بورخيس كاتب على الحافة 7: أبنية خيالية


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4730 - 2015 / 2 / 25 - 12:39
المحور: الادب والفن     

بورخيس كاتب على الحافة 7: أبنية خيالية
(فى فصول)
تأليف: بياتريث سارلو
ترجمة: خليل كلفت
بياتريث سارلو (1942-) ناقدة أدبية وثقافية أرجنتينية. ومنذ 1978 أدارت المجلة الثقافية وجهة نظر، أثناء فترة استمرارها على مدى ثلاثة عقود، وكانت أهم مجلة للنظرية الاشتراكية في الأرجنتين وقد أُغلقت بعد تسعين عددا طوال ثلاثين عاما. تفتح مقالات سارلو الكثيرة في مجلة وجهة نظر ومجموعة كتبها إمكانيات جديدة للقراءات، أكثر مما تقدم المزيد من القوالب النظرية أو النماذج النقدية.
الفصل الخامس
7: أبنية خيالية
سنحاول الآن قراءة ثلاث قصص هي "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" Tlö-;-n, Uqbar, Orbis Tertius ، و"مكتبة بابل" La Biblioteca de Babel، و"اليانصيب في بابل" La loterí-;-a en Babilonia، محللين التنظيم السردي لهذه القصص من خلال المجازات والصور البلاغية التي أوجزناها في الفصل السابق. ولعلنا نكون قادرين على بناء معنى ما من نموذج العوالم الخيالية التي تطورها هذه القصص عن طريق وصف شكل وقواعد نظامها القصصي. وسوف ندمج سطورا متباينة في ظاهر الأمر في فرضية حول الطريقة التي يتحدى بها بورخيس، من خلال مواقف سردية فلسفية، طبيعة النظام ذاتها. وتشير المسائل التي تشكل أساس هذه القصص إلى واحدة من أعقد مشكلات بورخيس: كيف يمكن تحويل عالم في حالة فوضى إلى نظام، رغم أن نظامه يمكن أن يفضي إلى نظام كابوسي؟ وعن طريق تنظيم الفوضى، يكشف النظام القصصي عن عالم يوتوپيّ utopian (وبالأحرى ديستوپي dystopian= لايوتوپي).(1)
وقد أشار عدد من نقاد الأدب (2) إلى أن التصميم السردى والمكاني لقصة "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" مماثل لبنية قصة داخل قصة structure en abîme. ذلك أنه وفقا لمدخل من مداخل الموسوعة الأنجلو- أمريكية Anglo-American Cyclopaedia، نعلم أن أوكبار بلد يقع بصورة مبهمة في آسيا تتميز حدوده بأنهار وجبال لذلك الإقليم ذاته (لأوكبار). وهذا يساوي عدم وجود أيّ تعريف على الإطلاق لأن معالم الحدود داخلة في المكان الذي يُفترض أن تحدّه هذه المعالم، ولا تحيل إلى أيّ بلد آخر معروف (وهذا تصوير مكاني بليغ لمفارقة منطقية). وتيلون إقليم خيالي وأسطوري في بلد- أوكبار- يتضح فيما بعد أيضا أنه بناء جغرافي وثقافي خيالي. ومع الاتضاح التدريجي للحبكة يغدو تيلون كوكبا من اختراع إحدى الطوائف بواسطة اللغة وحدها. وأخيرا فإن أوربيس تيرتيوس هو العالم الموصوف بعبارات اللغة التي ينطقون بها على كوكب خيالي- تيلون- سبق وصفه بدوره بأنه إقليم أسطوري في بلد مبهم ، أوكبار. ويستدعي هذا التسلسل المتماسك الحلقات لبلاد وأقاليم لا وجود لها بنية قصة داخل قصة. ويغدو من السهل أن نتعرف هنا على مثول صور متعددة مركبة، كما في مرآة تعكس مرآة.
وفي بداية القصة يكتب بورخيس: "أدين باكتشاف أوكبار لاقتران مرآة وموسوعة".(3) وكانت المرآة قد ورد ذكرها على لسان صديقه بيوي كاساريس، مستشهدا بأحد كبار المهرطقين من أوكبار حيث نسب إليه أنه أعلن أن المرايا والجماع "شيئان كريهان لأنهما يضاعفان عدد البشر". ويؤدي هذا الاقتباس إلى بدء البحث عن الموسوعة الأنجلو أمريكية (وهى، كما يخبرنا بورخيس، إعادة طبع للموسوعة البريطانية: Encyclopaedia Britannica: نسخة دقيقة أو ربما ليست دقيقة بكل معنى الكلمة). وهنا يجمع بورخيس ببراعة بين شيئين، المرآة والموسوعة، من شأن كل منهما بناء صور داخل صور en abîme images: الموسوعة مرآة مفاهيمية لعالم يمكن لتصنيفه أيضا أن يشتمل أيضا على فكرة موسوعة، ويمكن التفكير فيه على أنه "ألف" Aleph كلفظة وكألفباء.
وتقدم القصة، بطريقة متشابكة من الصعب متابعتها إلى حد ما، الأحداث السردية التالية (التي أَعَدْتُ ترتيبها بالسنوات):
1935: ذات مساء، يذكر بيوي كاساريس لبورخيس بلدا اسمه أوكبار قرأ عنه في أحد مجلدات الموسوعة الأنجلو أمريكية. ويتصادف أن توجد طبعة منها في منزل (فيلا) في الضاحية كانا قد استأجراه بصفة مؤقتة لكنهما يكتشفان بعد البحث فيها أنه لا وجود لمدخل عن أوكبار. ويُصرّ بيوي كاساريس على أنه قرأ عن أوكبار في الموسوعة وبعد ذلك بأيام قليلة يأتي بمجلد يبدو مماثلا للمجلد الذي سبق أن بحثا فيه، إلا أنه يشتمل على أربع صفحات إضافية تتضمن المقال الخاص بأوكبار. والمعلومات الواردة مبهمة، وتيلون مذكور باعتباره إقليما أسطوريا في أوكبار.
1937 أو 1938: يجد بورخيس المجلد الحادي عشر من موسوعة أولى عن تيلون A First Encyclopaedia of Tlö-;-n، وكان مرسلا إلى هربرت آش Herbert Ashe، وهو شخص كان قد التقى به عدة مرات في فندق بالضاحية. وهذا المجلد، الذي كانت صفحته الأولى مطبوعة بشكل بيضاوي يحمل عبارة "أوربيس تيرتيوس"، يشتمل على معلومات ثمينة عن تيلون، يقدم بورخيس الكثير منها في صورة مواقف سردية فلسفية في القصة.
1941: يتم كتشاف رسالة من جونار إرفيورد Gunnar Erfjord إلى هربرت آش يجري فيها حلّ لغز تيلون جزئيا. ففي أوائل القرن السابع عشر فكرت جمعية سرية في مهمة اختراع بلد. وكان على كل عضو من أعضاء الطائفة أن يختار تابعا له في هذا المشروع اللانهائي أو اللانهائي تقريبا من حيث المبدأ. وبعد مائتي سنة من الأعمال الصامتة أو السرية أو المتقطعة، تُعاود الجمعية الظهور في أمريكا. وفي 1824يجند أحد أعضائها مليونيرا يتحمس للمشروع ويقترح الخطة الأكثر طموحا والمتمثلة ليس في مجرد اختراع بلد بل في اختراع كوكب. وأخيرا، في 1914، تتمكن الجمعية من نشر المجلد الأخير من موسوعة أولى عن تيلون؛ وأصبح من المطلوب في ذلك الحين أن تقدم هذه الطبعة الأولى الأساس لطبعة منقحة، لكنْ على أن تكون هذه المرة طبعة مكتوبة بإحدى لغات تيلون. وتجري تسمية هذه الطبعة الأولى المنقحة المعتزمة لعالم خيالي باسم أوربيس تيرتيوس ( العالم الثالث: وهو تعبير لم يكن له شيء من أصدائه الراهنة عندما كتب بورخيس قصته). والمجلد المرسل إلى هربرت آش والذي وجده بورخيس في 1937هو أحد مجلدات هذه الطبعة الجديدة للموسوعة.
1942: تبدأ أشياء غريبة جدا، من تيلون، في الظهور في الأرجنتين من كل مكان: إنها أشياء ثقيلة جدا ويعثر بورخيس وأحد أصدقائه على أحد هذه الأشياء في دكان ريفي بعيد في سهول الپامپا.
1944: يكتشف صحافي من ناشڤ-;-يل المجلدات الأربعين من موسوعة أولى عن تيلون. ويكتب بورخيس حاشية تدلي بافتراض أن كافة اللغات والبلدان محكوم عليها بأن تختفي وأن العالم الحقيقي سيغدو تيلون.
هذه هي "وقائع" الحبكة، أيْ ما يمكن النظر إليه على أنه التاريخ الخارجي لاكتشاف أوكبار، وقد قمت بإعادة ترتيب وبتبسيط تسلسل الأحداث الأكثر تعقيدا عند بورخيس. ويرتب بورخيس هذه المادة من خلال وسيلتين من وسائله المفضلة: العزو الزائف إلى خليط من النصوص الموجودة والمخترعة، وتقديم كثيرين من أصدقائه في الحياة الحقيقية. وهكذا فإن الحدود بين ما حدث فعلا، وما كان يمكن أن يحدث، وما لم يكن من الممكن أبدا أن يحدث، تتداخل بواسطة منهج احتمالات يمنح مكانة رفيعة لاختراع باسم شخص حقيقي موجود، ويعزو إلى كتب ذات طبيعة ملتبسة (كتب يمكن أن توجد، ويبدو أنها موجودة) منشأ موقف خرافي أو اقتباس ضروري. ولا حاجة إلى القول إن هذا المنهج في العزو والاحتمال يطرح مكانة الواقع للنقاش؛ كما أنه يشير إلى الطبيعة المُنْفِذة (المسامية) للقصة، التي تتوق إلى الإمساك بشيء يفرّ منها دوما.
لننتقلْ الآن إلى المعلومات القصصية عن أوكبار وتيلون. وتختار القصة أن تقدم تصورا تيلونيا عن الكون، واصفة لغته وطبيعة علم نفسه- العلم الوحيد الذي يُعتقد أنه ممكن وجدير بالاهتمام. وقد طور العلماء في تيلون صيغة متطرفة للمثالية، ويظهر اسم [جورج] بيركلي [George] Berkeley كإشارة عابرة قبل أن يجري وصف تلك الوفرة من الفرضيات التي تؤلف جوهر أصالة الفكر التيلوني:
إن حقيقة أن كل فلسفة هي بحكم التعريف لعبة جدلية، فلسفة "كأن" Philosophy des Als Ob، أدت بالفلسفات إلى التضاعف. وهناك وفرة من أنساق لا تُصَدَّق ذات هدف سارّ أو من نمط حسي. وميتافيزيقيّو تيلون لا يبحثون عن الحقيقة أو حتى عن الصدق في محاكاة الواقع، بل يبحثون بالأحرى عن المدهش. وهم يعتبرون الميتافيزيقا نوعا من الأدب الفانتازي. وهم يعلمون أن النسق لا يزيد عن كونه خضوع كافة مظاهر الكون لأي مظهر من هذا القبيل.(4)
ويمكن تطوير المواقف السردية من خلال استخدام صيغة "كأن" هذه: تصوُّرالعالم وكأنه مكتبة، والقضاء والقدر وكأنهما صورة النظام، كما في "مكتبة بابل" و"اليانصيب في بابل". وتسمح صيغة "كأن" بانتشار اختراع متماسك (نوع الخيال العقلاني، أو الشكل المنطقي للفانتازي، اللذين نجدهما عند بورخيس). ويطور حكماء تيلون فلسفة "كأن"، ليس فقط لعرقلة العالم بل كذلك أيضا لتعديل الطريقة التي يتم بها إدراكه والطريقة التي يوجد بها بالنسبة لسكان تيلون. وهم يفهمون الزمان، والمكان، والجوهر (المادة)، والهوية، وفقا للاتجاهات السائدة في الفلسفة. غير أن المبدأ المنهجي (الميثودولوجي) "كأن" للاختراع الفلسفي طريقة تسمح بتكاثر مختلف صيغ "الواقع" (ما دامت لا تُناقض بعض القوانين الأساسية جدا لتيلون، أيْ تلك التي مؤداها أن الكون "سلسلة من العمليات العقلية التي لا تتطور في المكان بل بصورة متعاقبة في الزمان"، أيْ التي مؤداها أن المكان، والجوهر (المادة)، لا يدومان في الزمان). ويقدم بورخيس بإيجاز هذه الصيغ فيما ينتهي إلى أن يشكل قسما أساسيا من القصة. وما يثبته بورخيس هنا هو أن القصة يمكن بناؤها بمواد لا يجري التفكير فيها عادة باعتبارها قصصية. وهو يبني حبكته وفقا للمباديء التي يعزوها إلى الحكماء في تيلون، بحيث تكون جاذبية الأنساق وجمالها، قدرتها على إثارة الدهشة (على العمل كمواقف سردية فلسفية)، هي التي تشكل هنا أيضا أساس قيمتها.
كما أن هذا الموقف السردي الفلسفي يفتح الباب أمام مشكلة شروط وحدود المعرفة والفهم: ما يمكن إدراكه ليس أبدا الكون أو قوانينه، بل بالأحرى نموذج استدلالي قام ببنائه البشر وقوانينهم. فمتاهة الإله لا يمكن أن يدركها الفهم البشري (وبورخيس لاأدريٌّ فيما يتعلق بوجود إله أو آلهة)؛ وحدها المتاهات التي يبنيها البشر يمكن أن يفهمها العقل البشري. وبناء البلد الخيالي تيلون (وهو إلى حد كبير اختراع مجموعة من المدارس الفلسفية ) إنما هو تمرين في فرض نظام يمكن، مهما بدا غريبا، أن يتأمله العقل البشري بفضل قدرته على قبول المفارقة.
وبكلمات أخرى ينبغي أن نأخذ في اعتبارنا الأفكار التي تتعارض مع الإدراك العام: المفارقة مرآة معكوسة.
والنظام الفانتازي لكوكب تيلون هو بمثابة يوتوپيا تنتقد الفوضى التجريبية والمرجعية التي يحاول بورخيس أن يتفاداها من خلال وضع الحبكات التي تبلغ حد الكمال لقصصه. ويساوي النظام الخيالي استجابة قصصية للمسألة الفلسفية، غير أنها استجابة صيغت في إستراتيجيات جمالية تتبنى بعض أشكال هذا النقاش الفلسفي.
ويمكن أن نلخص بإيجاز شديد، السمات الرئيسية للثقافة التيلونية كما يلي (ا) لا وجود للزمان. وفيما تجزم مدرسة فكرية تيلونية بأننا نعيش في حاضر أبدي، غير محدود وغير قابل للقسمة إلى ماض ومستقبل، تؤكد أخرى أن الزمان كله قد مرّ بالفعل وأن ما نعيش فيه ليس سوى ذكرى. (ب) الهوية، وفقا لهذا التصور، لا يمكن تخيُّلها، لأنه ما من جوهر (مادة) يمد وجوده عبر الزمان: فكرة الذات، كما تتصورها الفلسفة الحديثة منذ ديكارت، يجري تقويضها بعمق على هذا النحو. (ج) لا يمكن بحال من الأحوال أن توجد أية مقولات عامة أخرى في عالم يجري إنكار اتصال (استمرار) الزمان أو الجوهر (المادة) فيه.
ويؤيد حكماء تيلون نظرة مثالية إلى العالم كما أن كل شيء في ثقافة تيلون يفترض سلفًا المثالية الفلسفية. ويصف بورخيس بكل عناية نظريات لغوية وفلسفية تيلونية تتطابق في كثير من الحالات مع نظرياته هو. وقد تخيل حكماء تيلون أنه لا وجود لاتصال مكاني، وأن المكان غير متصل بحكم التعريف، وأن مكانا أو شيئا في المكان لا يكون أبدا الشيء ذاته إذا نظرنا إليه من وجهة نظر الزمان. ويؤثر هذا أيضا في المبدأ المنطقي للهوية، وفي الطريقة التي اعتدنا عليها في إدراك العالم وفهم أشيائه (فنحن نميل إلى اعتقاد أن قلم الرصاص الذي نستعمله الآن هو نفس قلم الرصاص الذي استعملناه أمس، لأننا نجد أن من المريح أكثر أن نفترض هذه الهوية سلفا).
وفي تيلون لا معنى على الإطلاق لمفاهيم مثل السبب والنتيجة. وإذا أصيبَ مبدأ الهوية، إذا لم يكن هناك اتصال مكاني أو زماني، فإنه لا يمكن بحال من الأحوال عقد صلة بين العلامات والأحداث: السيجارة المشتعلة، والدخان، والنار، تمثل لحظات متميزة في سياق فلا يمكن ربطها ببعضها البعض نحويا أو هيراركيا. وما دام أنه لا وجود، في تيلون، لأية إمكانية لإدراك مفاهيم مجردة كالهوية والسببية فإن العلوم كما نقوم بتعريفها ليست ممكنة. وبدلا من هذا تزدهر مئات الفلسفات التي تجد أساسها في مبدأ "كأن"، وهي أنساق جميلة لا تدعي أية صلة بمرجع خارجي. وبعبارة أخرى فإن لها البنية الأساسية للأدب الفانتازي. ويمثل مبدأ "كأن" إحدى الإستراتيجيات الممكنة للقصة اليوتوپية والديستوپية، حيث تستهلّ فرضية من فرضيات "كأن" اختراع قصة. ويمثل التفكير في الزمان والمكان على أنهما غير متصلين، بدلا من أن يكونا متصلين، النظرة الأساسية إلى العالم في تيلون كما أنه يسمح باختراع مكان خيالي وفقا لقواعد تجد أساسها في إحدى فرضيات "كأن".
وبصورة منطقية تماما لا توجد أسماء في اللغتين الموجودتين في تيلون. وتقوم إحداهما على صفات مركَّبة، والأخرى على أفعال مركَّبة. ذلك أن الأسماء مستحيلة من حيث المبدأ، لأنه لا وجود لأيّ جوهر (مادة) متصل من شأنه أن يقدم الأساس التجريبي/ المنطقي لاسم. والكلمات التي نعتبرها أسماء تأتي في تيلون من تراكم الصفات التي تدل على حالات سريعة الزوال. وبطبيعة الحال فإن هذا النمط من الصفة يمكن استخدامه مرة واحدة فقط لأنه لا يمكن بحكم التعريف لأية حالة أن تكرر نفسها في الزمان.
ويحدث هذا الشيء ذاته مع بعض الأفعال، مثل "يعثر" و"يفقد". فهذان الحدثان كلاهما لا يمكن تصورهما في تيلون لأنه، ما دام لا يوجد أيّ تطابق بين الأشياء ولا أيّ اتصال في المكان والزمان، فإنه لا يمكن فقدان شيء ومن باب أولى فإنه لا يمكن العثور عليه من جديد. وعندما يحدث لشيءٍ شيءٌ نعتبره "فقدانا له" فإن نوعا من شيء ثانوي (يختلف اختلافا مبهما عن الشيء المفقود) يبدأ في التوالد. وتسمى هذه المحاكيات [أو الصور الثانوية] "إرونير" hrö-;-nir ويمكن استخدامها استخداما نافعا في اختراع وتعديل الماضي، وهو نشاط يشغل ويفتن علم الآثار في تيلون. ووجود اﻟ-;- "إرونير"، الذي يألفه كل شخص في تيلون، إنما هو إثبات عملي لغياب أيّ أساس لمبدأ الهوية الذي ترتكز عليه ثقافتنا نحن. وفي كوكب مثالي مثل تيلون، كوكب قامت ببنائه اللغة، فإن "يفقد" يعني "ينسى" و"يعثر" يعني "يتذكر": ويصلح كلا الحدثين لإنتاج اﻟ-;- "إرونير".
وفي تيلون، لا يعني كون شيئين هما نفس الشيء تماما كونهما نفس الشيء؛ لأن مبدأ الهوية لا وجود له. وعلى هذا فإن الفلسفات التيلونية ليس لديها أية طريقة لبناء مقولة الذات، التي تُعَدّ محورية في الفلسفة الغربية في العصور الحديثة. وانطلاقا من هذا الغياب للذات يتعامل بعض نقاد الأدب مع صيغة المؤلف، التي هي افتراضية دائما لأنهم ينسبون مختلف النصوص إلى نفس المؤلف الواحد: "يختارون عملين متباينين- تاو ته تشينج Tao Te Ching و ألف ليلة وليلة، مثلا- وينسبونهما إلى نفس المؤلف الكاتب ثم يحسمون بمنتهى التدقيق سيكولوجيا هذا الأديب homme de lettres المثير للاهتمام ...".(5) وهي استراتيجية ليست غريبة على بورخيس ذاته عندما يكتب مقالاته وقصصه النقدية "الفانتازية".
والحقيقة أن موت مقولة المؤلف ونسبة نصوص بالغة الاختلاف إلى شخصية presona مخترعة صيغة من صيغ بورخيس المفضلة للتأليف في الأدب. وتنطلق كثرة من قصصه القصيرة من فكرة أن التأليف غير وارد (غير جوهري)، كما سبق أن رأينا في قصة "پيير مينار، مؤلف اﻠ-;- كيخوته". وعمل مينار أعظم قيمة من عمل ثيربانتيس، بالتحديد لأن مينار، نظرًا لأنه رجل من القرن السادس عشر، أكثر أصالة وترويعا من ثيربانتيس، مع أن كلا النصين (كيخوته ثيربانتيس، وكيخوته مينار) قد يبدوان نفس الشيء تماما. ويجري تقديم أسباب تفوق مينار في مناقشة عن مبدأ الهوية.
ويقوم بورخيس بنشاط تيلوني مماثل عندما يخترع مؤلفين ثم يكتب مقالات أدبية قصيرة عنهم- مقالات هي في الحقيقة قصص فانتازية. وهذه هي حالة هربرت كوين Herbert Quain، وهو كاتب خيالي يصف بورخيس كتبه الخيالية بالتفصيل. وقصص كوين، بالمناسبة، مماثلة للغاية لقصص تيلون: إنها تشتمل على كافة الاحتمالات الخاصة بحبكة، كما يجري استكشافها جميعا من خلال عدد لامتناه من التشعبات. وفي نظر كوين، كما في نظر حكماء تيلون، فإن "الكتاب الذي لا يشتمل على نقيضه يُعتبر ناقصا": مثله الأعلى للرواية هو أن تعرض كل إمكانية تنطوي عليها حجة؛ ومدفوعا إلى نهايته المنطقية فإن هذا المثل الأعلى يجعل الأدب مستحيلا، أو على الأقل إشكاليًّا للغاية.
وتمثل هذه الشذرات من المعرفة التيلونية والعلم التيلوني الجوهر الفلسفي لقصص بورخيس. غير أن هناك ماهو أكثر فيما يتعلق بالموقف الفلسفي المقدم في قصة "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس". وكما سبق أن رأينا فإن الكوكب عالم فانتازي من اختراع طائفة سرية تعمل ككاتب جمعي. ويقوم وجود تيلون على أساس فرضية مسبقة من فرضيات "كأن"، تقوم بدورها على أساس قدرة اللغة على أن تنتج واقعًا، أو على الأقل ما يمكن أن يُسمَّى واقعا من وجهة نظر مثالية. وتيلون، الذي صيغ باللغة، يجد أصوله في أحد الأشكال المفضلة للتناص textuality(xvii) عند بورخيس: الموسوعة، وهي في هذه الحالة نسخة من الموسوعة البريطانية الأثيرة لدى بورخيس. كما أن تيلون ينبثق من نشاط طائفة، أيْ شكل تنظيمي سحر بدوره عقله. والموسوعة الأولى عن تيلون يتوپيا تناصِّية textual، العالم الكامل للقصة الفلسفية. غير أن تيلون يبدأ، في نهاية القصة، في أن يغزو بعدواه العالم الناقص الذي نعيش فيه: تعبُر أشياء من تيلون الخط الرفيع للغاية بين عالم من الكلمات، يُعامَل بما هو كذلك لأنه في موسوعة، وعالم من الكلمات يُعامَل على أنه "واقعي" (بين علامات تنصيص تهكمية)، لأنه في هذا العالم يمكن أن يجد القراء إشارات إلى بورخيس، وبيوي كاساريس، ونصف دزينة من الكتاب الأرجنتينيين الآخرين. وفرضية "كأن" التي ينشأ منها تيلون تكشف عن قوة المعتقدات المثالية للحكمة التيلونية، وتبدأ أشياء من عالم "كأن" في غزو الواقع من خلال عملية من التلويث الصامت.
واللغات الخيالية ماثلة في صميم الموقف السردي الفلسفي لهذه القصة القصيرة. وفي الأصل الإسپاني يشير بورخيس، فيما كان يصف إحدى لغتيْ تيلون، إلى اللغة الخيالية التي اخترعها صديقه المصور إكسول سولار، والتي كانت مبنية على أساس نوع من أجرومية لغة الإسپرانتو Esperanto مع مفردات كريولية وپورتينيووية porteñ-;-o (= بوينوس آيرسية).(6) ومن الجلي أن هذه اللغة كانت مبنية على المحاكاة الساخرة. وتسمح لنا هذه الإحالات، مهما كانت تهكمية، بأن نرسم خريطة لاهتمام بورخيس باللغات ونظم التمثيل الاصطناعية والخيالية. وهذه اللغات والنظم في نظره أقوى سحرا من اللغات الحقيقية لأنها لا ترتبط بأية صلات عشوائية مع واقع هو بحكم التعريف في حالة فوضى. وعلى سبيل المثال فإن جون ويلكينز، وهو شخصية مخترعة في أحد مقالات بورخيس القصصية، والتي سبق الاستشهاد بها، قام بتقسيم الكون إلى أربعين مقولة، تشير إليها أسماء أحادية المقطع يتألف كل اسم منها من حرفين أو صوتين لا غير. وتتفرع هذه المقولات، بدورها، إلى أنواع يشير إليها صوت إضافي ساكن؛ ويدل على الأنواع المنقسمة إلى فصائل صوت ملفوظ. ولغة ڤ-;-ولاپوك Volapuk (العالمية) هي لغة أخرى اصطناعية يستدعيها بورخيس: يمكن لأفعال هذه اللغة، التي اخترعها كاهن ألماني، أن تتخذ أية صيغة تشتمل على صيغة الإمكان وصيغة الأمر وصيغة الظن من نمط “peglidalod”، بمعنى "ينبغي تحيتك". وقد حلت محل الڤ-;-ولاپوك في نهاية الأمر الإسپرانتو، المبنية على الجذور اللاتينية. ورغم أن اللغات الخيالية مستحيلة الاستعمال فإنها يمكن أن تكون دقيقة منطقيًّا لأنه جرى تركيبها بوعي. وهذا ما يمنحها تفوقا على ما نعرفه باللغات الطبيعية التي هي، بحكم التعريف، نتاج عمليات اجتماعية- تاريخية.
والتاريخ عند بورخيس كما عند جويس، قد ينقلب إلى كابوس. والترياق الوحيد ضد فوضاه، التي تعكس فوضى الواقع، هو النشاط المتمثل في الاختراع. و اللغات التي من النمط الذي نلقاه في تيلون لا تعكس العالم ذاته بل بالأحرى فكرة عن العالم. وهي تعمل على أساس فلسفي وليس على أساس اجتماعي أو تجريبي. وللغات تيلون علاقة شفافة بالمفهوم المثالي عن الواقع: إنها لا يمكن أن تعاني من اضطراب التجربة. فهي، على العكس من ذلك، تقوم بتشكيل التجربة.
غير أن اللغات الخيالية لها مزايا رمزية أخرى. فهي لا تقوم فقط بمنع فوضى التجربة من أن يجري نقلها إلى الفكر واللغة. إنها أيضا تقاوم الفوضى الاجتماعية الماثلة في صميم أيّ مجتمع حديث. واللغات الحقيقية تحمل سمات الاختلاط الديموجرافي، خاصة في مجتمعات مثل تلك التي في بلدان أمريكية لاتينية مثل الأرجنتين، حيث حل محل السكان الإسپان الكريوليين (بأكثر من 50 في المائة) مهاجرون من جنوب ووسط أوروپا. وهذه التغيرات الديموجرافية التي نظر إليها المثقفون الأرجنتينيون في الثلث الأول من هذا القرن على أنها خطيرة من وجهات نظر أيديولوجية، وثقافية، ولغوية، وسياسية، يمكن تجاوزها رمزيًّا عن طريق نسق تجريدي لموقف فلسفي وسردي.
هذا، بطبيعة الحال تفسير أيديولوجي لقصص بورخيس الفانتازية، وهو تفسير كان سيختلف معه بورخيس بشدة. ومع هذا فإنه يمكن تبريره من الناحية الاجتماعية والتاريخية؛ والأهم من هذا هو أنه يتطابق مع شواغل بورخيس ذاته بشأن الثقافة القومية في العشرينات، ومع إعادة قراءته للماضي القومي ومع إعادة كتابته للأدب الجاوتشي. وكما سبق أن رأينا ابتكر بورخيس صورة لبوينوس آيرس كمدينة لم تمسسها الهجرة ولا التعقيد الديموجرافي. وبدتْ بوينوس آيرس الفعلية التي عاش فيها بورخيس في حالة من الفوضى كما بدا عدم تجانسها مهدِّدا بالأخطار وغير جماليّ. ورغم أن رد فعله الرئيسي على هذه التجربة قد تمثل في إبداعه لأسطورة عن بوينوس آيرس مبنية على أساس الحواف las orillas فليس من العبث بحال من الأحوال أن نقرأ قصصا فانتازية مثل "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" بوصفها إستراتيجية أخرى لتأسيس النظام بالنسبة لمجتمع كانت نُظُمه القديمة آخذة في التلاشي.
وقد أشار بورخيس غير مرة إلى أن قصص كافكا القصيرة (التي ترجمها بورخيس نفسه باقتدار) لها حبكات ذات "بساطة مفزعة"، وأرجع التأثير الجمالي لتلك القصص إلى هذه السمة. وهي ليست مجرد سمة شكلية، كما تتميز بها القصة التي ننتقل إلى بحثها الآن: "مكتبة بابل". وقد وصف بورخيس هذه القصة بأنها "كافكاوية". ورمزها الرئيسي، مستلهم من تجربته كأمين مكتبة في بوينوس آيرس، والتي تصفها القصة، بكلمات بورخيس، من خلال عدسة "تكبير حلميّ".(7)
وحتى إذا غضضنا النظر عن هذه التفاصيل البيوجرافية وعن افتتان بورخيس الدائم بالنظام وبالترتيب المادي أو الخيالي للكتب فإن المكتبة تظل أحد الموضوعات (الموتيفات) الرئيسية في قصصه وشعره. وتبدأ القصة بهذا الموضوع مستخدما كمجاز:
الكون (الذي يسميه آخرون المكتبة) يتألف من عدد غير محدود وربما لانهائي من القاعات السداسية الشكل، بينها مناور ضخمة للتهوية، ومحاطة بدرابزينات واطئة للغاية. ومن أيّ واحد من هذه الأشكال السداسية يمكن أن يرى المرء، بصورة لامتناهية، الطوابق العليا والسفلى. وتوزيع القاعات ثابت. عشرون رفّا، خمسة أرفف طويلة على كل جانب، تغطي كل الجوانب ماعدا جانبيْن.(8)
هذا هو الوصف الأول، البسيط، للعالم الافتراضي الذي يتكشف كسرد وكتنظيم مكاني في القصة. فالمكتبة هي في آن معا مكان منظَّم ومتاهة من نوع يُعجب به بورخيس. فهي (المكتبة) هندسية، منتظمة، بدون أية خِدَع إلا في صميم بنيتها، التي تقوم على تكرار لعناصر متماثلة (الشكل السداسي الأضلاع شكل مكاني منتظم ذو طابع متناظر متناسق). وكما أعلن بورخيس ذاته في حديث صحفي،(9) كانت فكرته المكانية الأولى لمكتبة بابل هي أن يصفها كمجموعة لانهائية من الدوائر، لكنْ أزعجته فكرة أن الدوائر ستترك فيما بينها، عندما توضع داخل بنية كلية، مساحات فارغة. وقد اختار الشكل السداسي الأضلاع لبساطته التامة وللتشابه الملحوظ بينه وبين الدائرة.
ومكتبة بابل لانهائية ولامتناهية، لأنه يمكن دائما إضافة شكل سداسي جديد إلى البنية المفتوحة. لكن حيث أن كافة الأشكال السداسية تبدو متماثلة، وحيث أن لها نفس العدد من الأرفف، ونفس طراز المدخل أو المخرج، وحيث أن الكتب التي تحملها الأرفف لها نفس العدد على كل رف في كل جدار في كل شكل سداسي الأضلاع، فإن لانهائية المكتبة لا يمكن اكتشافها تجريبيا، حتى لو تم منح زمن لانهائي لأحد الرحالة. يمكن فقط إدراكها، وبالتالي تحدِّيها، فكريا. وما من طريقة لتأكيدها من خلال المعرفة العملية: إن لانهائية المكتبة افتراض نظري أو مسألة عقيدة. وهكذا فإن المسألة الفلسفية التي تتضمنها القصة تنتج عن المشهد السردي. وبهذا الخصوص يستشهد بورخيس ﺒ-;- [بليز] پاسكال [Blaise] Pascal دون أن يذكر اسمه: "المكتبة [پاسكال: الكون] كرة يتمثل مركزها الدقيق في أيّ واحد من أشكالها السداسية الأضلاع [پاسكال: في كل مكان] ومحيطها لا سبيل إلى بلوغه".(10)
ومن ناحية البنية تتمثل المكتبة أيضا في عين كلية الرؤية a panotopic، يسمح توزيعها المكاني للكتل والدهاليز للمرء برؤية كل مكان فيها من أيٍّ من أشكاله السداسية الأضلاع. ويستدعي التصميم الكلي الرؤية panotopic للمكتبة إلى الأذهان التصميم الخاص بسجن ينبغي أن يكون حُرّاسه قادرين على رؤية كل زنزانة فيه من كل منظور ممكن. وقد درس فوكو هذا التصميم كإضفاء للطابع المكاني على الحكم الاستبدادي، وكرمز لمجتمع تكون فيه الرقابة الكلية ممكنة ولا يُسْمَح فيه بأيّ مكان خاص(بأيّ فكر خاص). والكون الموصوف على أنه المكتبة تنقصه أية فكرة أو إمكانية للخصوصية: تغدو كافة النشاطات، بحكم التعريف، عامة. "إلى يسار ويمين المدخل هناك حجرتان صغيرتان جدا. في الأولى، يمكن أن ينام المرء واقفا؛ وفي الأخرى أن يقضي حاجاته إلى التغوط".(11) وبحكم التعريف ينبغي أن تنسجم كافة النشاطات مع الممارسة الوحيدة الممكنة في مكتبة: البحث عن معنى مكتوب.
وتبدو كافة الكتب في المكتبة متماثلة تماما: كل كتاب منها يقع في أربعمائة صفحة، وكل صفحة في أربعين سطرا، وكل سطر في ثمانين حرفا. والكتابة المطبوعة على أغلفة الكتب لا تدل على محتواها. ونعلم أن عدد الحروف الممكنة خمسة وعشرون وأنها تقترن في أغلب الأحيان، وفقا لبورخيس، بصورة فوضوية. وفي بعض مناطق المكتبة، يعتقد أمناء المكتبة أن من العبث أن نحاول أن نجد معنى في هذه الكتب، وأن هذا النشاط يقوم على غيبيات قديمة لا غير. وهناك أيضا فلاسفة في المكتبة يرعون اللاأدرية ويعتقدون أن الكتب ليس لها أيّ معنى خفيّ أو ظاهر. ويعرف الجميع أن كل كتاب ليست له أية نسخة مطابقة، وأنه في حد ذاته أصل. غير أن من المعروف أيضا أنه يوجد عدد غير محدود من الكتب التي لا تتضمن سوى تباينات طفيفة.
والافتراض الذي تقدمه القصة من خلال راويها هو أن المكتبة تشتمل على كل شيء بالكامل. ويقدم بورخيس قائمة من قوائمه النموذجية، موحِّدا عناصر غير متجانسة في بنية قصة داخل قصة:
التاريخ التفصيلي بدقة للمستقبل، السِّيَرالذاتية لرؤساء الملائكة، الفهرس الأمين للمكتبة، الآلاف والآلاف من الفهارس الزائفة، إثبات زيف تلك الفهارس، إثبات زيف الفهرس الصحيح، إنجيل باسيليدس الغنوصي، التعليق على ذلك الإنجيل، التعليق على التعليق على ذلك الإنجيل، القصة الحقيقية لموتك، ترجمة كل كتاب في كل اللغات، إقحامات كل كتاب في كل الكتب.(12)
وكنتيجة منطقية لطبيعة ومحتويات الكتب في المكتبة، يعلن بورخيس أن حل "الألغاز الأساسية للبشرية" سيتم العثور عليه هناك، وأن أربعة قرون قد انقضت مع ذلك منذ بدأ البشر يبحثون عن هذا الحل دون أن يعثروا عليه في يوم من الأيام. ويضيف بورخيس أنه "لا أحد يأمل في العثور على أيّ شيء" في الوقت الحالي. أما البحث، الذي يجري القيام به في فضاء لانهائي مليء بالاقترانات اللانهائية، فلا يمكن أن يوجهه المنهج، بل لا مناص من أن توجهه المصادفة. وينظِّم بورخيس سرده وفقا للبناء المتعارض للتناقض اللفظي: منهج متطلبات المكتبة هو بحكم التعريف نقيض المنهج. ومنطق المكتبة منظَّم بطريقة لا يمكن معها إدراكه، ولأن المكتبة هي الكون فإن منطق الكون لا يمكن بلوغه. ذلك أن كل شيء موجود في المكتبة غير أنه لا يمكن العثور عليه.
وبالإضافة إلى هذا فإن المكتبة هي كوْن تحكمه حتمية جبرية بحكم بداهة أن كل شيء، الماضي، والحاضر، والمستقبل، مكتوب في مكان ما، في كتاب ليس هناك من احتمال لأن يبوح بمحتوياته (ويكتب بورخيس بشيء من الرثاء: "قصة موتك"). وهذا الأفق التعيس لا يقلل من الحتمية بل يؤكدها بالأحرى. وبصرف النظر عن الفلاسفة اللاأدريين وأولئك الذين وقعوا في اليأس، يعرف البشر أن قدرهم مكتوب، وأن حيواتهم جرى ترتيبها من قبل، وأنه محكوم عليهم بالبحث عن معنى ليس بالمستطاع إدراكه. والحياة ذاتها تحصيل حاصل، لأن كل شيء يمكن القيام به، أو التفكير فيه، أو قوله، سبقت كتابته في الماضي في أحد كتب المكتبة. وواقع أن هذا الكتاب لم يُعثر عليه بعد (أو لن يُعثر عليه أبدا) لا يمحو حقيقة أنه إذا جرت كتابة حيوات الناس في مكان ما فإنه لا يمكن تغييرها. كما أن نفس عملية العثور على مفتاح حل كل "ألغاز البشرية"، أيْ طريقة الوصول إلى ذلك الكتاب بالذات، مكتوبة؛ ومكان ذلك الكتاب مُبَيَّن في أحد الفهارس. غير أن أمناء المكتبة يعرفون أن هذا الفهرس لم يتم (وبحكم التعريف لن يتم) العثور عليه: لا شيء يمكن العثور عليه في كون لانهائي ودائري. وكما يعلن بورخيس في نهاية القصة: "وإذا كان لرحالة أبديٍّ أن يعبرها في أيّ اتجاه فإنه سوف يرى بعد قرون أن نفس المجلدات متكررة بنفس الفوضى (التي ستكون، بتكرارها على هذا النحو، نظاما: النظام)".(13) وإذا صحَّ هذا فإن بحث البشرية في المكتبة- الكون سيكون بلا جدوى. غير أنه لا أحد بوسعه إثبات حقيقة أو زيف تنظيمٍ قواعدُهُ سرية حتى اللحظة التي يعثر فيها شخص ما على هذه القواعد في كتاب، وتلك اللحظة إما أنها مستحيلة (لأن الكتب مكتوبة عشوائيا ولا تنقل أية رسالة) أو أنها غير محتملة (لأن البحث يجري ضمن الفضاء الذي لا ينفد لمعمار كالمتاهة ومتماثل).
وفي هذا الموقف الفلسفي السردي، إما أن تكون الحياة محتمة بقوانين لا يمكن تحديد طبيعتها لكنها حددت إلى الأبد نظاما لا يترك مجالا لإدخال تغيير، وإلا يكون المجتمع منظَّما عشوائيا إلى حد تكون معه الصدفة البحتة، انقلابات الحظ (يظهر شخص ما، بلا سبب، في الكتاب الأساسي)، قوية قوة تنظيم حتمي للعالم. وفي كل من الحالتين، يكون البشر عاجزين عن تغيير مكانهم وقدرهم. وفي كل من الحالتين، تكون القواعد التي تحكم العالم سرية ومحجوبة على رعاياه. وتقود كل حالة من الحالتين بصورة منطقية إلى مأزق.
وفي قصة "اليانصيب في بابل"،(14) نجد المجازات المنطقية والبلاغية (وفي المقام الأول المفارقة والتناقض اللفظي) التي تبيِّن حدود العقل في إدراك الشكل الخاص بنظام، تُنظِّم الموقف السردي أيضا. والقصة يسردها صوت صاحبه مجهول- وربما كان صوت منفيٍّ من بابل، شخص ما ينتمي إلى تلك المدينة غير أنه يروي القصة في مكان آخر، شخص ما وضعه الراهن غير موضح في النص. ويعبِّر راوي القصة عن حنين حادّ إلى العالم الذي هجره، أو جرى ترحيله منه:- "الآن، بعيدا عن بابل وعاداتها الحبيبة"- ويوضح أنه سيشرع في رحلة نحدس أن وجهتها ليست أرض وطنه: "لم يبق أمامي وقت كثير؛ إنهم يقولون لنا إن السفينة على وشك أن ترفع المرساة". ويشتاق هذا الصوت المجهول الصاحب إلى ما يمكن اعتباره حُكْمًا وحشيا ولا إنسانيا، وهو حُكْم أدخله اليانصيب في كافة مجالات العالم المعيش والتجربة المعيشة، ذلك أن اليانصيب، حسب تعبيره، "تكثيف للمصادفة، حَقْن دوريّ للكون بالفوضي".(15)
وكما في كل ناحية من نواحي العالم تقريبا، بدأ اليانصيب في بابل بوصفه تلك اللعبة التي نعرفها جميعا. وفي بداية القرن العشرين، في بوينوس آيرس، كانت أوراق اليانصيب تباع في صالونات الحلاقة ولم تكن تحدث إثارة كبرى عند إجراء السحب ومعرفة نتائجه. ويكتب بورخيس: "كانت فضيلتها الأخلاقية معدومة. فهي لم تكن موجَّهة إلى كافة ملكات الإنسان، بل فقط إلى الأمل". كان اليانصيب يمنح جوائز فقط، وكان المال هو الجائزة الوحيدة. غير أنه في وقت ما في الماضي أعلن شخص ما بعض القرْعات غير المواتية: كان الاشتراك في اللعب يعني حينئذ ليس فقط إمكانية كسب المال بل خسارته أيضا، من خلال الغرامات المالية. وسرعان ما وافقت قلة قليلة من الناس على دفعها، وقررت الشركة التي نظمت اليانصيب استبدال الغرامات بالسجن. واختار كل خاسر هذا الشكل الثاني من العقوبة. وبمرور الوقت، ومع تعاظم نجاح هذا الشكل للرهان السلبي، بدأت الشركة Company (التي يرد ذكرها دائما بهذه الطريقة، بحرف استهلالي كبير وبلا تفاصيل أخرى) في إدخال أنواع أخرى من القرعات غير المواتية: أضيفت عقوبات بدنية تتميز بأقصى الوحشية، مثل فقدان طرف أو لسان أو عين، إلى إمكانية السجن. وسرعان ما بدأت الأنواع الجديدة من القرعات تحكم كل نشاط بابل، وبصورة أكثر جذرية صار من المستحيل التمييز بين ما نتج عن إجراء عملية سحب وما نتج عن عوامل أخرى. وعلى سبيل المثال، كان لا مناص من معاقبة عبد سرق ورقة يانصيب على هذه العمل بإحراق لسانه، غير أن ورقة اليانصيب التي كانت بحوزته كسبت له نفس العقوبة. وكان من المستحيل حسم مسألة ما إذا كان لسان العبد قد تم إحراقه للسبب الأول (السرقة) أم للسبب الثاني (حظه في لعبة اليانصيب).
هذا الطابع الملتبس للأحداث أسر خيال البابليين، وحققت الثورات الشعبية للجميع الحق في الاشتراك في اليانصيب دون دفع مقابل أوراق اليانصيب، التي تَقَرَّرَ منذ ذلك الحين فصاعدا توزيعها بالتساوي. وقد تأسست الشركة بوصفها الحكومة والسلطة العليا للمدينة. ومن الجلي أنه يمكن النظر إلى هذه المقرطة للحق في المقامرة على أنها تعليق تهكمي على توسيع الحقوق المدنية في المجتمعات الحديثة. كما أن الانقلاب الاجتماعي الذي أتى بالحقوق العامة والمجانية في أوراق اليانصيب- وهو نوع من ثورة فرنسية تهكمية- كفل أن يكون لأيّ شخص حر في بابل الحق في الاشتراك فيما كان يُعتبر في ذلك الحين الاحتفال المقدس بسحب أوراق اليانصيب، الذي كان يجري كل ستين ليلة، وكان يحدد مصير المشتركين حتى السحب التالي. وحالما تم تنظيم الحياة على هذا النحو صارت الحياة أيضا مقدسة، لأن القدر حكم المدينة علانية. ومع ذلك، لا أحد كان بوسعه أن يحسم مسألة أية أحداث في حياته نشأت من خلال السحب وأية أحداث كانت نتيجة لسلوكه أو إرادته. وكانت عمليات السحب معقدة؛ وكانت تستخدم نظاما من الإمكانيات المتعددة، وكثيرا ما ارتكب الحكماء الذين كانوا يُجرون عمليات السحب أخطاءً. غير أن الشركة دافعت عن عملها بوصفه إدخال المصادفة في نظام العالم، مؤكدة أن "قبول الأخطاء لا يعني إنكار المصادفة: إنه يعني إثباتها".
ويتركنا هذا التلخيص الموجز للحبكة مع مسألة ما هو نوع المجتمع القصصي الذي يجري وصفه. إنه نظام يوتوپيّ (إذا اقتنعنا بأن اشتياق الراوي إلى بابل اشتياق صادق)، لكنه نظام يوتوپيّ يمكن فهمه على أنه ينتج شروطا ديستوپية dystopian. وكما يتذكر الصوت المجهول الصاحب، كان لليانصيب التأثير المتمثل في إقامة مجتمع كان في وقت واحد استبداديا وعادلا، لأن المصير الاجتماعي لكل فرد كان يتحدد بالمصادفة، وليس بالميلاد أو الجدارة:
مثل كل الناس في بابل، كنتُ حاكم مقاطعة؛ ومثل الكل، عبدًا. وعرفتُ أيضا السلطة المطلقة، العار، السجن. انظرْ: إن سبابة يدي اليمنى مفقودة. انظرْ: من خلال الفتحة المشقوقة في عباءتي يمكنك أن ترى وَشْمًا قرمزيا على بطني. إنه رمز الحرف الثاني: "بيث". وهذا الحرف يمنحني، في الليالي التي يكتمل فيها القمر بدرا، سلطة على الرجال الذين يحملون رمز حرف "جيميل"، لكنه يُخْضعني لرجال حرف "الألف"... وخلال إحدى السنوات القمرية تم إعلاني غير مرئيّ. ارتفع صياحي ولم يردوا عليّ؛ سرقتُ الخبز ولم يقطعوا رأسي. وعرفتُ ما لم يعرفه الإغريق: عدم اليقين.(16)
ويجري تعزيز هذا النظام الديستوپي بعدد من المجازات والوسائل الأسلوبية. هناك في المحل الأول التناقض اللفظي، المجاز الذي يمزج عناصر متناقضة، والذي عن طريقه يجري الاعتراض على المعنى أو تعديله بدمجه مع معني آخر. وفي حالة بابل يُثْبت التناقض اللفظي (الذي يعطي بنية للسرد) حقيقة أن المجتمع يقوم على أساس المصادفة: النظام يسوده مبدأ الفوضى.
وهذا التناقض اللفظي تعززه مفارقة: في حالته النهائية يتطلب اليانصيب عددا لانهائيا من عمليات السحب في سبيل تحديد الأحداث التي لابد من أن تقع خلال فترة محدودة من الزمن. والزمن المطلوب لعمليات السحب ينبغي أن يكون قابلا للقسمة إلى ما لا نهاية، مثل الزمن المطلوب (في مفارقة زينون الشهيرة) للسلحفاة لكي تكسب سباقها ضد أخيل. والأحداث المفزعة للغاية، تماما مثل الأحداث التي لا صلة لها بالموضوع، تحتاج إلى تكاثر عمليات السحب. وإذا كان لابد من قتل شخص ما فلابد من إثبات هذا بعملية سحب. وهناك شخص آخر هو قاتله، وهذا أيضا ينبغي تحديده عن طريق اليانصيب. كما أن ظروف حادث القتل ينبغي أن تجري تسويتها عن طريق عملية سحب، وكذلك الحال فيما يتعلق بالشروط التي تحدد هذه الجريمة، وهكذا دواليك إلى ما لانهاية. وهذا التشعُّب لامتناهٍ كإمكانية، ويحتاج إلى فترة زمنية قابلة للقسمة إلى ما لانهاية.
وهذان المجازان (التناقض اللفظي لنظام يقوم على المصادفة، ومفارقة القسمة اللانهائية للزمن خلال فترة محددة من الزمن) يُنظِّمان النص ويُنشئان عالما افتراضيا، مبنيًّا على أساس لغز فلسفي: المصادفة محتها المصادفة. وحيث يجري عزو كل شيء إلى المصادفة، تغدو المصادفة هي النظام الطبيعي والاجتماعي؛ حقا إن المصادفة لم تعد مصادفة، بل صارت ضرورة. ويدل هذا بالبداهة على أن كافة محاولات الاعتراض على لعبة المصادفة ينبغي أيضا عزوها إلى المصادفة. وهذه القاعدة لا حدود لها وتكرر نفسها في صورة قاعدة داخل قاعدة en abîme. وقد قدمت بابل تناقضا لفظيا بوصفه نموذج النظام الاجتماعي: التنظيم الكلي للمصادفة، مع إلغاء كل إمكانية للإرادة الحرة أو حرية الإرادة.
وليس من الصعب أن نقرأ هذه القصة قراءة مجازية، ليس فقط كتصوير للمصير، بل كتصوير للنزعة الشمولية في الحياة اليومية. ويرد اسم كافكا Kafka متنكرا في النص: يعلق بورخيس تعليقا جانبيا مؤداه أن البابليين الذين كانت لهم شكاوى ضد الشركة اعتادوا أن يتركوا رسائل في مرحاض مقدس اسمه قافقا Qaphqa (التدوين الصوتي لاسم كافكا في صيغة كلمة عربية).
وكما هو الحال في الكوابيس الكافكاوية فإن نظام العالم لا يمكن أن يدركه الخاضعون له، ولا يرتاب المرء في شرعية ذلك النظام فقط بل كذلك في مجرد وجوده. وهذا على وجه التحديد هو ما يحدسه البعض في بابل: أن الشركة لم توجد قط ولن توجد أبدا. أو أن الشركة، رغم أنها كلية القدرة، تقوم بالفصل في موضوعات ثانوية فقط وتترك الباقي لمصادفة مختلفة ومجهولة غير مصادفة اليانصيب. وعلى سبيل المثال فإن الشركة، كما يكتب بورخيس، لا تملك تأثيرا إلا في "صياح طائر، في الفوارق الدقيقة بين الصدأ والتراب، في أنصاف أحلام الفجر". أو تنظم ("الشركة") عملية سحب غير شخصية لأسباب خفية: "يحكم أحدهم بإلقاء ياقوتة زرقاء تملكها تاپروبانا Taprobana في مياه نهر الفرات؛ ويحكم آخر بفكّ أسْر طائر من فوق سطح برج؛ وثالث بالقيام في كل قرن بسحب (أو إضافة) حبة رمل من الرمال التي لا تحْصَى ولا تعَدّ على الشاطيء".(17) وهذه الافتراضات المهرطقة الأخيرة أكثر ترويعا من إمبراطورية الصدفة، لأن عواقب مثل هذه الأفعال الثانوية بجلاء لا يمكن التنبؤ بها أو حسابها.
ومن ناحية أخرى فإنه لا أحد يمكن أن يحكم على صحة هذه الفرضيات والشائعات. فالشركة لا تقدم سوى تفسيرات ملتبسة بشأن قوانينها. أما المفكرون المهرطقون فلديهم أفكار لا يمكن إثباتها. ومؤسسة النظام الاجتماعي غير قابلة للمعرفة وهي تقع خارج حدود التجربة. على أنه يمكن، وهذا استنتاج أكثر ترويعا، إدراك أن المجتمعات لا تخضع لأية قوانين سوى قانون المصادفة العشوائية.
وفي تقديمه، المكتوب في 1941، للطبعة الأولى من الكتاب الذي نُشرت فيه هذه القصص، يقول بورخيس إن "قصة ، رغم أنها فانتازية، ليست خالية تماما من توصيل رمز".(18) وفي واحد من أحاديثه الجانبية النموذجية، يوجهنا بورخيس صوب قراءة القصة باعتبارها قصة سياسية. كانت الفاشية في ذروتها، ولم يكن بمستطاع الديمقراطية الأوروپية ونظامها الحزبي تقديم بديل سياسي لصعود الاستبداد خلال الثلاثينات. وقد طرح كلا هذين الواقعين مسألة مفتوحة، رغم أن الحرب العالمية بدت حلا عنيفا لمشكلة النزعة التوسعية الفاشية. والمسألة هي: ما هو المجتمع؟ ما هو الشكل الذي يمكن من خلاله توطيد النظام بدون استئصال الحرية تماما؟ هل هناك أية طريقة للجمع بين حرية إرادة الأفراد وتنظيم رشيد للمجتمع؟
وينبغي أن أعترف بأن هذه الأسئلة لا تبدو أسئلة بورخيسية للغاية. ومع هذا، ومهما يكن هذا بطريقة غير مباشرة، فإن قصة "اليانصيب في بابل" تتناول هذه الأسئلة، وليس فقط لأنها كانت مطروحة على جدول الأعمال خلال الثلاثينات. وسأستبعد أيّ إيحاء بأن بورخيس كان يعمل على أساس أيّ جدول أعمال عام، رغم أنه كان بالغ الانشغال بالحكم الاستبدادي. غير أن مسألة النظام الاجتماعي يمكن حلها، على كل حال، من وجهة نظر فلسفية وكذلك أيضا سياسية. وفي التراث العظيم للفكر الغربي شغلت هذه المسألة الفلاسفة والكتاب في واقع الأمر. وهي ماثلة في أساس روايات مثل روبنسون كروزو Robinson Crusoe؛ رواية: دانييل ديفو Daniel Defoe ورحلات جاليڤ-;-ر Gulliver Travels؛ رواية: جوناثان سويفت Jonathan Swift- ووقد أحب بورخيس كلتا الروايتين كثيرا واستشهد بهما كثيرا. ولأن المجتمع ليس واقعا طبيعيا فإنه يقدم مشكلات تتعلق بالنواة المركزية للفكر الفلسفي. وتشمل موضوعات البحث هذه تعريف الذات، والقيود الضرورية الموضوعة على العلاقة بين الأفراد الذين يختارون أن يعيشوا في إطار نظام اجتماعي، والصراع بين الحرية والواجب، والبعد الأخلاقي للسياسة، والأساس الأخلاقي للمؤسسات الاجتماعية.
ويمكن قراءة قصة "اليانصيب في بابل" (وكذلك قصة "مكتبة بابل" رغم أنها ميتافيزيقية بوضوح أكثر) ليس فقط كقصتيْن فلسفيتيْن بل كذلك كقصتيْن سياسيتيْن- فلسفيتيْن. وكما رأينا في حالة "تيلون، أوكبار، أوربيس تيرتيوس" فإن هذا لا يعني أنهما تناقشان مشكلة فلسفية بطريقة منهجية، بل يعني بالأحرى أنهما تقدمان هذه المشكلة الفلسفية في سياق موقف سردي. والحقيقة أن الفلسفة السياسية لا يمكن أن نتعلمها من بورخيس. غير أنه يبتكر حقا حبكات يجري فيها التصدي لمسألة فلسفية عن طريق وسائل ومعالجات قصصية. ولا إجابة هناك على السؤال. وما نلقاه، بدلا من ذلك، هو التطوير الأدبي للمشكلة في شكل حبكة مبنية حول افتراضات قصصية تصف نظاما يوتوپيًّا- أو ديستوپيًّا، في الحقيقة.
إشارات
1: حول موضوع النظام والفوضى عند بورخيس، انظرْ: Ana Marí-;-a Barrenechea, La expresió-;-n de la irrealidad en la obra de Jorge Luis Borges, Buenos Aires 1967-;- Jaime Rest, El laberinto del universo, Buenos Aires 1976-;- and Sylvia Molloy, Las letras de Borges, Buenos Aires 1979.
2: بصورة خاصة: Arturo Echavarrí-;-a Ferrari, ‘Tlö-;-n, Oqbar, Orbis Tertius’, Revista Iberoamericana, 100-101, 1977.
3: ‘Tlö-;-n, Oqbar, Orbis Tertius’, Labyrinths, Harmondsworth 1970, pp. 27-43.
4: Ibid., p. 34.
5: Ibid., p. 37.
6: يكتب بورخيس (Ibid., pp. 32-3)، واصفا إحدى لغات تيلون: "وليست هناك أسماء في اللغة الأصلية Ursprache الحدسية لتيلون، وهي التي نشأت منها اللغات واللهجات "الراهنة": هناك أفعال غير شخصية، تُوصَف بلواحق أو "سوابق" وحيدة المقطع ذات مدلول ظرفي. وعلى سبيل المثال: ليست هناك كلمة تقابل كلمة "قَمَر" بل هناك فِعْل يمكن أن يكون بلغتنا "أقْمَرَ" أو "قَمِرَ". وعبارة "ارتفع القمر فوق النهر" تقابلها عبارة: hlö-;-r u fang axaxaxas mlö-;-, "إلور أو فانْج أكساكساكسا ملو" أو حرفيًّا: أقْمَرَ في الأعلى خلف الذي يتدفق دوما. وعند هذه النقطة، تضيف الطبعة الأصلية الإسپانية: "يترجم إكسولْ سولار Xul Solar بإيجاز: upa tras perfluyue lunó-;- أيْ: قمِرَ خلف ما يسيل منطلقا. J. L. Borges, Obras completas, Buenos Aires 1974, p. 435.
7: عمل بورخيس في مكتبات المدينة خلال الأربعينات والخمسينات وصار مديرا للمكتبة الوطنية بعد سقوط پيرون في 1955.
8: ‘The Library of Babel’, Labyrinths, p. 78.
9: Christina Grau, Borges y la arquitectura, Madrid 1989, p. 74.
10: ‘Babel’, p. 79.
11: Ibid., p. 78.
12: Ibid., p. 81-2.
13: Ibid., p. 83-4.
14: Labyrinths, pp. 55-61. ‘The Lottery in Babylon’,
15: All quotations, ibid., pp.55-7.
16: Ibid., p. 55.
17: Both quotations, ibid., p. 60.
18: Prologue to El jardin de los senderos que se bifurcan, Buenos Aires 1941, re-print-ed in Obras completas, Buenos Aires 1974, p. 429.

إشارات أسفل الصفحات

* الفصل الخامس
xvii: Textuality هنا بمعنى intertextuality– المترجم.