صراع العصور وحوار الأديان


عصام الخفاجي
الحوار المتمدن - العدد: 4737 - 2015 / 3 / 3 - 14:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     


كان موقفا شجاعا أن يقول الرئيس الأمريكي أوباما أن استخدام الدين لتبرير الإرهاب ليس حكرا على المسلمين، مذكّرا بأن الصليبيين استخدموا المسيحية لتبرير غزوهم للشرق. مثل هذا الإستشهاد بات مألوفا للمتلقّي العربي لكنه كان صادما لمستمعيه الأمريكان. ولابد أنه ومساعديه كانوا يتوقعون ردود الفعل العنيفة التي جوبه بها من اليمين المتمترس وراء الحزب الجمهوري والتي وصلت إلى حد اتهام عمدة نيويورك السابق له بأنه لايحب أمريكا ولا الشعب الأمريكي. هذه، على عكس اتّهامات الخيانة التي نستخدمها بسلاسة لوصم خصومنا، تهمة نادرا ما استعملها الغربيون لوصم خصومهم، ناهيك عن رؤساء دولهم، بها. لكن كثيرا من المعلّقين والسياسيين من شتّى الأطياف، ممّن أثنوا على الرئيس، أثاروا سؤالا بسيطا/ معقّدا: نحن نخوض حربا قد تتطور إلى استخدام قوات برّية تعرّض جنودنا للخطر. كيف نحارب عدوّا لانعرف إسمه، وما الذي نقاتل من أجله؟
تصادف في الوقت نفسه نشر مقال في مجلة أتلانتك الشهرية من قبل كاتب لاينتمي إلى معسكر اليمين بعنوان "ماذا تريد داعش حقّا؟" أثار اهتماما واسعا محوره أن داعش حركة وحشية تناهضها الغالبية الساحقة من المسلمين، لكنّها تظل حركة إسلامية.
فكيف تعاطينا، ونتعاطى مع هذه المعضلة؟ نصف أشرطة الأخبار في قنواتنا التلفزيونية تستهلكها عبارات "شنّت قوات التحالف غارات على المنظمة التي تسمّي نفسها دولة العراق والشام..."، "قامت المنظّمة التي تسمّي نفسها...". نفينا وصفها لنفسها، لكننا لم نتجرّأ على توصيفها. والعجز عن توصيفها ليس مشكلة لغوية بالطبع. هو، بالأحرى، هروب من الإعتراف بحقيقتها وعجز عن معرفة سرّ جاذبيتها لحوالى ثلاثين ألف مقاتل وأضعاف ذلك من مبايعي البغدادي خليفة وأضعاف هؤلاء مجتمعين ممن يرون أن العيش في ظل حكم داعش قد يفرض عليهم قيودا قاسية لكنّه يوفّر لهم شروط حياة مقبولة. ليس ما نعانيه عجزا، إذن، بل هو خوف وهروب من مجابهة أنفسنا ومجابهة واقعنا. يترتّب على ذلك كلّه، وأهم من ذلك كله، السؤال الذي تحاشينا ولفّقنا الإجابة عليه: إذا كانت داعش، هي المنّظمة التي تسمّي نفسها... وإذا كانت تتفّذ ماتراه تعاليم الإسلام "الحقيقي" تجاه غير المسلمين والمرتدّين عن الإسلام، وإذا كنّا نستنكر تعاملها، وتعامل كل الجهاديين بدرجات متفاوتة، مع مسيحيي وأيزيدي المناطق التي استولوا عليها، فهل أننا نساعدها في ذبحهم عبر التذكير بأن الصليبيين فعلوا ذلك قبل عشرة قرون؟
جرّبنا حوار الأديان عبر مئات المؤتمرات الوردية التي كان معروفا أنها ستبتدأ بتبادل القبلات وتنتهي بتبادل القبلات حين يصدر بيان ختامي يعلن أن المسيحيين عاشوا مئات السنين مع إخوتهم المسلمين في سلام وإن القرآن كرّم السيّد المسيح وأمه مريم. لكن الجهاديين وحتّى كثير من المساهمين في تلك المهرجانات يعرفون أنهم يمارسون عملا دبلوماسيا، ويعرف كل طرف يقبّل الآخر أن شريكه في المؤتمر خصم من اللياقة التعامل معه بطريقة دبلوماسية.
اعتقدَ محاوري في قناة "العراقية" شبه الرسمية أنه يثير سؤالا استفزازيا حين ذكّرني بمقال كتبته قبل سنوات في "الحياة" يقول أن آخر من يحقّ لهم الخوض في حوار الأديان هم رجال الدين. جوابي كان بسيطا: هل سمعت برجل دين ينتهي من حوار بالإقرار بأن دينه أخطأ هنا ليجيبه الآخر بأن ديننا أخطأ هناك؟ أظنّ أن المقابلة لم يتمّ بثّها.
تعليلي للأمر شديد البساطة. الحوار المطلوب (ولنسمّيه باسمه الحقيقي/ الصراع المطلوب) الذي تأخر كثيرا، ، هو بين سلطاتنا الدينية وسلطات حكمنا. هو صراعنا الداخلي، هو حكّ جلدنا. ما الذي سيتغيّر إن أقرّ البابا بخطـأ تعليم أو نصّ مسيحي جوهري؟ لن يفعل البابا ذلك بالطبع، لكنه سؤال افتراضي. سيحدث هزة في قناعات كثير من المسيحيين. سيدفع كثيرين إلى الإنتقال من مذهب مسيحي إلى آخر. سيزيحه الكرادلة عن عرش البابوية. لكنّه لن يقود إلى إعدامه، ولن تخرج مظاهرات صاخبة ضدّه، وأهم من ذلك كله، لن يخرج رئيس دولة ذات أغلبية مسيحية بمرسوم يدين أو يؤيد ما فعل البابا. ما الذي سيحصل لو أن شيخ الأزهر أو المجتهد الشيعي الأعلى قام بخطوة مماثلة؟ يعجز خيالي عن تصوير العواقب.
حُسم أمر علاقة الدين بالدنيا في العالم المسيحي منذ قرون. وكان حسمه سياسيا لا دينيا. لم تنته الحروب الدينية بين المسيحيين بمعاهدات حوار أديان ولا بإقرار أحقيّة هذا المذهب أو ذاك في تمثيل المسيحية "الحقيقية" ، بل بالقبول بتصارع الأديان، حتى إذا استمر لآلاف السنين في ظل دول قومية تقف على مسافة متساوية بين الأديان والمذاهب.
الصراع سياسي لا ديني إذن. والصراع ليس بين متحاورين مسلمين وبين مسيحيين أو يهود أو بوذيين. هو صراع سياسي بيننا وبين أنفسنا.
صراعنا مع أنفسنا هو، كما يقول التعبير الإنكليزي، "قوله أسهل من فعله".لأن صراع مسيحيي الغرب كان عنصرا أساسا في صراع الحداثة مع ما قبلها. عظيمة هي صرخة المدافعين عن البشاعات المرتَكبة بحق ألأيزيديين والمسيحيين في العراق وسوريا. لكن وعي كثير من مقاتلي داعش هو المرآة المعكوسة لوعي داعش، ولا أقصد هنا بالتأكيد مساواة بشاعات داعش وتفسيرها لممارساتها بما يقابلها لدى خصومها. ليس ثمة مواطن فرد يُعاقب على جريمة الإنتماء لداعش، ثمة عشيرة أو بلدة لابد من عقابها. هي مرآة معكوسة لداعش: أنت لست فردا متّهما بجريمة. أنت إبن طائفة أو منتميا لدين. أنت لست فردا مسؤولا عن جريمة، بل أنت إبن قطيع مجرم بالوراثة.
وذلك هو جوهر الصراع مع داعش، كما أراه. نحن لا نرى إلى الصليبيين أو حتى إلى ما هو أقرب تاريخيا مثل محاكم التفتيش الإسبانية التي فرضت على المسلمين واليهود (بدرجة أقل بشاعة بالتأكيد) ما تفرضه داعش على من تكفّرهم، من منظار يضع الجرائم في سياق تاريخي. سياق تاريخي كان يرى الفرد جزءا من قطيع هو قطيع اليهود أو المسلمين. هو تاريخ انقضى بعد عبور الغرب إلى الحداثة حتى وإن بقيت بعض عناصره كامنة في وعي المتدينين.
صراع حداثتنا مع ماقبلها يعني أن نقاتل داعش أو غيرها من حركات الجهاد باسم الوطن لا باسم تنقية الدين من منحرفين عنه لأن هكذا صراع هو ما يرسي أسس الطائفية إذ ترى كل طائفة المنحرفين عنها منحرفين عن الدين. وصراع حداثتنا مع ماقبلها ليس صراعا حول نصوص قرآنية يتبارى كل طرف في إثبات تمسكّه الأكثر بها وتفسيرها وفقا للشرع. لقد فبرّكنا تاريخنا وزيّنا فصولا وحشية فيه عوض مناقشته وتأمّله في سياقه التاريخي ومجابهة تلك الفصول بالنقد والإدانة فجاءنا من استحضر هذا التاريخ ليعلن أنه الأكثر أمانة في اتّباع ممارسات تعود إلى ماقبل ألف وخمسمئة سنة لاباعتبارها ممارسات كانت مألوفة في حروب كل الحضارات، بل باعتبارها جزءا من التراث الإسلامي. من العبث أن ندين تدمير التراث الآشوري وغيره في متحف الموصل من خلال المناظرات حول كون تلك الصروح المشكّلة لذاكرة البشر الجماعية أصناما أم لا، بل من خلال محاربة أولئك الوحوش باسم الحضارة الإنسانية.
والإلتحاق بالحضارة الإنسانية والإنتماء إلى العالم لايتم إلا عبر الحداثة. فليس الجهاد عولميا، كما درجت موضة الكتابات منذ بضع سنوات، لأن العولمة لاتعني استخدام وسائل التواصل الإجتماعي ولا تسيير طائرات من دون طيّار ولا إخراج أشرطة سينمائية ذات درجة عالية من الحرفية. العولمة تعني أن ننظر إلى إنجازات الحضارة من خلال منظومة قيم مشتركة فلا يرى أحدنا برج التجارة العالمي رمزا للإستكبار ويراه الآخر مكاتب ومتاجرا يكسب عيشه فيها، ولايرى أحدنا الثور الآشوري المجنّح صنما ويراه آخر إنجازا بشريا كبيرا.
الحداثة والعولمة تعني، باختصار، التشارك في قيم أساس. وعلينا الإعتراف بأن معظم الإسلاميين والقوميين لايزالون عديمي الحس بالإنتماء للبشرية.
الصراع مع داعش والجهاديين ليس صراعا بين دين ودين ولابين تيارات داخل الدين. إنه صراع بين عصرين، بين عقليّتين تنتمي كل منهما إلى عصر.