وماذا بعد أن أصبح العرب مفارقة زمنية كريهة؟!


خالد سالم
الحوار المتمدن - العدد: 4733 - 2015 / 2 / 27 - 08:47
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

"لكنها تدور"
وماذا بعد أن أصبح العرب مفارقة زمنية

د.خالد سالم
جلست مشدوها أمام المرناة، وفقدت القدرة على النطق للحظات من هول ما أخذت أشاهده بالأمس على شاشتها من نقل لما اقترفه تنظيم داعش ضد جزء مهم من تراث العراق، إذ بُث فيديو يصور عناصر التنظيم وهي تحطم تماثيل أشورية في متحف الموصل، لأنها في رأيهم أصنام. لم يكتفوا بهذه الفعلة الشنعاء، الهمجية، البربرية، بل أتوا على مكتبة الموصل المركزية حرقًا، بما فيها من كتب تراثية ومخطوطات ووثائق نادرة لاعتبارهم أنها تشكل بمحتواها "كفرًا ومخالفة للدين". هذا قبل أن ينعم هؤلاء المسلمون الأقحاح بشبق تفجير مبنى مسرح الموصل.
المشهد يعيد إلى الأذهان حدثين، أحدهما تاريخي عندما أقدم المغول، البربر، بعد سقوط عاصمة الخلافة بغداد، على احراق واتلاف مكتبتها التراثية والقاء محتوياتها في نهر دجلة ليظل ليغطي لون الحبر مياه النهر شهرًا.أما الحدث الثاني فحديث يعود إلى ما أقدم عليه، أمثال داعش، طالبان بتدمير تمثال بوذا قبل أن يقوم الأمريكان بدك أفغانستان وغزوها في نهاية عام 2001.
هل ما اقترفه تنظيم داعش في الموصل أمس نسخ لما قام به الرسول في الكعبة عند فتح مكة؟!! لا متسع للاجابة على هذا السؤال. إلا أن كثيرين يعرفون أن داعش وأخواتها لم تأت بفكرها من أوروبا أو أميركا اللاتينية، بل من كتب التراث العربي الإسلامي خير نموذج لهذا البؤس وحملنا إلى التهلكة الجماعية.
للخروج من ذهولي، على أمل أن يأتينا أحد الأصدقاء العراقيين بتكذيب لهذا الفيديو، هاتفت صديقة من أقحاح العراق، اضطرها جحيم بلدها على الهجرة إلى أوروبا منذ سنوات، بغية أن اسمع منها ما يكذب هذا الدمار، فلعله تمثيل، لكن صوتها الحزين، يكسوه الالم، جاء بما لم أكن أتمناه. أخبرتني بأنني لست وحيدّا في حالة الوجم والذهول بل سبقني في ذلك زوجها الأجنبي الذي أخذ يضرب كفًا على كف وهو يشاهد شاشة المرناة.
ستتضارب ووتتداخل الروايات حول هذه الأحداث المروعة، وهذا ليس مغايرًا لما تعودناه، خاصة من أن ظهر هذا التنظيم السحري وأخذ يرتكب أحداثًا جسامًا، إذ يلفها الشك ومسوح نظرية المؤامرة. ولعل حادث ذبح 21 شابًا مصريًا في ليبيا، منذ أسبوعين، خير مثال على الافتقار إلى الحقيقة الملموسة، إذ كثرت النظريات حول حقيقة الفيديو ومكانه وتقنيات تصويره وما إذا كان من صنع الفوتوشوب أم لا. إنها أحداث كالشياطين والملائكة في الأديان، لا تراها، ولا ترى مسرح أدائها، تلفها الريبة، عدم اليقين، لكن عليك أن تصدقها كفكرة مجردة، لا نقاش فيها. ولنتذكر حادث القتل الجماعي لصحفيي مجلة شارلي إبدو في باريس ثم طريقة قتل الشرطي في الشارع على يد العنصرين نفسيهما اللذين نفذا العملية "باسم الإسلام"، طريقة هبوطهما من السيارة بثقة في الذات، ثم اطلاق النار على ذلك الشرطي الفرنسي من أصول عربية ثم عودتهما إلى سيارتهما، كأننا أمام حادث يقع في صحراء، فلا وجود لأفراد شرطة آخرين ولا لمشاة.
وتيرة البشاعات التي ترتكب باسم الدين في الأيام الأخيرة، منذ حادث مجلة شارلي إبدو في باريس، توحي بأن الجميع، من الشرق ومن الغرب، لا يريدون أن تطول فترة الاجهاز على المنطقة العربية باسم الدين، بعد أن فرغوا ثورات الربيع العربي من مضمونها باثارة الشبهات حولها لؤدها وحول الشباب الذين فجروها، ثم التباكي عليها في الاعلام الغربي، فبعد أن كانت الصحف الغربية، وقت انطلاقها، تطلق عليها مسميات عدة مثل اضطرابات أوانتفاضات شعبية، باستثناء مسماها الحقيقي، ثورات، عادت هي نفسها، هذه الوسائل الغربية، تسميها ثورات، لغرض في نفس يعقوب. أذكر إن إحدى الصديقات الأوروبيات، لها نفوذ في الحزب الاشتراكي في بلدها، حاولت جاهدة في اثناء ثورة 25 يناير 2011 أن تجعل وسائل إعلام ذلك البلد أن تسمها ثورة، كما عودتنا في بدايتها، إلا أن مساعيها القوية والشديدة لم تجد آذانًا صاغية، وواصلوا تسميتها بالانتفاضة الشعبية.
الوضع الراهن محبط ومقبض، والمستقبل مظلم، ولن ينقذنا سوى العودة إلى العقل، الابتعاد من تمجيد ماضٍ لم يكن هكذا، بل خضبته الدماء، وكانت الغلبة فيه لفقر الشعوب وتخمة الحكام، جهل القادة وظلمهم لشعوب استمرأت كل هذا، واكتفت بدور الفلاح الفصيح في التراث الفرعوني، الشكوى من الظلم دون الثورة عليه، غلى أن حل عام 2011 وقرر الشعوب الانتفاض والاعتراض.
جاءت ثورات الربيع العربي حبلى بآمال كبيرة من أجل العيش والحرية والكرامة، ووصل بالكثيرين إلى شطط تحرير فلسطين في سنة الثورات العربية كارتداد لأثرها، وتطهير المنطقة كلها من المظالم والمفارقات على غرار ما حدث في أوروبا الشرقية في نهاية الثمانينات. لم يحدث شيء من هذا، بل دُمر العراق وتفسخ، وهُدمت سورية وتشرد أهلها، وتغلغلت إيران في اليمن على أمل أن تُطبق بفكيها على الجزيرة العربية، وتسلل اليأس إلى نفوس المصريين المحاصرين بين غزة المدمرة وليبيا التي تستعد لاستقبال المزيد من عناصر داعش بعد الاجهاز على سورية والعراق.
لسنا أمام مشهد ما بعد المعركة ولا على بداية طريق الأمل، إننا في حالة صيرورة قاسية، تتسارع أحداثها، وستؤدي حتمًا إلى إحدى نتيجتين: إما أن نلحق بذيل العالم في التأنسن لنتطور أو أن تتحول، قبل أن ينتهي القرن، إلى محميات لهنود حمر جدد، ويأتي السياح ليتفرجوا ونحن نقدم لهم عروضنًا التراثية بنقابنا ولحانا الرثة وجلابيبنا القصيرة، ... بما ندّعي أنه من الإسلام، والإسلام براء منا ومن خزعبلاتنا.
في هذا السياق يحضرني كلام للراحل عبد الوهاب البياتي، إذ كنا نتناقش في ظاهرة تحول بعض الممثلات المصريات إلى ارتداء الحجاب، وفي حرب صواريخ المدن، في السنة الأخيرة من الحرب العراقية الإيرانية، إذ كانت صواريخ إيران تحصد المدنيين في بغداد. كان الحزن يطغى على قسمات وجه البياتي في تلك الأيام، وكان صمته الشعري أمام تلك الحرب المجانية كافيًا كي نفهم عدم مباركته لها وعدم جدواها. في تلك الأثناء نحت تعبيرًا لطيفًا وهو أن فلانة أدرها الإسلام، عندما كان ينقل إليّ خبر إحداهن، بعد أن أخذت حظها وحظ أخواتها من الموبقات. ظل هذا التعبير يلازمنا في مزاحنا المر إلى أن غادر مدريد عائدًا إلى بغداد عام 1989.
في تلك الأيام الصعبة المخضبة بالدماء ووقائع النكوص والعودة إلى الوراء، قال لي: سترى المنطقة العربية، في كهولتك، تتحول إلى محميات هنود حمر جدد... بعد أن يكون الإسلام "قد أدرك" نفاقًا المنطقة كلها، فيرتدون أزياء يدعون أنها إسلامية ويطلقون لحاهم مثل رجال الغاب... متناسين أن الرسول كان انيقًا، يهذه شعره ولحيته ويتعطر... بينما البسمة تعلو محياه.
لاشك أننا نمثل مفارقة زمانية، على غير وفاق مع زماننا، أي ما يسمونه anachronism بالانجليزية، anachronisme بالفرنسية، و Anacronismoبالإسبانية والإيطالية، أذكرها استمرارًا لاستلابنا أمام أصحاب هذه اللغات واستعلائهم علينا، لكن استعلاء مستحق، أمام شعوب لا تنتج ولا تضيف إلى العالم غير المشكلات. ورغم هذا فإن بصيص من الأمل باقً في شباب هذه الأمة ليقوموا بثورات حقيقة، بعمليات تطهير حسب المفهوم اليوناني Catharsis، في فن المأساة عند أرسطو، أي معالجة الداء بالداء بغية تطهير المنطقة كلها من أدرانها المتقرحة، التي كادت تأتي علينا جميعًا.