بورخيس كاتب على الحافة 8: مسألة النظام


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4733 - 2015 / 2 / 27 - 23:12
المحور: الادب والفن     

بورخيس كاتب على الحافة 8: مسألة النظام
(فى فصول)
تأليف: بياتريث سارلو
ترجمة: خليل كلفت
بياتريث سارلو (1942-) ناقدة أدبية وثقافية أرجنتينية. ومنذ 1978 أدارت المجلة الثقافية وجهة نظر، أثناء فترة استمرارها على مدى ثلاثة عقود، وكانت أهم مجلة للنظرية الاشتراكية في الأرجنتين وقد أُغلقت بعد تسعين عددا طوال ثلاثين عاما. تفتح مقالات سارلو الكثيرة في مجلة وجهة نظر ومجموعة كتبها إمكانيات جديدة للقراءات، أكثر مما تقدم المزيد من القوالب النظرية أو النماذج النقدية.
*****
الفصل السادس
8: مسألة النظام
تملك القصة القدرة على أن تبني نظاما أو معنى في مواجهة عالم مختل النظام، ليس فقط بتفسير الواقع عن طريق فك شفرة إشاراته الخفية، على طريقة الأيديولوجية الرومانسية، بل أيضا بتحدي منطقه السببي والمكاني والزماني بنموذج من نوع مختلف. وبهذا المعنى فإن القصة الفانتازية- بعيدا عن أن تكون خطابا ثانويا إلى حد ما- تبقى استجابة مستقلة للواقع. وتوقع القصة الفانتازية الاضطراب في الواقع ليس من خلال التناقض أو الاختلاف. وهي تؤكد التوتر الماثل في فعل الكتابة، عندما تنساق الكتابة بعيدا عن الخطاب الواقعي الذي لا يمثل، بطبيعة الحال، سوى طريقة ممكنة واحدة لعقد علاقة بين الفن والحياة الاجتماعية. ورغم أن الواقع والقصة يخضعان لمنطقيْن مختلفيْن إلا أنهما يتقاطعان عند نقطة ما- كما هو الحال، على سبيل المثال، عندما يجد قاريء نص من النصوص أن صراعا ينشأ بين هذين المنطقين، أو أن شيئا ما في منطق الواقع يتناقض مع منطق نص من النصوص، أو أن منطق نص من النصوص يبدو أكثر إقناعا أو تماسكا من منطق الواقع.
وعندما يبدو أن التاريخ لا يقدم ملاذا للقيم (عندما يتعرض التاريخ للهجوم الضاري من جانب الحروب أو أعمال عامة لا إنسانية أو لا أخلاقية)، يمكن للأدب أن يزود بنموذج، كثيرا ما يكون رهيبا كذلك الخاص بالتاريخ، غير أنه نموذج لا مناص من أن يحتفظ بفضل طبيعته القصصية بمسافة تهكمية، أو ﭙ-;-ارودية، أو جمالية، أو فلسفية، من كل ما يتعرض للخطر في التجربة المباشرة أو التأمل المباشر.
وقد انصرف بورخيس دائما عن أية مناقشة مفتوحة للسياسة المعاصرة في أدبه، ومع ذلك فإن مسألة الطرق التي يفرض بها النظام نفسه على جماعات بشرية يمكن العثور عليها مُفْرَغة في بنية حبكاته. حقا إنه يدرس الشروط الأيديولوجية والثقافية للمجتمع حتى عندما يوجز معالم عوالم خيالية تنتمي بصورة مشروعة إلى أنقى تقاليد الأدب الفانتازي. والحقيقة أن قصص "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس"، و"اليانصيب في بابل"، و"مكتبة بابل"، وهي القصص التي بحثناها في الفصل السابق، تقدم صورا بديلة للمجتمع. والواقع أنها كوابيس تشير إلى أن التنظيم المؤسسي يقوم على القوة العمياء، أو القرارات المتعسفة، أو الأساطير. وكثيرا ما يجري بحث مسألة القبول بالنظام، وكذلك الشروط التي تنتج الفوضى عندما يكون ذلك النظام، لسبب ما، ضعيفا أو غائبا.
كتب بورخيس الكثير جدا عن العنف والانتقام الفردي. وتثبت قصص الحواف الحضرية وإعادة كتابته للتراث الجاوتشي أن العنف الفردي ضروري حيثما تسود مجموعة من قواعد الشرف وحيثما لا يكون القانون الرسمي قد وطد عالمه. وفكرة العنف راسخة الجذور بعمق في طبعته الخاصة من الثقافة الكريولية: إنها معاشة كقدر أمريكي جنوبي، فقد ظلت على مدى عقود تعرض المجتمع للخطر غير أنها منحته أيضا معنى متماسكا. والحقيقة أن المجابهة العلنية لرجلين في مبارزة، في سياق طقس يقبله كلا الطرفين كقانون، تحيلنا إلى قيم يمكن الحكم عليها بأنها بربرية غير أنها، في الوقت ذاته، تدعم درجة من الوحدة حيثما لم تنجح لا الدولة ولا مجموعات قواعد رسمية في تنظيم علاقات اجتماعية. والمبارزة تحدد ليس فقط ما كانه مجتمع، بل أيضا ما لم يكنه، مُثْبتا أنه لم تكن هناك أية إجراءات رسمية في وضعها الصحيح لتقدم بديلا عن مجابهة بين رجلين مسلحين وضعا ثقتهما في مجموعة قواعد الشرف في حل نزاعاتهما أو في دعم العدل.
وفي النصف الأول من القرن التاسع عشر، كان المجتمع الأرجنتيني يعاني آثار حروب الاستقلال، التي أطاحت بالنظام الاستعماري القديم فأطلقت العنان بذلك لقوى متنافسة حاربت كل واحدة منها الأخرى على مدى عقود قبل الاتفاق على ميثاق دستوري في 1953. وإلى ذلك الحين، خاصة في الريف، كان العنف الفردي أو الجماعي يقوم بالمهام التي عجزت عن القيام بها دولة ضعيفة للغاية (أو بالأحرى دولة قومية غير قائمة). وكانت الصراعات في الحكومات الإقليمية عقبة أمام فرض إجراءات رسمية كفيلة بتحويل العداوات الفردية إلى صراعات منظمة. وفي هذا العالم الكريولي، كان لا مناص من أن تحل أسطورة الشجاعة الشخصية محل أشكال أخرى، أكثر "تحضرا"، من السلوك العام والقيم الملائمة له.
رأى بورخيس أن هذه المشكلة قضية محورية في الثقافة الكريولية. ومن خلال استكشاف أساطير هذه الثقافة أوضح بصورة غيرمباشرة أن هذه الأساطير إنما جاءت من، وتغذت على، شرط تاريخي كان فيه المجتمع ضعيفا، ومؤسسات الدولة معدومة، وكانت الصراعات تُحَلّ بالتالي عبر العنف. وفي "قصيدة حدسية" Poema conjetural، يتخيل بورخيس الأفكار الأخيرة لفرانثيسكو نارثيسكو دي لاﭙ-;-ريدا Francisco Narcisco de Laprida، الرجل الذي وقع وثيقة الاستقلال الأرجنتيني عن إسپانيا في 1816. وتكشف هذه الأفكار عن التناقض بين المفاهيم المجردة عن العدل والأشكال الملموسة للعنف الكريولي. وفي 1829، وخلال فترة حادة للغاية من الحرب الأهلية، يُقتَل لاﭙ-;-ريدا على أيدي المونتونيروس monteneros، وهم عصابة جاوتشو محاربة تفوَّق أعضاؤها في فن القتال بالسكين والرمح:
وفرانثيسكو نارثيسكو دي لاﭙ-;-ريدا،
أنا الذي درستُ القانون الكنسي والمدني،
الذي أعلن صوتي الاستقلال،
استقلال هذه الأقاليم الوعرة، يُطاح بي،
مغطى بالدم والعرق، بلا خوف أو أمل،
ضائعا، أفرّ جنوبا عبر أبعد الضواحي ...


كنت أتوق إلى أن أكون شيئا آخر،
رجل أفكار، كتب، رأْي،
والآن سأرقد في مستنقع تحت السماء المكشوفة.
ومع ذلك، تجتاحني بطريقة تستعصي على التفسير
فرحة مبهمة. لقد لاقيتُ قدَري،
قدَري الأمريكي الجنوبي الأخير.(1)

وكثيرا ما أشار بورخيس إلى أن الفرع الكريولي من أسرته كانت له جذوره في أرجنتين القرن التاسع عشر هذه، وإلى أن أجداده كانت لهم معرفة تتصل بعالم بدائي من مربِّي الماشية وقادة الفرسان كان يسوده العرف والقوانين غير المكتوبة للعنف: نوع من ديستوﭙ-;-يا dystopia بطولية، بدائية، ريفية. وكان هذا مجتمعا لم يخضع فيه استخدام النفوذ والقوة المادية لسيطرة التنظيم المؤسسي، وناهيك باحتكار الدولة. وهنا ازدهرت أساطير الشجاعة والتحمل الذكوري كاستجابة ثقافية لبيئة اجتماعية. ولا يمكن لمثل هذا المجتمع أن يوجد إلا إذا كان هناك شكل ما من أشكال الفضيلة في الروابط الشخصية للتبعية، أو الخدمات الملموسة، أو الالتزامات المكفولة بعهود تقليدية، والولاء للزعيم الحاميpatró-;-n ، أو لزعماء آخرين. وبدون هذا النوع من الخضوع للقنانة bondage فإن المجتمع الريفي (حيث كان لمسئولي الدولة، إنْ كان لأيّ منهم وجود أصلا، سلطة أقل من ملاك الأرض الأفراد) كان سيتجه إلى أن يستحيل إلى فوضى. ومن المحتمل جدا أن يكون هذا أحد أسباب التراث الطويل من الإهانة السياسية الموجهة ضد التحديثيين في القرن التاسع عشر. وكان التحديثيون يلقبون بالفوضويين، المهرطقين، غير الشرعيين، العدميين، "المتوحشين" حقا، لأن الأفكار التحديثية عن الدولة والمجتمع قامت بتفتيت الروابط التقليدية التي حافظت على استمرار الحياة رغم عدم الاستقرار الذي أدى إليه الاستقلال وكذلك الحروب الأهلية التي خيضت بلا انقطاع تقريبا خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر. ورغم أن الروابط الأسرية لبورخيس ربطته بالتحديثيين بين النخبة فقد أدرك أيضا أن القيم التقليدية كانت تتعرض للتهديد، كما كان مدركا لهشاشة العلاقات المجردة التي تقيمها الحداثة عن طريق التقدم المادي والمؤسسات الجمهورية.
وكان البحث عن نظام اجتماعي وسياسي جديد هو الهدف الرئيسي للبرنامج التحديثي للقرن التاسع عشر. غير أن مثل هذا النظام لم يكن بالمستطاع إقامته من خلال المؤسسات لا غير: كان لابد من زرع مجموعة من القيم في سبيل منح الاستقرار لمجتمع هش ومفكك. وفضلا عن ذلك، كما سبق أن لاحظنا، فإن وصول آلاف المهاجرين في العقود الأخيرة من القرن العشرين عزّز الإحساس بنظام جديد، لكنْ بنظام بلا ثوابت. وفي بداية القرن العشرين، بدأ المثقفون يبحثون مصاعب، وليس فقط مزايا، أن تكون البلاد جديدة وفتية. ولأن الانتقال إلى جمهورية حديثة، تحكمها مؤسسات رسمية، أثبت أنه مؤلم وصعب، كان بوسعهم أن يلفتوا الأنظار إلى صلابة القيم الريفية التقليدية. ورغم أن أغلبهم امتدحوا الهيكل الرسمي للأرجنتين الحديثة فقد تخلل، في الوقت ذاته، أفكارهم عن المجتمع وإحساسهم بالمستقبل، إحساسٌ بعدم الأمان، ولم يكن هذا مجرد نتيجة لوجهة نظر رجعية أو نخبوية. وإذا كانت قلة قد نظرت إلى الوراء صوب الماضي كمصدر أو نموذج للحاضر، فقد كان يُنظر إلى هذا الماضي مع ذلك على أنه الزمن الذي كان فيه للمجتمع أبعاد معروفة وكان يجري فيه التشارك في القيم، ليس كنتيجة لمواثيق رسمية، بل لأنها نبعت من نفس التربة التي أنبتت الهويات المشتركة. ورغم أن النخبة بدت راضية بعملية التحديث (التي أتاحت ما بدا أنه فُرص اقتصادية لا حد لها تقريبا)، اكتشف المثقفون أن نفس العملية التي كانت قد خلقت الأرجنتين الحديثة كان يعيبها غياب الروابط الاقتصادية القوية. لقد غدا المجتمع مستقرا، علمانيا، مستقلا، برسوخ؛ غير أنه، كما هو الحال مع كافة المجتمعات الحديثة، كان أساسه المؤسسي والرسمي مجردا من الأصداء القوية للتراث والأسطورة.
وقد أكد بورخيس هذا الإحساس بالفقدان (أو الغياب) في أحد مقالاته الأولى: كتب قائلا إن ما تحتاج إليه بوينوس آيرس احتياجا ماسًّا هو الأشباح. ورغم أنه يمكن قراءة هذا التأكيد بطريقة تهكمية فإنه ينطوي أيضا على "سياسة ثقافية": عندما ترتدّ أساطير مجتمع تقليدي إلى ماض لا يمكن استرداده فإن آثار هذه الأساطير في الأدب تبني نظيرا ليس لواقع سابق، بل لنموذج مثالي يمكن لمجتمع أن يرى نفسه في إطاره. إن "الأشباح" تنطوي على أرض مشتركة وعلى إحساس بالانسجام مع الماضي. وفي مجتمع أدت فيه المؤسسات الحديثة القائمة على القانون المكتوب إلى تفتيت المعتقدات التقليدية والروابط "الطبيعية"، أتاح واقع اقتسام نفس "الأشباح"، بطريقة رمزية، إمكانية استرداد نوع الإدراك الثقافي العميق الذي تهدده جمهورية حديثة هي ذاتها ممزقة بالصراع.
وتنتمي مسألة كيف تجري إقامة، أو صيانة، أو تدمير نظام اجتماعي وثقافي إلى الأبعاد الفلسفية للنظرية السياسية، ونادرا ما يرد ذكر هذا البعد مرتبطا ببورخيس الذي تكمن مفارقة صارخة في حقيقة أن افتتانه بالفلسفة اجتذب اهتماما نقديا عالميا تقريبا. وسأحاول إثبات أن الفلسفة السياسية ماثلة بمعنًى حقيقي في عدد من أروع قصصه، للأسباب التاريخية التي أوردناها أعلاه ولأسباب مرتبطة بتطورات عالمية في القرن العشرين. وفي منتصف العشرينات، عندما أكد بورخيس أن بوينوس آيرس بحاجة ماسة إلى أشباح، وأن مهمته تتمثل في الإمداد بها، كان العالم قد تحطم بالفعل بالحرب العالمية الأولى، وكانت البلدان الغربية مرغمة على الاعتراف بالثورة الروسية وبناء الجمهوريات السوڤ-;-ييتية. وفي الوقت ذاته، وطدت الفاشية نفسها في إيطاليا، وانتشرت داخل حركات شعبية في بقية أنحاء أوروپا، وأفسحت الديمقراطية المجال لأشكال سياسية (ملطخة بالشعبوية وبأسلوب مبتذل للسياسة الجماهيرية) لم تتصورها المثل العليا الجمهورية الخالصة للنخب الفكرية الليبرالية. والحقيقة أن كُتُبا مثل الأيديولوجيا واليوتوبيا Ideology and Utopia لكارل مانهايم Karl Manheim وخيانة الكتبة La trahison de clercs لجوليان باندا Julien Benda،(2) وكذلك مقالات [خوسيه] أورتيجا إي جاسيت Ortega y Gasset [José] حول إضفاء الطابع الجماهيري على الثقافة، تمثل علامات فترة مطبوعة بطابع التغيرات المنذرة والمفاجئة التي بدلت بعمق دور الأديب في المجتمعات الحديثة. ولم يحدث قط أن انحاز بورخيس صراحة إلى طرف من أطراف هذه المناظرة، التي لاشك في أنها لم تقتصر على الأرجنتين. والواقع أنه أعلن دائما نفوره من الأدب الذي يختار أن تخترقه أيديولوجيات سياسية. وفي "مقدمة للطبعة الأولى من " تقرير برودي"، وهي مكتوبة في 1970، يؤكد مرة أخرى:
قصصي، مثل قصص "ألف ليلة وليلة" تحاول أن تكون مسلية أو مؤثرة لكنها لا تحاول أن تكون مقنعة. ومثل هذا العزم لا يعني أنني حبست نفسي، وفقا لمجاز سليمان، في برج عاجي. واقتناعاتي السياسية معروفة تماما؛ إنني عضو في حزب المحافظين- وهذا في حد ذاته شكل من أشكال الشكية- ولا أحد وصمني في يوم من الأيام بأنني شيوعي، أو قومي، أو معاد للسامية، أو من أتباع بيللي ذا كيد Billy The Kid(xviii)، أو من أتباع الديكتاتور روساس. و أعتقد أننا سنكون جديرين ذات يوم بألا تكون لدينا حكومات. وأنا لم أخْفِ آرائي قط، ولا حتى في الأوقات الصعبة، غير أنني لم أسمح لها أيضا في يوم من الأيام بأن تجد طريقها إلى أعمالي الأدبية، باستثناء عمل واحد عندما ارتفعت روحي المعنوية ابتهاجا وتشفيا بانتصار حرب الأيام الستة. إن فن الكتابة ملغز؛ والآراء التي نتبناها عابرة، وأنا أفضل الفكرة الأفلاطونية عن ربات الشعر على فكرة [إدجار ألان] پو Poe [Edgar Allan]، الذي اعتقد أو تظاهر بأنه يعتقد أن كتابة القصيدة عمل من أعمال الذكاء.(3)
غير أن التبدلات الدرامية في هذا القرن، مثل صعود الفاشية، خاصة في ألمانيا وأوروپا الوسطى، ترك آثارا واضحة في قصصه. ولنبدأ بالأكثر صراحة: العنصرية يُنظر إليها على أنها صورة اعتباطية من أيديولوجية الدولة، هذه الأيديولوجية التي تنبذ العقل وتوزع الموت عشوائيا، كما في حالة يارومير هلاديك Jaromir Hladik الكاتب الضحية الذي ينعم الرب عليه ﺑ-;- "المعجزة السرية" El milagro secreto. أما معاداة السامية باعتبارها أيديولوجية بلهاء (وهي في نظر بورخيس، بطبيعة الحال، اتهام ثقيل) فيجري فحصها أيضا في حوار شهير في "الموت والبوصلة" La muerte y la brú-;-jula. وعندما يناقش المفتش تريفيرانوس Treviranus جريمة قتل الدكتور مارسيل يارمولينسكي Marcel Yarmolinsky مع لوينروت Lö-;-nnrot، وهو "شخص استنتاجي بحت"(xix)، في حضور محرر ييديشه تسايتونج Yidische Zeitung ينبذ تريفيرانوس "التفسيرات الحاخامية" باعتبارها عديمة الجدوى. وفي الحال يتلقى ردا حاسما من أيديولوجي idéologue مستنير:
قال: "أنا مسيحي بائس. أبعدْ عني كل هذه المجلدات العتيقة إن شئت؛ لا وقت عندي أضيعه على الخرافات اليهودية".
غمغم لوينروت: "ربما كانت الجريمة تخص تاريخ الخرافات اليهودية".
غامر محرر "ييديشه تسايتونج" بأن أضاف: "كالمسيحية".(4)
غير أن هناك أيضا الحالة الأكثر تعقيدا بكثير وهي الخاصة ﺒ-;- "قداس ألماني" Deutsches Requiem، وهي قصة مبنية على الموضوع النيتشوي الصريح جدا عن تغلب العنف على الفضائل المسيحية. ويجري تقديم النقد البورخيسي بصورة متميزة للعنف من وجهة نظر ضابط ألماني. ويأمل الضابط، آخذا على عاتقه مسئولية موت شاعر يهودي، في أن يدمر داخل نفسه كل أثر للتعاطف إزاء الآخر أو إزاء ما هو مختلف: إن النازية "عمل أخلاقي، تطهير للبشرية الفاسدة".(5)
والمنظور الذاتي الذي يتبناه بورخيس في هذه القصة يسمح لحجة الضابط النازي بأن تتطور بمنطقها الخاص؛ فهي تؤكد خياراته وقيمه، باعتبارها أساس نظام بديل. وهكذا فإن بورخيس يجعل القاريء يعطيه اهتمامه بعناية بدلا من رفضه من الوهلة الأولى. ففي عشية تنفيذ الحكم على الضابط الألماني أوتو ديتريش تسورلينده Otto Dietich zur Linde، الواسع الاطلاع على [أرتور] شوبنهاور [Arthur] Schopenhauer، و [أوزڤ-;-الد] شبنجلر [Oswald] Spengler، ونيتشه، يسأل عن كيف يمكن الحكم على أعمال البشر عندما يكون قد جرى القيام بها لإقامة نظام يستتبع تنظيما جديدا للمجتمع على أساس مباديء جديدة. ويمكن الحكم عليها بطبيعة الحال من وجهة نظر أخلاقية يمكن القول- إذا كانت مختلفة عن تلك التي يدعمها مؤسسو نظام جديد- إنها تؤيد الشر بدلا من الخير. غير أن مسألة النظام، إذا نُظر إليها خارج سياقها التاريخي، ماثلة في تلك النظم التي نوافق عليها وكذلك في تلك التي ندينها. وعن طريق تقديم ضابط نازي (ترد بالبال صورة إرنست يونجر Ernst Jünger في هذا التصوير لأوتو تسور لينده) باعتباره صوت قصته، يشير بورخيس إلى مأزق النظم السياسية كافة، ليس فقط تلك التي كانت مدانة كليا بل أيضا تلك التي نعتبرها شرعية. ذلك أن كلا النوعين يقدمان حججا يمكن تطويرها منطقيا. والواقع أنه يحثنا بطريقة غير مباشرة على التفكير مليا في المسألة العامة للنظام لأن من يناقشها هو على وجه التحديد نازي "متحضر" ومثقف نفّذ، بوصفه نائب مدير معسكر اعتقال، مهمة القضاء على الشاعر اليهودي ألبرت سويرجل Albert Soergel. وعندما انتهت الحرب، سأل أوتو تسور لينده نفسه عن السبب وراء إحساسه بالراحة، وطرح جانبا أسبابا عديدة قبل أن يدرك الحقيقة:

كان العالم يموت من اليهودية ومن مرض اليهودية ذاك، الإيمان بيسوع؛ لقد علمناه العنف والإيمان بالسيف. وذلك السيف يذبحنا الآن، ويمكن تشبيهنا بذلك الساحر الذي صنع متاهة ثم صار محكوما عليه بأن يهيم بداخلها إلى آخر أيامه؛ أو بداود الذي يحاكم رجلا مجهولا فيحكم عليه بالموت، فقط ليسمع الوحي: أنت ذلك الرجل. سيكون من الواجب تدمير أشياء كثيرة في سبيل بناء النظام الجديد، ونحن نعرف الآن أن ألمانيا أيضا كانت أحد تلك الأشياء.(6)
هناك ثيمة بورخيسية تخترق هذه الفقرة: الإنسان هو نفسه وهو عدوه، القدر يسير في طريقه عبر النتائج العمياء لأفعالنا. ومع ذلك، يوجد هنا شيء آخر لا يمكن إغفاله. من ناحية، هناك تنظيم العالم وفقا لقيم، مثل النازية في حالة ألمانيا. ومن ناحية أخرى، هناك فكرة أن كل نظام يقوم على تدمير نظام سابق، يقوم على قيم مختلفة، وأن كل نظام يعتمد على فعل فَرْض إجباري، رغم أن الأساطير والفلسفة يمكنها القيام بتفسير ذلك الفرْض على أنه هبة، أو تراث، أو ميثاق. وعلاوة على هذا فإن صوت الضابط النازي وعنصريته الشائنة يطرحان للنقاش ذلك الاعتقاد الساذج بأن إثبات صحة وشمولية القيم تمرين فكري بسيط ومباشر. والحقيقة أن أوتو تسور لينده لا يشهد فقط على التدابير المتطرفة للنازية، بل أيضا على المهمة المثابرة في سبيل ترسيخ معتقداتنا بشأن ما هو صحيح وما هو خاطئ في المجتمع. وتختار "قداس ألماني" الطريق الصعب المتمثل في معالجة هذا من خلال صوت رجل مدان كليا تقريبا، وهي تستكشف في الوقت ذاته القسوة التي ينطوي عليها حتى موت واحد، موت شاعر يهودي، والمعضلة الخاصة بكيف بمكن إقامة نظام جديد. إن المجتمع مبنيّ عبر العنف، رغم أن درجة العنف والقيم التي تجعله شرعيا هي بالفعل، وينبغي أن تكون، متمايزة.
والأسئلة المتعلقة بأسس- أو بالافتقار إلى أسس- القيم مرتبطة بالأسئلة الخاصة بالمجتمع. ما الذي يجعل وجود مجتمع ما ممكنا؟ وكيف يمكن الحفاظ على توازن بين أعراف مختلفة على أساس الإدارة الجماعية أو على أساس المصلحة العامة؟ وكيف يُصاغ مفهوم "العام" ذاته؟، وكيف تُمنح السلطة لبعض المواقع ويجري إنكارها على أخرى؟ ووفقا لأية مبادئ، لا تقوم فقط على العقاب والثواب، يخضع البشر للقانون؟ ويطرح بورخيس، حاذيا حذو سويفت، هذه الأسئلة التي هي أسئلة قاريء "تقرير برودي".(7)
كتب برودي Brodie، وهو مبشر مشيخيّ إسكتلندي [ينتمي إلى الكنيسة المشيخية البروتستانتية] كان قد عمل في سبيل العقيدة في أفريقيا والبرازيل، تقريرا (وتركه بين صفحات كتاب [إي. دبليو.] لين Lane [E. W.]: "تسليات ألف ليلة وليلة" Arabian Nights’ Entertainments) عن شعب اﻠ-;- "ملتش" Mlch الذين يسميهم برودي اﻟ-;-ياهو Yahoos بسبب "طبيعتهم الهمجية"، ولأن من الصعب إعطاء تدوين دقيق لاسمهم الحقيقي، لأن لغتهم لا تشتمل على أية حروف حركة. ويحمل الملتش سمة أسلافهم الأدبيين، ويمكن النظر إليهم بالتالي على أنهم اقتباس. ويتحول الملتش بقلم الدكتور برودي (من طريق سويفت) إلى ياهو خاصين به، في التقرير الذي عثر عليه راوي القصة وينقله بكامله تقريبا. وبنية قصة داخل قصة هذه، وهي وسيلة استخدمها بورخيس في كثير من الأحيان، تقوم بإطلاق القوة القصصية للاقتباس المزدوج من برودي ومن جاليڤ-;-ر، وفي الوقت نفسه بترسيخ جذور النص في تراث للرحالة إلى بلاد بعيدة الذين يعثرون على عناصر تعكس بدقة، بطريقة رمزية أو تهكمية، مجتمعاتهم ذاتها.
ومثل سويفت، يفتح بورخيس جدالا أخلاقيا من خلال تقرير برودي. غير أنه، بخلاف سويفت، لا يقترح أساسا صريحا للمقارنة بين ياهو تقرير برودي وشعب آخر: لا وجود لأيِّ هويهنهنم Houyhnhnms نبلاء في قصته، ويقود غيابهم إلى استنتاجات مختلفة. وفي حين أن جاليڤ-;-ر وَجَدَ، على الأقل، في مجتمع حيواني الفرصة لتقديم يوتوپيا فإن برودي قادر فقط، في الفقرة الأخيرة من تقريره، على أن يقترح رأيا متسامحا بشأن ياهو تقريره، من وجهة نظر نسبوية حقا: "وهُمْ، بوجه عام، يمثلون الحضارة، كما نمثلها نحن، رغم تجاوزاتنا الكثيرة". فماذا يعني هذا؟ هل هو مجرد استنتاج تهكمي أم أنه يوجد أيضا نقد مستتر للحضارة التي أنتجت الإرساليات التبشيرية لأمثال الدكتور برودي؟
ويُنهي برودي تقريره ﺒ-;- "الرجاء الحار بأن لا تتجاهل حكومة صاحبة الجلالة ما يتجرأ هذا التقرير على اقتراحه". وهذه جرأة حقا، بعد الوصف الذي يقدمه التقرير للياهو والمقارنة التي يعقدها بين حضارتهم والحضارة التي ينتمي إليها برودي. ويبدو أنه لا شيء يهيئنا لهذه الملاحظة الأخيرة: كان برودي المتدين الورع مصدوما بعادات أكل لحوم البشر لدى الياهو الذين يلتهمون جثث ملكهم وأطبائهم- السحرة، وبالفجور الساذج لملكتهم، التي تعرض نفسها على المبشر المسيحي فقط ليرفضها. فماذا، إذن، يقترح على جلالتها؟ ولدى الياهو لغة بدائية- ويجد برودي أن من المستحيل أن يستخرج منها أقسام كلام منطقية متمايزة- تتألف من كلمات وحيدة المقطع، ينظم معناها السياق أو الأشكال العملية للنطق. وهم لا يستطيعون التمييز بين الطبيعة والثقافة (إنهم يعتبرون أن الكوخ الذي بناه الدكتور برودي لنفسه شجرة ويبدو عليهم أنهم غير قادرين حتى على تصور أشياء معقدة مثل كرسي). وليست لديهم أيّ فكرة عن التاريخ أو عن الماضي بالمعنى الواسع (فقط يستطيع الأطباء- السحرة أن يتذكروا في المساء ما حدث في ذلك الصباح نفسه)، وهم يقومون بتكهنات واضحة وغامضة بشأن ما يعتبرون أنه المستقبل (الدقائق العشر التالية على وجه التقريب). وهم غير مثقلين بعبء أحداث مثل عبور العبرانيين للبحر الأحمر، الذي ندرجه في ماض له علاقة بحاضرنا. وهم يجهلون السببية البعيدة ومحرومون بالتالي من مفاهيم مثل الأبوة (الأمر الذي عرقل هدايتهم إلى العقيدة المسيحية وفهمهم للمفهوم المسيحي عن الألوهية). وهم يخلعون على الشعر مكانة خاصة جدا تحرم الشعراء من الحق في الحياة، لأن الفعل الشعري يملك القدرة على تحويلهم إلى آلهة لا يتصل بها أحد ويحق لأيّ شخص قتلهم.
غير أنه عندما يكون الدكتور برودي على اتصال من جديد بشخص متحضر، تصادف أنه كان مبشرا كاثوليكيا، فإنه يحس بالصدمة بالعادات التي مارسها طول حياته: عادة تناوُل الطعام على الملأ، على سبيل المثال، وهذا ما يتجنبه الياهو باعتباره محرما taboo a: "في البداية وجدت من المثير للتقزز أن أراه يفتح فمه دون أدنى محاولة للإخفاء المنافق ويضع فيه قِطعا من الطعام. وظللت أغطي فمي بيديّ، أو أحول عينيّ".(8) وعندما يعود إلى بلاده، لا يحس برودي كما أحس جاليڤ-;-ر بعد عودته من بلاد الهويهنهنم، باستثناء الانطباع الخاطف الذي يتلقاه من رؤية الناس يأكلون بصحبة بعضهم معا دون ارتباك. ومصيره ليس مصير جاليڤ-;-ر، الذي لم يسمح لنفسه أعواما بأيّ اتصال بشري جسدي، وناهيك بمشهد أسرته وهم يلتهمون الطعام معا في حضوره. وعلاوة على هذا فإن برودي لا يتوق إلى السعادة الكاملة التي كان قد خبرها جاليڤ-;-ر، وتعلم الاستمتاع بها، مع الهويهنهنم، بل يتذكر، بدلا من هذا، "الرعب الجوهري" لأيامه مع "الياهو".
ومع ذلك فإنه يرجو صاحبة الجلالة أن لا تتجاهل "ما يتجرأ التقرير على اقتراحه"- أيْ أننا إزاء رؤية نسبوية إلى حضارة ياهو لن ينظر إليها أيّ قارئ للتقرير على أنها متحضرة. وهو يلخص ما يجعل الياهو ليس فقط الأمة البربرية التي وصفها، بل قبيلة يؤهلهم تنظيمهم ومعتقداتهم لامتياز اعتبارهم متحضرين بنفس الطريقة كالأوروپيين:
ولديهم مؤسسات خاصة بهم؛ ويتمتعون بملك؛ ويستعملون لغة تقوم على مفاهيم مجردة؛ ويؤمنون، مثل العبرانيين والإغريق، بالطبيعة الإلهية للشعر؛ وهم يحدسون أن الروح تبقى بعد موت البدن. كما أنهم يؤمنون بحقيقة العقاب والثواب.
على أن تقرير الدكتور برودي انتهى إلى منعطف هائل وغير متوقع. وعند الوصول إلى هذه النقطة، لاشك في أن صاحبة الجلالة سوف تصاب بالدهشة إزاء الدفاع الحازم، القائم على نسبوية ثقافية خالصة، عن الياهو. وقد تسأل صاحبة الجلالة عن الأسس التي يقوم عليها عقد هذه المقارنة على قدم المساواة بين الأمم الأوروپية والياهو. ما الذي لدى الياهو ليعطيهم الحق في أن يوضعوا جنبا إلى جنب مع الأمم المسيحية؟ أو، إذا عبّرنا باستخدام الكلمات الأخيرة في القصة: ما هو الاقتراح الجريء للتقرير؟
ويمكن أن يفك قراء التقرير شفرة الاقتراح مثلما كان الدكتور برودي يأمل في أن تفعل صاحبة الجلالة. وقد وجد الياهو إجابات عن الأسئلة الرئيسية بشأن النظام في المجتمع دون أن يكون عليهم أن يقوموا بحل الصراعات الداخلية مثل الأمم المسيحية الحديثة. إذ أنهم يعيشون في علاقة مثالية الكمال مع الطبيعة. والحقيقة أنهم ماداموا غير قادرين على التمييز بين الطبيعة والثقافة، لا يعانون ألم ذلك الانفصال (رغم أنه ينتج أيضا حضارتنا، وصناعتنا، وفننا، وتقدمنا). ومتحررين من مفاهيم عامة مثل السبب البعيد والنتيجة البعيدة، فإنهم لا تقلقهم أيضا الشواغل الفلسفية والعلمية. ولأن لغتهم خالية تماما من نموذج محدد للمعاني فإنهم يستعملون فقط الكلمات التي تعبر عن مفاهيم عامة. إنها لغة يمكن اعتبار القدرة على الكلام فيها ضعيفة، غير أن هذا الضعف يمنعهم من فتح مجالات محتملة للصراع على موضوعات مثل الحكومة أو الدين. وهم يعهدون إلى الأطباء- السحرة بسلطة اختيار زعمائهم غير أنهم يعتقدون أن الأطباء يفعلون هذا على أساس بعض سمات طباع الرجل الذي يقع عليه الاختيار، مما يمنع المشاجرات على السلطة والحروب بين سلالات حاكمة. وعندهم نظام للعدالة لا يقوم بخلاف نظامنا على الدليل والحجة: يجري إصدار الأحكام دون مزيد من الضجة بعد ادعاء الجريمة. وهذه الأمة بدائية إذا قورنت بالأمم المسيحية، غير أنها في الوقت نفسه نجحت إلى الأبد في حلّ (أو، على الأقل، إلى أن تقود الحالة الراهنة ﻠ-;- "الياهو" إلى انقراضهم) مسألة النظام في المجتمع. ولاشك في أن وصف برودي لهذه الأمة، في تدوين الراوي، تهكمي في محتواه، ولكن ليس في ثيماته. ويجري تقديم السمات المميزة الرئيسية للتنظيم البشري في نوع من الديستوپيا المبهمة للغاية. ويتردد القراء (كما يفعل الدكتور برودي) بشأن ما إذا كان من الإنصاف الحكم بأن أمة الياهو تمثل ديستوپيا، نظرا لحقيقة أن الياهو أنفسهم لا يؤمنون بهذا الرأي غير العطوف فيما يتعلق بنظمهم الخاصة والعامة.
وتأثير القصة ملتبس، فرغم أن الدكتور برودي قرر أن يحكم على الياهو وفقا لقيمه هو، فإنه يجد أنهم حققوا نتائج هي، على الأقل من الناحية الشكلية، ولا يهم كم هي فجة، تلك الخاصة بأمة منظمة. وتنقلب نغمة وصفه بين التشديد على الاختلافات والاكتشاف النهائي لأوجه الشبه العامة. ويجري توصيل شيء من هذا التردد في الكلمات الأخيرة من القصة. فهو يرجو صاحبة الجلالة أن يُسمح لهم ليس فقط مثل المسيحيين، بأن ينفذوا المهمة المستحيلة في الظاهر المتمثلة في إنقاذ أرواح الياهو، بل يأمل أيضا في أن لا يمر "اقتراح" تقريره مر الكرام. وهذا الاقتراح ملغز، غير أنه يمكن فهمه باعتباره الاستنتاج الذي تتوصل إليه دراسة مقارنة تقوم على الحذف elliptical لعادات الياهو وعادات الأمة المسيحية. ويوضح برودي، في نهاية تقريره، أن الياهو يمثلون "الحضارة تماما كما نمثلها، رغم تجاوزاتنا الكثيرة". وهو يضيف أيضا أن رعب التجربة التي مر بها لم يتضاءل منذ عودته إلى إسكتلندا: خلال إقامته في جلاسجو، يحس بأن الياهو ما يزالون حوله. وهذا الإحساس لا يجري شرحه ولا يجري تبريره من حيث ذكرى الوقت الذي قضاه معهم. ويمكن قراءته بهذه الطريقة، غير أنه يمكن أيضا قراءته من خلال تتبع آثار "الياهوية" Yahooism في الحياة اليومية لأمة مسيحية. ولاشك في أن "الرعب الجوهري للتجربة" جزء من الماضي؛ غير أنه ليس واضحا بنفس القدر أن الإحساس بأن المرء محاط ﺒ-;- الياهو في شوارع جلاسجو يمكن تفسيره بصورة مباشرة كذلك كأثر باق من ذكرى. وبعد تأكيده، يُحس بأنه مجبر على أن يضيف: "إنني أعرف تماما أن الياهو أمة بربرية"، وكأنه كان عليه أن يستجيب لشخص كان قد تحدى ما لم يكتبه، على أيّ حال. ويقدم الدكتور برودي تقريرا ولكنْ أيضا حجة: حجة النسبوية الثقافية. وقد عبر عن نفوره غير أنه، في الوقت نفسه، قدم تلخيصا متوازنا عن المؤسسات الأساسية للحضارة: الحكومة، والدين، والفنون، واللغة.
على أنه في موضع سابق في التقرير قدم برودي، كوسيلة مساعدة تقريبا، فرضية أن الياهو كانوا ذات يوم أمة أكثر تحضرا يجب تفسير انحطاطها الحالي ليس كبدائية بل كتدهور. ذلك أن لغتهم البليدة المبنية على مفاهيم عامة جدا تسمح أيضا، مع ذلك، "باستخلاص تجريدات". وتقوم فرضيته على بعض النقوش القديمة التي وجدها، والتي لم تعد القبيلة قادرة على فك شفرتها. ويمكن التفكير في الياهو على أنهم "مستقبل الأمم الأوروپية"، وليس فقط على أنهم ماضيها، تماما كما اكتشف [أليكسيس دو] توكڤ-;-يل [Alexis de] Tocqueville في الولايات المتحدة ليس طفولة ذلك البلد بل مستقبل أوروپا.
ويقدم "تقرير برودي" خليطا مثيرا من الريپورتاج القصصي والتعليق الفلسفي: الفلسفة السياسية من خلال السرد. وعلى هذا النحو، يرتدي اهتمام بورخيس بمسألة النظام في المجتمع شكل نوع كلاسيكي. والآثار التي تركتها قراءته المنتجة لسويفت واضحة جدا إلى حد أنها تعيدنا إلى تراث للرحالة الفلاسفة، مع أنها تحذرنا من استعمالات بورخيس الخاصة لذلك التراث. وفي حين أن جاليڤ-;-ر غير مبهم فيما يتعلق ﺒ-;-هؤلاء الياهو الذين في روايته (لأنه يتخذ الهويهنهنم كنقطة انطلاق للمقارنة)، يعطي الدكتور برودي حُكما ملغزا على مسئوليته الخاصة: في بداية التقرير يجري النظر إليهم على أنهم ينتمون إلى عِرْق "متوحش" وفي النهاية على أنهم يمثلون، بطريقتهم الخاصة، "الحضارة"، لأنهم رغم طبيعتهم نجحوا في بناء نظام، وهو ما يرقى إلى مستوى حلّ مشكلة سياسية. وكقراء للنص، نجد أنفسنا غير راضين عن آرائنا نحن عن هذا الشعب. وبعد الجدال، نتوقع أن نشعر فقط بالارتياح إزاء عودة الدكتور برودي إلى بلده، غير أن القارئ المدقق يواجه، بدلا من هذا، (كما كان من الممكن أن تواجه صاحبة الجلالة) مقارنة بين الياهو والأمم المسيحية. ويمكن أن يجد قراء سويفت سلاما وأمنا في الدرس الأخلاقي الذي يلقنه الهويهنهنم لجاليڤ-;-ر، غير أن قراء بورخيس لا يملكون نفس العزاء، لأنه لا وجود لخيول نبيلة في بلاد الياهو الذين نلقاهم لديه. غير أنه يجري تقديم درس في التقرير، عن مختلف أنماط الحضارة ومختلف أنماط النظام القائمة على القيم التي تبدو لأولئك الذين يؤمنون بها حقائق مطلقة، ولكنْ التي يمكن أن يثبت مراقبون مدققون، مثل الكتور برودي، في النهاية أنها عارضة ونسبية. كما يوجه التقرير تحذيرا، وإنْ كان مبهما ومقحما تقريبا في السرد، عن الخطر الذي يهدد الأمم المتحضرة: البربرية التي تكمن داخلها، والتي كان بمستطاع برودي أن يلقاها في شوارع جلاسجو.
وأنا لا أزعم أن هذا هو التفسير الوحيد الممكن للقصص الفانتازية التي بحثناها في هذا الفصل وفي الفصل السابق. لقد قرأناها بتركيز خاص على مبادئها البلاغية الإبداعية ووجدنا أن الأسئلة الفلسفية الأساسية ماثلة في صميم السلاسة المثالية الكمال للسرد. والحقيقة أن البحث عن النظام المثالي الكمال بصورة مستحيلة واليقين بأن كل نظام له عواقب مجهولة ومفزعة ماثلان في صميم كمال الحبكة ذاتها.
إشارات
1: ‘Poema conjetural’, El otro, el mismo, in Obras completas, Buenos Aires 1974, p. 867. Translated by Anthony Kerrigan as ‘Conjectural Poem’, in J. L. Borges, A Personal Anthology, New York 1967, pp. 192-3.
2: من المحتمل جدا على الأقل أن يكون بورخيس قد قرأ بندا Benda، لأن مجموعة مجلة سور Sur، التي كان بورخيس ينتمي إليها كانت تنظر إلى بندا على أنه نوع من المرشد guru الفكري.
3: Doctor Brodie’s Report, Harmondsworth 1976, pp. 11-12.
4: ‘Death and the Compass’, Labyrinths, London 1970, p. 108.
5: ‘Deutsches Requiem’, Labyrinths, p. 176.
6: Ibid., p. 178.
7: In Doctor Brodie’s Report, pp. 91-100.
8: For these quotations, ibid., pp. 99-100.
9: Ibid., p. 100.

إشارات أسفل الصفحات

* الفصل السادس
xviii: شاب خارج على القانون اشتهر بهذا الاسم خلال الربع الثالث تقريبا من القرن التاسع عشر في أمريكا والمكسيك تحيط بتاريخه هالة من الأساطير وتنتسب إلى اسمه جماعات وعصابات لا حصر لها؛ ووفقا الأصل الإسپاني في المقدمة المذكورة: "...أو من أتباع Hormiga Negra [النملة السوداء] أو روساس..." Jorge Luis Borges, El informe de Brodie, Madrid 1987, p. 10.- المترجم.
xix: أيْ أن لوينروت يعتقد أنه استنتاجي بحت بالمعنى البوليسي وأنه أوغست دوبان آخر un Auguste Dupin كما جاء في الأصل الإسپاني للقصة المذكورة Jorge Luis Borges, Ficciones, Madrid, 1987, p. 148.