ج2 / ف 3 / الارتباط التاريخى بين التصوف والتسول


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4729 - 2015 / 2 / 23 - 22:03
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ج2 / ف 3 / الارتباط التاريخى بين التصوف والتسول
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثانى : العبادات فى مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف
الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام الارتباط التاريخى بين التصوف والتسول :
بداية التسول الصوفي مع بداية التصوف:
1- إفترى الغزالي حديثاً موضوعاً منسوبا للنبى يصف حال الصوفية الأوائل ويعدد خصائصهم ، يقول :(إن من خيار أمتي فيما أنبأني الملأ الأعلى، قوماً يضحكون جهراً من سعة رحمة الله تعالى، ويبكون سراً من خوف عذابه، مؤونتهم على الناس خفيفة، وعلى أنفسهم ثقيلة، يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان ، أجسامهم على الأرض وأفئدتهم عند العرش ) . فجعل من سمات الصوفية الأوائل أنهم عالة على الناس (مؤونتهم على الناس خفيفة)..وقد لعب التسول دوراً في حياة الرواد الأوائل للتصوف، قد كان سري السقطي (يقول للصوفية: إذا خرج الشتاء فقد خرج آذار،وأورقت الأشجار ، وطاب الانتشار فانتشروا ..) أى إنتشروا فى الطرقات تسولا وسؤالا للناس . وتأسياً على ذلك فقد ( كان الخواص لا يقيم ببلد أكثر من أربعين يوماً) .
2- وبداية التصوف اعتماداً على التسول أمر طبيعي يتفق وطبائع الأشياء،ليس فقط لأن التواكل والقعود عقيدة صوفية أو لأن بعضهم أحب الدعة وآثر السكون على الحركة من أجل الرزق، ولكن أيضاً لأنهم كأتباع تين جديد نشطوا إلى نشره بين الأمصار، فعرف تاريخ الصوفية المبكر السياحة الصوفية والتزاور بين الأشياخ وتبادل الأفكار من مصر غرباً إلى أقصى إيران شرقاً. ولابد حينئذ أن تكون عدتهم التسول. وعليه فقد كان الخواص فى سياحته الصوفية ( لا يقيم ببلد أكثر من أربعين يوماً).. وعليه – أيضاً – يمكن ان نفهم بعض ما تحت السطور في الحديث المفترى الذى أورده الغزالي يصف حال الرواد الصوفية (مؤونتهم على الناس خفيفة، وعلى أنفسهم ثقيلة ، يلبسون الخلقان ويتبعون الرهبان) فقد اغرم الرواد الصوفية بالحديث مع الرهبان، واحتوت أقاصيص السياحة الصوفية كثيراً من الحوار بين الجانبين وتنتهي الأقصوصة ــ عادة ــ بإسلام الراهب على يد الصوفي ، وربما تحكى الاسطورة تفوق الصوفى بكراماته على الراهب ومعجزاته ، مما يجعل الراهب يعلن للصوفى إسلامه ، وبهذا تنتهى الاسطورة بالنهاية السعيدة شأن الأفلام المصرية . ومعلوم ان الراهب أحيانا يعيش عالة على مجتمعه فالصوفية حين كانوا (يتبعون الرهبان) فإنهم تبعوهم في أشياء كثيرة منها الرهبانية والتسول، وان كان بعض الرهبان قد حول الأديرة إلى مواقع إنتاج وجنات من البساتين .
3- وابراهيم بن أدهم الرائد الصوفي الذى ترك – بزعمهم الملك – وتصوف وطاف في البلاد – لم يستنكف أن يمد يده للتسول من نصراني في قصة طويلة ذكرها الغزالي ثم اليافعي في العصر المملوكي.
وبنان الحمال احتاج إلى جارية تخدمه فأرسلت له إمرأة من سمرقند بجارية هدية .. وعلى فرض صدق هذه الرواية فهى تدل على عمق الترابط بين الصوفية مهما تباعدت بينهما المسافات ..
4- وأصبح التسول من لوازم الصوفي في الأسفار والأمصار ، حتى كان الصوفي يحيى بن معين يقول (إني لا اسأل أحداً شيئاً، ولو أعطاني الشيطان شيئا لأكلته) فهجره أحمد بن حنبل وكانت بينهما صحبة طويلة ،فاعتذر يحيى وقال كنت أمزح.فقال: أتمزح بالدين؟! . وبعضهم كان يعيش عالة على عجوز تأتي له برغيفين كل يوم . ويقال عنها (تلك الدنيا امرها الله أن تخدم أبا عاصم ) ، أى تنكرت الدنيا فى هيئة إمرأة عجوز كى تطعم ذلك الولى رغيفين ( حاف ) كل يوم ..فأين الغموس أيتها العجوز ؟ !!
5- وفي القرن السادس – بعد الغزالي – كثر تسول الصوفية في الخوانق . فقال عنهم ابن الجوزي ( منهم من يقدر على الكسب ولا يعمل، ويجلس في الرباط أو المسجد ويعتمد على صدقات الناس وقلبه معلق بطرق الباب ) أى يجلس منتظرا قدوم المحسنين ، ويقول ابن الجوزى عن أولئك الصوفية القاعدين متبطلين فى الخوانق : ( ولا يبالون من بعث إليهم فربما بعث إليهم الظالم والماكس فلم يردوه .. ) .
أى يعيشون على صدقات تأتى من الظالمين ، ومن أموالهم الحرام . ويحكي إبن الجوزى عن نفسه ( ولقد دخلت بعض الأربطة فسألت عن شيخه فقيل لي : قد مضى إلى الأمير فلان يهنئه بخلعة، وقد خلعت عليه . وكان ذلك الأمير من كبار الظلمة فقلت : ويحكم ما كفاكم أن فتحتم الدكان حتى تطوفون على رءوسكم بالسلع ، يقعد أحدكم عن الكسب مع قدرته عليه معولاً على الصدقات والصلات، ثم لا يكفيه حتى يأخذ ممن كان، ثم لا يكفيه حتى يدور على الظلمة فيستعطى منهم..) . ويقول : ( ولقد بلغنا ان بعض الصوفية دخل على الأمراء الظلمة فوعظه، فأعطاه شيئاً ، فقبله، فقال الأمير: كلنا صيادون وإنما الشباك تختلف..) . . فالحاكم الظالم له ( شبكة ) حربية عسكرية يصطاد بها الأموال سلبا ونهبا ، والشيخ الصوفى له أيضا ( شبكة ) ناعمة يتسول بها بعض المال السُّحت من هذا الحاكم الظالم . وكل منهما يحتاج الآخر. الحاكم محتاج للولى الصوفى الذى يحظى بتقديس الناس ، والشيخ الصوفى محتاج الى حماية الحاكم الظالم وأمواله . الحاكم الظالم يركب الشيوخ ، والشيوخ يركبون الشعب . الحاكم يأخذ الأموال بالعسف والشيخ الصوفى يأخذ المال بالتسول . وفى عصر ابن الجوزى فى القرن السادس الهجرى نرى تسول الصوفية قد انتشر بانتشار التصوف فتعدى العامة وأهل الكتاب إلى الحكام، ويد الصوفية ممدودة للجميع ..ومنطقي أن يتعاظم التسول بتكاثر الداخلين في التصوف .. وقد رددت المصادر التاريخية والصوفية تسول الأشياخ الصوفية إذ لم يعد ذلك عيباً ..
تسول الأشياخ في المصادر التاريخية :
1- ففي المصادر التاريخية ذكر أن علياً اللحفي ( صاحب الكرامات ) ت783( كان يسأل الناس ويأخذ منهم) . وقال المقريرزي عن الصوفي المشهور ابن عربى 830، انه كان فقيراً مملقا ًيتصدق عليه بما عساه يقيم رمقه، ويسد من خلته، وكان معتقداً بالشيخونية) . أى خانقاة السلطان المملوكى المؤيد شيخ . وفي عصر المقريرزي كان يكفي اشتهار أحدهم بالصلاح لكي تنهال عليه الصدقات ،فيقول عن شيخ صوفى مشهور وقتها بأنه : (زاهد الوقت أبو بكر الطريني): ( أنه لو قبل من الناس ما يحبونه لكنز قناطير مقنطرة من الذهب والفضة ) .
ويقول أبو المحاسن عن أحد معاصريه الصوفية وهو شمس الدين البلالي شيخ خانقاه سعيد السعداء (كان معتقداً وله شهرة كبيرة، وكان الوالد (والد أبي المحاسن) يحبه ويبره بالأموال والغلال وغير ذلك) . أى أن البلالي لم يكتف بأموال الوقف الموقوفة على أشهر خوانق العصر – خانقاه سعيد السعداء – وهو شيخها المتحكم فيها إلا أن يده امتدت بالتسول إلى الأعيان والأغنياء، ومنهم الأمير المملوكى والد المؤرخ أبو المحاسن (ابن تغرى بردى ) . وكثيراً ما كان أبو المحاسن يصف الصوفية الآخرين – ممن لا يتمتعون باحترامه ـ بالتكدي ـ أى بالتسول ..
وللتسول – كأصل في التصوف – مقامات ودرجات كما سبق إيراده، ونلمح ذلك في قول السخاوي المؤرخ يمدح تسول درويش الأقصراني 857 بأنه ( كان لا يطلب من أحد شيئاً، بل أن جيىء له بشىء من أكل لا يتناول منه سوى ما يسد به رمقه ويترك الباقي ، وكان معتقداً ويزار قبره) . وربما كان السخاوي متأثراً بالعادة المصرية الصوفية وهي تمجيد الصوفية بعد موتهم وتلمس محاسنهم ، وخاصة إذا( كان معتقداً ويزار قبره). ومهما يكن من أمر فإن درويش الأقصراني مدح بطريقته في التسول كما مدح المقريزي (زاهد الوقت أبو بكر الطريني) آنفاً.
وقال ابن الصيرفي في معاصره ابن صالح الأزهري 876( كان يطلب من الأكابر الذهب والفضة فيبادرون بها له ، وله أولاد وحفدة وخدمة يحصل لهم بواسطته من الناس والحكام، وكان له مكاشفات وكلمات خوارق ) . وعليه فالتفاوت موجود، وهناك درجات للتسول حسب قناعة الصوفي أو جشعه.. ففي الوقت الذي يتسول فيه ابن صالح الأزهري الذهب والفضة له ولأتباعه فإن الآخرين يقنعون بتسول القليل بما يكفي الحاجة، ومثلهم على البليلي (بعد920) و ( كان يسأل الناس ويأكل، وكان يشد على بطنه سبعة) .
تسول الأشياخ في المصادر الصوفية:
1- اقتصرت المصادر الصوفية على رصد حياة المشاهير من الصوفية أصحاب الطرق والأتباع الكثيرين ممن استحقوا الإشادة بهم في الطبقات العامة أو كتب المناقب الخاصة .ففي مناقب الحنفي مثلاً قصة عن بداية الحنفي الصوفي حين ذهب مع أحمد الزاهد وابن الدخيل للشيخ حسن التستري لتلقين الذكر قال لهم ( لم لا جاء كل واحد منكم بفلسين ؟.. أما تعلموا أن الذى يجيىء بشىء تميل إليه النفس أكثر مما لا يجىء بشىء ؟ فقلنا : يا سيدي قد جهلنا ذلك. فقال لنا : إذا جيتم مرة أخرى أصحبوا معكم شيئاً من الزيت للمصابيح.. ففعلوا فألآن لهم الكلام ) .
2ـ وكان الحنفي بعد اشتهاره - متسولا كبيراً – وعلى أساس التسول كانت تعد مناقبه. ومن ذلك أنه قصد إلى جزيرة الروضة واستأجر مكارياً فقابله بعض الأمراء فعزمه وأعطاه ذهباَ، يقول كاتب المناقب (فقال سيدي الحنفي: يا سيدي ادفعه إلى المكاري فإنه ركبنا معه على الفتح وهذا رزقه ساقه الله إليه ) ومعنى ذلك أن المكارى – أو الحمًار بتشديد الميم – لم يأخذ أجره من الحنفي، وعلقه الأخير على ما يأتي له من الفتوح. و( الفتوح) مصطلح أو تعبير عن المال الذى يتسوله الصوفية . وقد بدا استعماله في عصر ابن الجوزي . – فعد كاتب المناقب أن الحنفي تنازل للمكاري عن فتوحه تنفيذاً لذلك الشرط.. وهى لا شك منقبة تستحق الإشادة – إن كانت قد حدثت فعلاً..
وقد ذكر الشعراني في مناقب يوسف العجمي أنه كان (يقول لبواب زاويته بالقرافة إذا وفد شخص الباب فانظر من الشق إن رأيت معه شيئاً للفقراء فافتح له، وإلا فهى زيارات فشارات ) . وكان يوسف العجمي وحسن التستري متلازمين.. واتفقا على التسول من المريدين..
3- وقد تطلق المصادر الصوفية على( الفتوحات) أو المال الآتي للصوفية تعبير(الهدايا) . ومن ذلك ما يقوله الشعراني في ترجمة الحنفي سالف الذكر( كان لا يشتري قط ملبوساً، إنما هو من هدايا المحبين ) . أو يقول عن الشيخ أحمد السطيحة ( كان الناس تقصد الشيخ أحمد السطيحة بالهدايا من سائر البلاد) .
4- وكان التسول أحد الأنشطة الصوفية إنطلاقاً من قاعدة أن التسول أصل في التصوف ، وسبق أن ذكرنا أن الحنفى أمر مريده الثرى بالتسول حتى يتعود حياة التصوف ، ومن ذلك ما قاله الشعراني عن الشيخ الشربيني ( كان من طريقته أنه يأمر مريده بالشحاتة على الأبواب دائماً في بلده، ويتعممون بشراميط البر السود والحمر والحبال . ) ، ونقل ذلك عن الشعراني الغزي في الكواكب السائرة .
ومعنى مقالة الشعراني عن الشربيني (كان من طريقته أنه يأمر مريديه بالشحاتة) أن التسول أضحى ــ عملياً – من الأنشطة الأصيلة في الطريق الصوفي حتى أن البعض تخصص فيه وتميز بمظهر الشحاذين العاديين من ارتداء الخرق و(الشراميط) و (الشحاذةعلى الأبواب)..
تسول الصوفية للصوفية :
1- على أن أبرز ما يعبر عن قاعدة (التسول أصل فى التصوف) ما قام به بعض الصوفية من التطوع للتسول في سبيل الآخرين من الصوفية، فهنا تدرج في مقام التسول يذكرنا ببعض من تزهد في تسوله فكان يكتفي بالقليل، فجاء آخرون يتطوعون بالتسول للقاعدين، ويحسبون أنهم بذلك يحسنون صنعاً، ولكنه التشريع الصوفى طبقه الصوفية في العصر المملوكي عملياً، وجعلوا له مقامات ودرجات ، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون زهداً أو تطوعاً..
2- ولا شك أن ظروف العصر المملوكي وتصوفه المنتشر أدَّيا إلى تقعيد هذا التشريع وجعله من (النُّبل) المطلوب في شريعة التسول. إذ كثر القاعدون بانتشار الزوايا والخوانق الصوفية، وبعضها لم يعتمد على مورد مالي ثابت من الوقف فاحتاجوا إلى من يتخصص في جمع المال لهم .. ولن يكون ذلك إلا بالتسول . يفسر ذلك ما قاله الشعراني ( اجتمع في زاوية الشيخ عبد الحليم بن مصلح المنزلاوي نحو المائة نفس، وهو يقوم بكسوتهم وأكلهم من غير وقف ( أوقاف ) ، وإنًما بما يفتح الله عليهم.)،ولما وقف الناس عليه الأوقاف قال الشعراني( إن الحال ضاق على الفقراء بسبب ركونهم إلى المعلوم من طرق معينة، وكانوا قبل ذلك متوجهين بقلوبهم إلى الله فكان يرزقهم من حيث لا يحتسبون . ) . ويستفاد من ذلك أن الصوفية يرون في التسول المتجدد طريقاً أسمى للتوجه إلى الله بقلوبهم انتظاراً للفتوحات عند كل وجبة طعام، وأن الفتوحات المتجددة في عصر الشعراني كانت مورد رزق يفوق المورد المالي الثابت الآتي من الأوقاف ..
3- وبعض الصوفية خصص طريقة الصوفي بأكمله في التسول للآخرين، فعرف بذلك واشتهر، كأبي بكر الحديدي ( ت 925) وقد قال عنه الشعراني ( كانت طريقته ( أى كان دينه الصوفى ) سؤال الناس للفقراء سفراً وحضراً في طريق الحاج وغيره) . ويحكي عنه الشعراني: (.. فخرجت معه إلى سوق أمير الجيوش فصار يأخذ من هذا نصفاً ومن هذا عثمانياً ومن هذا درهماً، فما خرج من السوق إلا ومعه نحو أربعين نصفاً، فلقى شخص معه طبق خبز فأعطاه ثمنه، وصار يفرق على الفقراء والمساكين، وهو ذاهب إلى نحو بين القصرين وقال نفعنا الفقراء من هؤلاء التجار على رغم أنفهم، ثم صار يعطي هذا نصفاً وهذا درهماً إلى أن فرغت) ونقل الغزي ذلك في ترجمته له . . وعرفنا أن مصطلح الفقراء يعنى الصوفية . وكأبي بكر الحديدي اشتهر صوفى آخر في القرن التاسع ، غلب عليه لقب ( شحاذ الفقراء )، قال عنه ابن الزيات ( كان إذا رأى فقيرًا يمضي إلى الأغنياء ويطلب منهم ويأتي بما يحصل للفقير، وقيل أنه أخذ على اسم الفقراء شيئاً كثيراً وفرقه بينهم على قدر حاجتهم، فبقى معه فضله فلم يجد بمصر فقيراً يدفعها إليه ) .
ولا شك أن هناك بعض المبالغة في تصوير ذلك( النبل التسولي) من جانب الشعراني وابن الزيات ، وإن لم يمنع ذلك من وجود من تسول من الصوفية تطوعاً للغير ، وقد اعترفت به بعض المصادر التاريخية ، فقيل عن يوسف الصفي824 : ( كان كثير البر للفقراء قائماً بأحوالهم يأخذ لهم من الأغنياء) . وقيل عن آخر ( كان يقصد الأغنياء لنفع الفقراء وربما استدان للفقراء على ذمته، وكانت له عادة وتؤثر عنه كرامات ) .
ومهما يكن من أمر فإن اشتهار المتصوفة بالتسول وتخصصهم فيه واعتبارهم له ديناً – كل ذلك ادخل في دائرة التصوف والتسول بعض النبلاء مما اتصف بالكرم – وانسحب ذلك على طريقته في التسول فكان يتسول لغيره مع تسوله لنفسه، وهو وضع عجيب سمح بوجوده التصوف وتسوله في العصر المملوكي..
طرق التسول :
ولإزدهار التسول الصوفي كان يحلو لبعضهم أن يتفنن في طرق التسول .فالمقريزي يذكر أن بني الجوهري كانوا ( يعظون بجامع القرافة على كرسي في الثلاثة أشهر، فتمر لهم مجالس مبجلة تروق وتشوق، ويقوم خادمهم " زهر البان " ، وهو شيخ كبير ومعه زنجله، إذا توسط أحدهم في الوعظ، يقول : تصدقي لا تأمني أن تسألي فإذا سألت عرفت ذل السائل..
ويدور على الرجال والنساء ، فتلقى له في الزنجلة ما يسَره الله تعالى، فإذا فرغ من التطواف وضع الزنجلة أمام الشيخ ، فإذا فرغ الشيخ من وعظه ، فرق على الفقراء ما قسم لهم وأخذ الشيخ ما قسم له ، وهو الباقي، ونزل عن الكرسي..) .
ويقول الشعراني عن يوسف العجمي (كانت طريقته التجريد( أى فى العبادة الصوفية ) ، أن يخرج كل يوم فقيراً من الزاوية يسأل الناس إلى آخر النهار، فمهما أتى به يكون هو قوت الفقراء ذلك النهار كائناً ما كان، وكان صورة سؤاله أن يقف على الحانوت أو الباب ويقول: الله، ويمدها حتى يغيب ويكاد يسقط إلى الأرض) ..!!. ولو عاش هذا فى عصرنا فربما يحصل على جائزة الأوسكار فى التمثيل .!!
ولا ريب أن الموالد التى يقيمها الأشياخ – والولائم التى يدعون إليها- كانت أبرز طرق التسول والتوسع فيها الصق بالتأريخ للحياة الإجتماعية..