أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل التاسع


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4733 - 2015 / 2 / 27 - 10:48
المحور: الادب والفن     

مضت ستة شهور طويلة، وأنا لم أزل حبيسًا، فتذمر عبد الصمد لأني أرفض الهرب معه، للالتحاق بآميديه في جبال البرنة. لم أجد، بالطبع، قصة حب إيزابيل الإسبانية وأحمد العربي، وكان ذلك مثبطًا لعزمي. عثرت على كتب أعظم عبقرية خيالية في الصوفية، ابن عربي، كالفتوحات المكية، وقصص الحكم. في الفتوحات المكية، قرأت فصلاً تحت عنوان "كيمياء السعادة"، يصف ابن عربي فيه مجازًا صعود الإنسان إلى السماء. وفي مخطوط لم يطبع، "الإسراء إلى مقام الأسرى"، يورد ابن عربي قصة الإسراء والمعراج، ويتوسع في عرض زيارة النبيّ للسماء السابعة، فيسبق ما جاء به دانتي.
وقعت أيضًا على كتب المتصوف الإسباني رايموندو لوليو، كتب كتبها اعتمادًا منه على أعمال ابن عربي. كان متمكنًَا من العربية، واسع الاطلاع على ما كتبه أهلها، وكان يستعمل العربية في مجادلاته مع المسلمين، وفي التبشير في المغرب. كان يكتب بالعربية كما يكتب بلغته القطلونية، فكتب مؤلفه "كتاب الكافر والعلماء الثلاثة" بالعربية أولاً، ثم ترجمه بنفسه إلى القطلونية، وعنها نُقل إلى العبرية واللاتينية والفرنسية والإسبانية.
وكما وقعت في الإيسكوريال على مخطوطات ضد الموحدين، وجدت في الكُتُبِيَّة مخطوطات ضد الريكونكيستا، وكذلك معظم كتب مركز الترجمة في طليطلة، في الرياضيات، وفي الفلكيات، وفي الفلسفة، حتى أنني عثرت على أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم.
ومن الغريب كذلك، أنني وقعت على قصة حب الشاعر يحيى بن الحكم، الملقب "بالغزال" لجماله، وملكة الدنمرك ثيودورا، وتوقفت على ما قاله الغزال في محبوبته:

كلفت يا قلبي هوى متعبا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسيةً
تأبى لشمس الحسن أن تغربا

وبينا أنا أتأرجح بين قرارين، الهرب مع عبد الصمد أو انتظار الإفراج عني، أبلغنا سجانٌ بأن شخصًا سيزورنا في زنزانتنا، وطلب منا أن نحجم عن الذهاب إلى الحجرة المحرمة، وأن ننتظر مقدمه بين لحظة وأخرى.
- هذا شخص مهم، قلت لعبد الصمد، مَنْ غير شخص ذي نفوذ يمكنه القيام بزيارتنا في الزنزانة؟
حاولنا أن نحزر من هو.
- ربما كان الحاكم، قلتُ.
- أو زوجته، قال عبد الصمد ساخرًا.
- بما أنها هي الحاكم الفعلي.
- يقال عنها في كل ليلة تنام مع عشيق.
- وفي الصباح تقتله.
- تقتله؟ أشك في ذلك.
- لو كانت جميلة أقبل بقتلي مقابل ليلة واحدة في فراشها.
- لم ير أحد وجهها.
- زوجة الحاكم لم ير أحد وجهها!
- لتختار عشاقها بنفسها تحت أسوار مراكش. مرة، تخفت في ثوب بائعة خبز قرب باب "دوكّالة"، ومرة ثانية، في ثوب قارئة خطوط اليد في ساحة جامع الفنا، ومرة ثالثة، في ثوب امرأة فقيرة تشحذ في "جيليز"...
انبثقت امرأة محجبة من وراء السجان، فتح لها باب زنزانتنا، وذهب. قفز عبد الصمد، وأمسك بذراعها، أول ما شاهد عينيها السوداوين المكحلتين.
- متى عدت؟ سألها، وكيف استطعت المجيء حتى هنا؟
طلبت منه أن يوطئ صوته، وأنا أجمد في مكاني ذاهلاً لا أبدي حراكًا.
- عدت منذ يومين، قالت، عرفت أنك والبروفسور في السجن، فجئتُ.
- حتى هنا؟
- أعرف رئيس السجانين، أعرفه جيدًا.
لم يَبْدُ على المراكشي الاقتناع، ولا عليّ، فاقتربت المرأة مني، وشخصت ببصرها إليّ، قبل أن تقول بغتة:
- لقد قتلوا دون آميديه والأميرة إيزابيل.
- ماذا تقولين؟!
- قتلوهما؟! صاح عبد الصمد ابنًا للعجب.
- قتلوهما، وأنهوا على كل من كان معهم، أكدت المرأة ذات العينين السوداوين. استقلال أرخذونة اليوم ذكرى من الذكريات البعيدة، وككل شيء، لم يعد كل شيء يمضي إلى حاله. قبل موته، أوصى آميديه، بروفسور، على أن أودعك الوثيقة المنحوتة في لحمي، أنت أو أبا بكر الآشي.
انبهرت تحت وقع الخبر الفاجع عليّ، ولم أفطن إلى استحالة هذه الوصية إلا بعد لحظة طويلة. أحسست بدبيب الثكل في نفسي، فدببت دبيب الموت في الحياة. كان العدم أقوى من كل شيء، أقوى من العدم، فالحياة عدم، والعدم حياة.
- تودعينني إياها؟ كيف هذا تودعينني إياها؟
- بالزواج من أختي.
لم يكن الوقت للضحك، ومع ذلك!
- اذهبي إلى الإيسكوريال، قلت متهكمُا، تجدين هناك أبا بكر الآشي تحت الإقامة الجبرية مع ملك إسبانيا، واقترحي عليه الزواج بأختك. شخصيًا، أرفض ذلك رفضًا قاطعًا.
- لعلمك، أبو بكر الآشي غادر الإيسكوريال منذ عدة أشهر، هو في مراكش حاليًا، وهو الطبيب الشخصي للحاكم في الوقت الحاضر.
- أبو بكر الآشي هنا في مراكش! هل يعرف أنني في السجن؟
- منذ يومين فقط.
- ولم يعمل شيئًا لإطلاق سراحي؟
- زوجة الحاكم لا تريد! وصلت إلى مسامعها شتائمك التي تطعن في شرفها، مما لم يعجبها كثيرًا. لم تتوقع أن يبدر من بروفسور معروف ومثقف لامع مثلك وأن تفلت منه نمائم كهذه.
- كيف يمكنني التكفير عن هذا الذنب؟
- بزواجك من أختي.
لم أعد أضحك هذه المرة، كان الأمر جادًا، وعليه تتوقف حريتي وحرية عبد الصمد. في ليلة ظلماء، سيفضي إلى مكتبة المسجد الكبير، ثم إلى غربة لا نهاية لها، إلا إذا استطعت، بواسطة أبي بكر، العمل على إطلاق سراحه.
- أنا لا أفهم العلاقة القائمة بين حفظ الوثيقة الأرخذونية وزواجي من أختك؟
- ومع ذلك، كل شيء واضح. أنا لا يمكنني الزواج، وبخصوص أختي، عليها أن تحبل منك، فتكون لها ابنة تحمل وثيقة الاستقلال في لحمها، كما هو معمول به منذ أجيال. أنت، يا أبا البنات، ستتوافر لك الشروط المطلوبة.
تذكرت الماخور، والأجساد المباحة، وقاعة الزبائن، وعدت أحدق في العينين السوداوين، وأفحصهما كما أفحص مخطوطًا غامضًا. كانتا عيني العاهرة نفسهما، وفي الوقت ذاته، جرفني إحساس بأنهما لامرأة أخرى.
- موافق، قلتُ، شرط ألا أطلّق زوجتي المدريدية.
- الشرع يعطيك أربعًا.
- وشرط ألا أترك صديقي في السجن من ورائي.
- القانون يعطيه أربعًا.
طن عبد الصمد:
- أربع سنين!
حاولت المرأة المحجبة تهدئته:
- احمد ربك أنهم لم يسلموك إلى العساكر الإسبانيين!
نادت الحارس، فجاء، وهو يمزق بأسنانه رغيفًا أسود مطليًا بالزيت، لفه بورقة قطعها من مخطوط قديم.
أمرته، وهي تشير إليّ بحركة من رأسها:
- اطلق سراحه!
بيد أني مددت أصابع مرتعشة، إلى الرغيف الأسود، وأخذته من يدي السجان. فرشت الورقة القديمة، ورأيت بين بقع الزيت آثار دم.
- من أين جئت بها؟ قلت للسجان بصوت عكر كماء الحقيقة.
- من مخطوط موضوع هناك، قال، فارغ تمامًا، لا كتابة فيه.
- هل يهمك، بروفسور؟ سألتني المرأة ذات العينين السوداوين.
- يهمني؟ كل ما يهمني!
- احضره حالاً، أمرت السجان.
فأحضره.
لم تزل الصفحة الأولى في مكانها، كورقة العنب المحفورة في الرخام، وبالدم كتبت الكلمات التالية:
"هذه هي حكاية الحب التي اهتزت لها شبه الجزيرة الإيبيرية اهتزازًا لا مثيل له بين القشتالية، إيزابيل العاشقة، والعربي، أحمد الأندلسي، اللذين أمر الكاردينال دوسيسنيروس بقطع رأسهما في حرم الكالا دوهيناريس بمجريط، بتهمة الهرطقة. بدم إيزابيل نكتب الجزء الثاني من هذه الحكاية، في هذا المخطوط المودع في الكُتُبِيَّة، أما الجزء الأول، فسيجده كل من يهمه الأمر في مخطوطٍ ثانٍ مودعٍ في الإيسكوريال، الدير والقصر الواقعين عند قدم وادي الرامة، سلسلة الجبال الحمراء."
تصفحت المخطوط، فلم أجد أية كلمة، بل صفحات ملطخة بالدم، من الصفحة الأولى حتى الصفحة الأخيرة.
- إنها الكلمات نفسها التي قدمت للجزء الأول من هذه القصة الممزقة لنياط القلب، الموجود في الإيسكوريال، قلت لعبد الصمد مادًا المخطوط إليه، هذا كتب بدم إيزابيل، وذاك كتب بدم أحمد.
أخذ المراكشي يضحك في ذلك المصاب الكبير، فأعوى الحزن في قلبي. كم من مرة يموت آميديه ويحيا؟ كم من مرة تولد السحلبيات من بطن العدم؟ بالوقوع على الجزء الثاني من قصة هذا الحب الدموي، يكون صديقي المغربي قد تحرر من كل التزام. حاليًا، لا شيء ممنوع عليه، بما في ذلك الشمس المشرقة ما وراء الحجرة المحرمة. كنت أعلم علم اليقين أنه لن ينقع نفسه في السجن طوال سنوات أربع، بلا هدف أكيد، وكنت أعلم علم اليقين أنه لن يبكي بعد اليوم، بلا سبب وجيه، ولماذا يضحك.
- لقد جن صاحبك، قالت المرأة المحجبة.
رغبت في الضحك، أنا كذلك، لكني ابتسمت.
- يظن نفسه حرًا، همهمت، يضحك للحرية.
ألقت عليّ نظرة متسائلة: عن أية حرية أتكلم؟ شددت على يد الحر القادم بحرارة، فأخذني بين ذراعيه، وعانقته بدوري. تمنيت له حظًا طيبًا، وتمنى لي زواجًا سعيدًا، وعاد يضحك، لست أدري، هذه المرة، لماذا.


يتبع الفصل العاشر من القسم الثاني