أبو بكر الآشي القسم الثالث الفصل الأول


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4737 - 2015 / 3 / 3 - 11:15
المحور: الادب والفن     


ضقت ذِرْعًا عن المقام في عمان بعد كل هذا الانتظار، أكبر انتظار في زمننا، لم أضطر إلى البقاء، ولم أعد قادرًا على الانتظار أكثر. أبو عبد الله العوفي لا يبدي أقل اهتمام باستقبالي، وبُعدي عن زوجتي وبناتي يثقل قلبي، والأصدقاء الذين ظننت واهمًا أنهم لم يتبدلوا، لم يتبدلوا فقط بل وتبددوا أشتاتًا، وذهبوا أيادي سبأ، لا يسعفهم الحاضر، ولا الماضي يمكنه جمعهم، أو الحيلولة دون استفحال تبددهم.
ولما كنت لا أريد العودة إلى مدريد خائب الأمل، كما حصل معي في المرة السابقة، ارتأيت العمل، كما اقترح رشاد رشد الآشي، في إحدى الجامعات، وممارسة مهنة التلهي بالوقت، بانتظار أن أجد حلاً لمشاكلي. عندما أطلعت بسام المنصوري على ما ارتأيت، قال لي: "هكذا ستشغل نفسك بالمحاضرات، ولن تتركنا بين عشية وضحاها، البقاء في هذا البلد يحتاج إلى الاعتصام بالصبر، أما لو كنت من الذين يفقدون شجاعتهم بسرعة، فلن تصيب نيلاً."
بانتظار تعييني، كان بسام المنصوري يأخذني في الليل إلى أماكن يبحث فيها عن كل شيء مرغوب فيه أو فيه غرابة: تلفون ريفي لأوائل ملوك الصحراء، علبة سجائر صدفية لنابليون الصغير، ضفيرة شعر طبيعي لأميرة ملكية. كان كاتب الافتتاحية الشهير يريد تسكين أكبر الأشواق لهيبًا: الشوق إلى حبيبته المسافرة. كنا نجوب شوارع جبل الحسين طولاً وعرضًا، ونتأنى قرب بسطات الباعة العراقيين التي تضم شتى أنواع الغرائب والعجائب. كان رفيقي يتناولها واحدة واحدة، يقلب فيها النظر بأصابع راجفة، ويسأل عن سعرها، ثم يتركها، ويذهب بعينيه الوثابتين إلى بسطة أخرى.
كان الباعة يعرفونه جيدًا، فهذا قد باعه سُوار ساعة من حراشف سمك دجلة، وذاك موسى سومرية، وذلك عقربًا محنطًا من عهد الكلدانيين. كانوا ينادونه باسمه، وهو يسأل بأُلْفة إذا كانوا يخبئون شيئًا فريدًا، حديثًا أم قديمًا، فيُخرج واحد من جيبه كاميرا يابانية صغيرة ملفوفة بمنديل حريري، ويريه ثانٍ ساعة رملية يدعي أنها أول ساعة صنعت في زمن هارون الرشيد، ويعرض ثالث مخطوطًا أصفر مهترئًا يقول إن بين دفتيه التوراة بخط سيدنا موسى. لم أُوْلِ كل هذه الأشياء اهتمامًا كبيرًا كما أًوْلَيْت أصابع بسام المنصوري التي كانت تجسها، ونظرته الوثابة إليها. كنت أراه كالطائر الدوري المنقب عن خطرٍ وهميّ محدقٍ به من كل جانب، وكانت تنطبق حركة عينيه ويديه في لحظة إرجاعها، لتتوقد عيناه بحثًا عن شيء آخر أكثر غرابة. حتى أن أصابعه كانت تتوقد، فألمح على أطرافها هذه المتعة المتخيلة التي اسمها الرغبة.
في إحدى الليالي، أراد بسام المنصوري الذهاب بي إلى "البلد"، إلى مكان لم أر مثله في عمان. كان يريد أن يقتل الوقت بعيدًا عن حبيبته، فلم يكن يحتمل غيابها. أخذنا سيارة أجرة، والهواء يهب علينا عليلاً. لم تزل الدكاكين مفتوحة، وواجهاتها مضيئة. أوضح صاحبي أن كل شيء مفتوح لأنه يوم الخميس، ومن العادة أن يسهر الناس إلى ساعة متأخرة، بما أن الجمعة يوم عطلة. أوقف سيارة الأجرة في وسط البلد، نقد السائق، وذهب ليبرغي يد نظارته. انشغل النظاراتي بشغله، وبسام المنصوري بتجريب بعض النظارات الشمسية. أعجبته واحدة من توقيع كريستيان ديور، لكنها كانت كبيرة قليلاً، فوعده صاحب المحل بإحضار واحدة غدًا أو بعد غد.
مشينا على الأرصفة المتصدعة، في قلب الدمار العادي، وقطعنا الشارع الرئيسي إلى الجامع الكبير.
- منذ متى لم تأت هنا؟ سألني بسام المنصوري.
- منذ قرون، أجبت.
ذاب صديقي في جمهرة من الجمهرات الصغيرة الضائعة في الزوايا المعتمة لساحة الجامع الكبير. لمحت أيادي البائعين العراقيين، وهم يخرجون من جيوبهم أشياء ملفوفة بعناية: ساعات "رادو" تتوهج في العتمة. سمعت بسام المنصوري يسأل عن أسعارها، وهو يعاينها بأصابع الفضول، وبعينيه المتوقدتين بالرغبة.
- خمسمائة دينار، هذا كثير! قلت له.
- في الدكاكين، رد، تشتريها بالآلاف، لكنك لست متأكدًا إذا كانت مقلدة أو إذا كانت بعض قطعها مبدلة.
- وكيف تعرف؟
- لن أعرف.
- لا أحد يعرف في عمان.
- بلى.
- لا أحد يهمه أن يعرف.
- الآلهة.
- الآلهة على صور ناسها.
فجأة، طلعت علينا صرخة من زقاق يحاذي الجامع الكبير:
- الله ورشا على الأعداء! (*رشأ ولد الظبية يقال رشا دون الهمزة وهو اسم الفتاة في الأردن).
برز وجه الصارخ الأعمى من الظلام، وهو يطرق الأرض بعصاه، ويسحب من ورائه ساقه المشلولة. ملامحه انطفأت، شعره ارمدّ، غزير حول رأسه، أصلع في وسطه. كان بطول قامتي، وإحساس لدي بمعرفته، بمشابهته.
- هذا الرجل يشبهني، همست في أذن صديقي.
لكنه لم يبال بما أقول له: طلب من بائع أن يجد له ساعة ذات أوصاف معينة. ومن جديد، عاد الرجل يصرخ:
- الله ورشا على الأعداء!
أخذ الباعة يسخرون به، والبائع الذي كان يساومه بسام المنصوري ضربه بقدمه، فانفجروا كلهم ضاحكين.
- إنه مجنون رشا، قال بسام المنصوري، وهو يسحبني من ذراعي.
- كيف؟!
- يسمونه مجنون رشا، فتاة بعمر بناته، أحبها حبًا جنونيًا حتى أفقده عقله!
صعب عليّ حاله، وأثارني سلوك الآخرين معه. بحثت عنه بعينيّ، غير أني لم أجده، كان قد اختفى. سمعت صرخته المختنقة تأتي من زقاق مظلم. تركنا ساحة الجامع الكبير لنعود إلى الرصيف المقابل. حدثني بسام المنصوري عن الرجل العجوز:
- هل تعرف أنه كان طبيبًا فلكيًا وعالمًا؟
- وكيف استطاع الوصول إلى هذا الوضع؟
ابتسم ابتسامة سوداء ساخرة، مريرة، قبل أن يقول:
- الحب!
شردت بأفكاري، عدت أرى اللطخات الدموية للحب، ثمرة عهد التفتيش قبل مئات السنين، وعهد "الجنت" العسكرية ليس ببعيد، عاد إلى ذاكرتي الوجهان العاشقان لآميديه وإيزابيل عندما كانا في الإيسكوريال، ولم أزل أسمع ضحكاتهما.
- لقد عاني كثيرًا، المسكين!
لم يجب بسام المنصوري، دخل دكانًا للأحذية القديمة الكثيرة المعلقة في كل مكان، في كل مكان، فوق رؤوسنا وعلى الجدران، في كل مكان، في كل مكان، أحذية قديمة معلقة في كل مكان، في كل مكان، في كل مكان. راح يأخذها واحدة واحدة، ويقلّبها من كل النواحي، وأنا أشعر بالضيق أكثر فأكثر. فكرت فجأة في أبي بكر الآشي: وإذا كان هو؟ إذا كان الحب مدمرًا إلى هذه الدرجة؟ وحبه لامرأة حاكم مراكش، ماذا أصبح؟ ولماذا يلح أخوه، رشاد رشد، على ضياع كل أثر له؟ تركت صاحبي في دكان مجاورة، يتضمخ بعشرات العطور، على رسغه، وظاهر يده، وباطن يده، على ذراعيه، على كميه، على منديله. حملت كل الأسئلة وكل الأحاسيس في العالم، وذهبت أقتفي آثار الأعمى المجنون، من الجهة التي غاب فيها. كنت خائفًا من أن يكون كل هذا سرابًا، كما كان في الصحراء، ذلك اليوم. ربما كنت أحلم مفتوح العينين، ورغم ذلك، كنت مصممًا على الذهاب بحثًا عنه في الزقاق الدامس.
ترددت عند فوهته، وأنا أشعر بالتهديد المحوّم جناحَ صقرٍ في الصمت المطلق، في تلك الساعة المتأخرة. دفعني أحدهم بكتفه، وسألني عمن أبحث في دنيا العجب.
- الأعمى المجنون الذي ذهب من هنا، قلت.
دفعنى الرجل إلى ناحية أشد ظلمة، وهمس في أذني:
- اترك ملائكة هذا المكان يمضون بسلام!
جعل الخوف قلبي يخفق خفق الأشرعة في فم الريح، أردت مغادرة المكان، إلا أن الرجل أمسكني من ذراعي.
- إذا أردت أن تعرف شيئًا عن مجنونك، قال، اشتر مني هذا!
ووضع في يدي شيئًا جسسته بأصابعي، كان ساعة. حك الرجل عود ثقاب أسقط في هالته كالقديس وجهه، فعرفت فيه البائع الذي كان بسام المنصوري يساومه، هو الذي ضرب العاشق المجنون بقدمه.
- هل أعجبتك، الساعة؟ سألني.
- أعجبتني، قلت، حتى وأنا لم أنظر إليها.
شدني التعبير الشيطاني لوجهه، قال لي ثمنها، فنقدته. استعد للانسحاب، فقبضت عليه من خناقه.
- إذا لم تحك لي عن مجنون رشا شيئَا، كما وعدتني، هددتُ، سلمتك للشرطة.
تردد، ولهث:
- من الأفضل ألا أخبرك بشيء، قال بنصف صوت، وإلا جلبتَ إلى نفسك المتاعب.
- قل لي كل شيء، المتاعب، سأعرف كيف أواجهها.
تردد من جديد، ودلى لسانه ككلب ظامئ.
- مجنون رشا لا يوجد، إنه بدعة، كذبة وقحة، باح لي. هذا الرجل رجل مباحث، لو أردت أن تعرف، وهو مجنون وعاشق مثلما أنا شجاع وشريف.
واختفى.
ناديته، فلم يجب. أخذت أخبط القدم في الظلام، يمنة فيسرة ثم يمنة. طرقت بابًا، فانفتح. اتجهت إلى ضوء يتسلل من نافذة في الوجه المقابل. لم يكن أحد هناك. كانت هناك ضفدعة تنظر إليّ بعينيها الجاحظتين. بعد قليل، فتحت فمها، وخرج منه رأس كما يخرج من مَهْبِل. تلاه جذع، فبطن، ثم الجسد كله، فإذا بالرجل النصاب أمامي. وهو يراني متجمدًا من الارتعاب أمام هذه الظواهر فوق العادية، قهقه. طلبتُ منه إيقاف لعبة الغميضة معي، فقال ليس كل هذا غير سحر، يختفي من ورائه العالم العلامة أبو بكر الآشي، أخو الجن.
- إذن هو، صحت.
- في هذا المكان، هو ومجنون رشا شخصان مختلفان، وفي غير هذا المكان من الممكن ألا يكونا غير شخص واحد.
لاحظ حيرتي، فسارع إلى سؤالي:
- أيهما تريد أن ترى؟
- أريد أن أرى أبا بكر، وأن أكلمه.
- تعال!
سار، فسرتُ. دخل، فدخلتُ من ثقب في جدار يؤدي إلى حديقة فيها شجرٌ فضيّ، يأتلق.
- اذهب إلى آخر شجرة هناك، وانتظر مقدمه، قال لي الرجل الغريب.
ذهبتُ، وانتظرتُ مقدم أبي بكر حتى غفوت. رأيته، عندئذ، في منامي، وهو يرصد الأفلاك، وقربه فتاة صهباء أجمل من بدر، يقبلها من فترة إلى أخرى، ويعود، بعد ذلك، إلى راصدته. جس ناظوره بيد يمنى انقطعت سبابتها، وبدعوة من حركة أصابعه الأربع، اقتربت منه أسأله عن قصته التي يحكي فيها كل الناس. نفى أن تكون له قصة، وراح يقبل الفتاة الصهباء.
- لو لي قصة، قال، لهي قصتي مع الجمال! وهذه الفتاة هي الجمال. ولو لي جنون، لهو قصتي مع الفِلاكة! وهذه الأفلاك هي الجنون.
أخذ مني الساعة التي اشتريتها من الرجل الغريب، وحطمها.
عندما فتحت عينيّ، وجدتني مع الفتاة الصهباء، فلم أمسك نفسي عن طبع قبلة على شفتيها. في اللحظة ذاتها، تحولت إلى ضفدعة راحت تنطنط وتنقنق.
سمعت الرجل الغريب، وهو يقهقه من ورائي.
- هل لم أزل أحلم؟ سألت.
- لا، أكد. أبو بكر الآشي ينتظرك تحت، ليحدثك عن مجنون رشا.
أشار إلى درج تحت أرضي، أخذني من ذراعي، وجعلني أنزل من أمامه.


يتبع الفصل الثاني من القسم الثالث