أحد آخر، من ورائه، غير أمها. كانت تريدني أن أنساها. مزقت رسالتي، وكتبت أخرى، أحرض فيها رشا على التمرد، ضد أمها. كان علي أن أكتب الفاجعة على طريقتي، فأحتملها. كان علي أن أبتكر شيئًا أخر غير الصدق، فأروضه. كان علي أن أقطع حلمة الثدي، ليكون لي الثدي. قلت لها أنا لا أصدق كلمة واحدة عن خطوبتها، وهي قصة ملفقة. في المرة القادمة، فلتكذبا، هي وأمها، كذبة معقولة. كررت عليها التمرد، التعهر، الاستبداد، ولكن باستعادة صورتها، وهي حبيسة في القفص الذهبي، كنت أعرف أنني لن أستلم أي رد إيجابي، فالتمرد لم يكن التمرد، والتعهر لم يكن التعهر، والاستبداد لم يكن الاستبداد، ورشا لم تكن رشا.
التمست عون رشاد رشد، ليعطيها الرسالة. كي أشرح له حالي، نثرت بين يدي الحقيقة كما يفهمها هو، بعض الصور الزائفة كما أفهمها أنا: حبي مِجذافٌ تالفٌ، قلتُ، ورشا بحرٌ من وحل. غدا تعيسًا بقدر ما كنتُ تعيسًا، كان يحبها هو أيضًا، كان يدبج عملاً في الفلسفة عنها. سمعته يقول إن أرسطو قد كتب قبله عنها كتابًا. غدت رشا الطريق الاضطراري إلى بلوغ المعرفة. غير أنها كانت تعيش في زمن آخر، كانت تتكلم لغة أخرى. كنا نتكلم بخلجاتنا وانفعالاتنا، بينما هي، كانت تتكلم بجسدها وظلالها. كانت جناحًا كسيرًا في قفصٍ ذهبيّ، وكنتُ آملُ أن أعود معها إلى جزيرة يقلد الإنسان فيها أصوات الظباء. لهذا السبب على التحديد، كلفتُ رشاد رشد بإعطائها رسالتي.


يتبع الفصل السابع من القسم الثالث