ج2 / ف 3 / ثانياً : بين التصوف والتسول : تشريع التسول فى الدين الصوفي


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4728 - 2015 / 2 / 22 - 22:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

ج2 / ف 3 / ثانياً : بين التصوف والتسول : تشريع التسول فى الدين الصوفي
كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثانى : العبادات فى مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف
الفصل الثالث: أثر التصوف في الزكاة و والصيام ثانياً : بين التصوف والتسول
تشريع التسول فى الدين الصوفي
1- بإسقاط التدبير للمعاش استراح الصوفية من عناء يقاسي منه كل انسان يقول السوسي (المتوكلون (يقصد الصوفية) تجري أرزاقهم على أيدي العباد بلا تعب منهم، وغيرهم مشغولون مكدودون ) . وأغرم الصوفية بطعام الولائم لأنه جاهز للبلع والمضغ ، وفضلوه على ما يأتي من طعام يحتاج لإعداد وتجهيز، يقول في ذلك بعضهم ( أنا لا أجيب الدعوة إلا لأنني أتذكر بها طعام الجنة،أى هو طعام طيب يحمل عنا كده ومئونته وحسابه ) . فصاحب الوليمة يعاني في الدنيا فى احضار الطعام ويعاني في الآخرة على ما كسبت يداه ، والصوفي مستريح من عناء الدنيا وحساب الآخرة. هكذا يفكر الصوفية . بل إن الغزالي تطوع لهم بإفتراء حديث قدسي يشرح هذا المعني الغريب العجيب ،يقول ( يروون أن الله تعالى قال : يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن لك منها إلا القوت، وإذا أنا أعطيتك منها القوت، وجعلت حسابها على غيرك فأنا إليك محسن ) . وكعادته السيئة لم يذكر الغزالى من الذى روى ، وكيف سمع هذا الراوى كلام رب العزة جل وعلا .!!. وكعادته السيئة أيضا فإن الغزالى يفترى ما يشاء وهو يعلم أنه هناك من يصدقه من المعتوهين ، ولا يسأله عما يقول برهانا .!!
2- وفي العصر المملوكي كان المرسي يقول في حزبه (وسخر لي أمر هذا الرزق،واعصمني من الحرص والتعب في طلبه ، ومن شغل القلب وتعلق الهم به ، ومن الذل للخلق بسببه، ومن التفكير والتدبير في تحصيله..) ،وقد شرح ابن عطاء هذه العبارة في (التنوير) يقول (وأما التعب في طلبه فإما أن يكون تعب الظواهر ويكون الاستعاذة منه إلى الله تعالى لأنه إذا استولى على الطالب للرزق التعب في الظاهر شغله ذلك عن القيام بالأوامر،والرزق مع الراحة فيه إعانة على التفرغ إلى طاعة الله تعالى والقيام بخدمته، وإن كان التعب هو تعب القلوب لا تعب الظواهر فهو أولى بأن يستعاذ منه) . . وقد قلنا من قبل أن عبادة الصوفية هى الزعم بالاتحاد والحلول فى خلوات يمارسون فيها الانحلال الخلقى .
فقه التسول كأصل في التصوف :
1- ارتبطت بداية التصوف بتشريع التسول، يقول بشر بن الحرث (ت227هـ) احد الرواد الأوائل للتصوف (الفقراء ثلاثة : فقير لا يسأل وإن أعطى لا يأخذ فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أعطي أخذ فهذا مع المقربين في جنات الفردوس، وفقير يسأل عند الحاجة فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين) . وفي ذلك الوقت كان الصوفية افرادا متفرقين.وكانوا يتعيشون أساساً على التسول، ولأنهم أصحاب دين كان لا بد من ربط نشاطهم فى التسول بعناصر دينية تشمل التشريع والأحكام كما فعلوا مع التواكل والتبطل..
2- وتشريع التسول في دين التصوف لابد أن يأخذ طابع الافتراء واختلاق الأدلة لمشروعيته . ولأن التسول له ركنان :المحسن والمحسن إليه ، فقد توجه التشريع الصوفي للجانبين في نفس الوقت حاثاً على التسول مشجعاً عليه..
أ) فالتشريع الموجه للصوفية المتسولين قد يأتي بصورة الأمر المباشر كقول الغزالي: ( انتهى المريدون لولاية الله تعالى في طلب شروطها لإذلال النفس إلى منتهى الضعة والخسة،حتى روى أن الكريبي استاذ الجنيد دعاه رجل إلى طعام ثلاث مرات، ثم كان يرده ، ثم يستدعيه فيرجع إليه بعد ذلك ، حتى أدخله في المرة الرابعة. فسأله عن ذلك ، فقال: رُضتُ نفسي على الذل عشرين سنة حتى صارت بمنزلة الكلب يطرد فينطرد، ثم يُدعى فيُرمى إليه عظم فيعود ، ولو رددتني خمسين مرة، ثم دعوتني بعد ذلك لأجبتك ) ) . ولا شك أن هذا الإذلال وتلك الخسّة والضعة ليست من الإسلام في شيء.إذ تقوم ولاية الله على أساس من العزة( وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8) المنافقون ) فهو إذن دين جديد وتشريع مبتكر يجعل بدايته إذلال النفس البشرية والإنحدار بها إلى مستوى الكلب الذي يُطرد فينطرد ثم يعود إذا رُمى إليه عظم..
وقد يأتي دليل المشروعية للصوفية على شكل هاتف منامي، يقول ممشاد الدنيوري: ( كان علىّ ديْن واشتغل قلبي بسببه فرأيت في المنام قائلاً يقول: يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الديْن، خذ، عليك الأخذ وعلينا العطاء.. يقول: فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصَاباً ولا غيْرهما ) . فهو تشريع للإحتيال على الناس باسم الدين ( دين الهاتف والمنام)، وكانت تلك البداية لما اشتهر به الصوفية فيما بعد..من (الإنفاق من الغيب)..
ب) ويفهم من قول ممشاد السابق أنه يتوجه به ضمناً إلى الناس من بقالين وقصَابين ممن وقع عليهم عبء كفالة الصوفية وإعاشتهم. والواقع أن التشريع الصوفي توجه أساساً إلى غير الصوفية فهم المطالبون بالإحسان والإنفاق . ومع أن آيات الحث على الإنفاق والإحسان وردت في القرآن الكريم مرات عديدة إلا أن نهم الصوفية للتسول – واعتبارهم إياه عنصراً أساسياً في معاشهم ودينهم – جعلهم لا يكتفون بالتشريع الإسلامي في الزكاة والصدقة فامتدت أيديهم إلى الإختلاق والوضع ونشر الأحاديث الموضوعة التي تحض على الكرم وتنذر البخيل بالويل والثبور. وقد أورد الغزالي الكثير من هذه الأحاديث في (الاحياء) وقد صرح العراقي بأنها ضعيفة أو باطلة لا أصل لها،إى لم يقلها أحد قبل الغزالى ، أى إن الغزالى هو الذى صنعها وافتراها . وكان الغزالي يوردها في الدعوة للإحسان. والمستحق للإحسان في رأيه هم الصوفية ، ( وقد تركوا خلفهم الدنيا وطلبوا عظيماً .). ومن تلك الأحاديث المكذوبة (أن لله عباداً يختصهم بالنعم لمنافع العباد، فمن بخل بتلك المنافع على العباد نقلها الله تعالى عنه وحولها إلى غيره) و (إن الله يبعض البخيل في حياته السخى عند موته)و( الرزق إلى مُطعم الطعام أسرع من السكين إلى ذروة البعير) وغيرها .
ج) وحين راج أمر التصوف في عصر الغزالي وتمتعت المنامات الصوفية باهتمام وشيء من التصديق عند العامة، توجه الصوفية بالمنامات إلى الناس يحثونهم على الإحسان، في نفس الوقت الذي تقوم به تلك المنامات بالتشريع للصوفية في مقامات التسول. وتأتي تلك المنامات بصورة أقصوصة – والعامة تقع في هوى القصص خاصة إذا ما اكتسى بملامح الأقصوصة الصوفية من عاطفة ( أو : وجد ) بالمصطلح الصوفى ، مع إفتراء أحاديث منسوبة لرب العزة جل وعلا . من ذلك ما رواه الغزالي عن زاهد فارق بلده ( وأقام في سفح جبل سبعاً وقال : "لا أسأل أحداً شيئاً حتى يأتيني ربي برزقي" . فقعد سبعاً فكاد يموت ولم يأته رزق فقال: " يا رب إن أحييتني فأتني برزقي، الذي قسمت لي، وإلا فاقبضني إليك. "، فأوحى الله إليه:" وعزتي لا أرزقنك حتى تدخل الأمصار وتقعد بين الناس" .! فدخل المصر ، وقعد ، فجاءه الطعام ، فأكل وشرب، وأوجس في نفسه من ذلك فأوحى الله إليه : " أردت أن تذهب حكمتي بزهدك في الدنيا، أم علمت أني أرزق عبدى بأيدي عبادي أحب إلىّ من أن أرزقه بيد قدرتي) . هنا وحى زعم الغزالي حدوثه بين الزاهد والله تعالى . ومعروف أن دين التصوف يعتمد على مثل ذلك الافتراء في تشريع الأمور الخاصة به، وبالنسبة لهذا الوحي فقد شرع الغزالي به للصوفية أنه لا حاجة للتطرف في التواكل الذي دعا إليه بعضهم ،كأن يترك الأمصار ويمشي في الصحراء بلا ماء ولا زاد ، فالغزالي يدعو الصوفية بهذا الوحي المفترى إلى الجلوس في الأمصار والتسول من الناس، وحسب قوله (وما رؤى إلى الآن عالم أو عابد استغرق الأوقات بالله تعالى وهو في الأمصار فمات جوعاً، ولا يُرى قط) .. ولا ريب لتلك الأقاصيص أثرها في حث الناس على إكرام الصوفية...
د) ورددت المصادر الصوفية في العصر المملوكي بعض ذلك التشريع التسولي . فاليافعي أورد قصصاً كثيرة تحض على الإحسان للصوفية ، والأساس فيهاهو الوحي المفترى بين الله تعالى والصوفي . على نسق ما أورده الغزالي آنفاً.
وورد في مناقب الحنفي أن بعض الأغنياء قدم إليه يطلب العهد والطريق ، أى الانخراط فى الطريقة الصوفية ( الحنفية ) وقتها ، فأمره شمس الدين الحنفى أولاً بالتخلي عن ماله، ثم بعد ذلك أمره بالشحاذة قائلا : ( إن كنت بايعتني على السمع والطاعة فالبس مرقعة واخرج على قصد الشحاتة والسؤال من الناس وارجع إلىّ آخر النهار واعرض علىَ ما دخل لك من الشحاتة حتى أنظر إليه. قال: ففعلت ما أمرني به ).. ( وجعلت أدور في الأسواق والشوارع وأقف على الأبواب وأسأل الناس كما تسأل الفقراء والجعيدية )، وحين عرض الدرهم التى أعطيت له لم يرض الحنفي بها وأمره أن يعلق في رقبته مخلاة حتى يعطوه كسيرات وبصلات (قال : فهذه شحاتة الفقراء ) . فما فعله الحنفي بمريده الغني يقصد به أن يذل نفس ذلك المريد الغني تأسياً بابن الكيربي الذى حاول أن يصل بنفسه إلى مقام الكلاب في الضعة والذل، وذلك تشريع صوفي بالتسول بالأمر المباشر الصريح ..
3- وبعد اختلاق الأدلة لمشروعية التسول في دين التصوف كان تفصيل الأحكام لفقه التسول. وقد مرّ بنا أن بشر بن الحرث جعل مقامات للتسول ودرجات للصوفية المتسولين (الفقراء ثلاثة: فقير لا يسأل وإن أُعطى لا يأخذ ، فهذا مع الروحانيين في عليين، وفقير لا يسأل وإن أُعطى أخذ ، فهذا مع المقربين في جنات الفردوس، وفقير يسأل عند الحاجة ، فهذا مع الصادقين من أصحاب اليمين) .
ومع انتشار التصوف وظهور المؤسسات الخاصة بالصوفية كالربط والخوانق استلزم الأمر بعض التشريع قام به الغزالي بما له من دراية بالفقه السنى وأصوله فى التشريع .من ذلك ما يقوله بلهجة الفقهاء عن الصوفي المتجرد للعبادة بزعمهم ( فإن كان كذلك ألزمه الشيخ زاوية ينفرد بها ، ويوكل بها من يقوم بقدر يسير من القوت الحلال، فإن أصل طريق الدين القوت الحلال ) .
بيد أن ذلك القوت الحلال الذى ينشده الغزالي لأهل طريقته كان متعذراً، فإنشاء المؤسسات الصوفية كان بيد الظلمة من الحكام تزلفاً ورياء – وذلك لا يتأتى منه قوت حلال – على فرض صحة الطريق الصوفي في التعبد بالتسول والقعود . إلا أن الغزالي يستخدم مصطلحات الفقهاء في التشريع للصوفية فيقول ( فإن أصل طريق الدين القوت الحلال) يخدع بذلك الفقهاء، مع أن التطبيق مستحيل كما أسلفنا. بل إن الغزالي نفسه اضطر للإعتراف بذلك حين قال عن القائمين بأمر الصوفية المتبطلين ( وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة للتوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب ، وذلك هو الهلاك، ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به، فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة ) . .
ومع وضوح الإنكار في النص السابق فإن براعة الغزالي تظهر في تقريره – أثناء الإنكار – لقاعدة التسول الصوفي حين قال (ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله)، وأين يأتي (حسن الظن بالله) في الاقتراض عند الصوفية إلا على قاعدة ممشاد الدينوري التى أسلفنا إليها والتى يفتري فيها مناماً أدلى أن الهاتف الإلهي قال له فيه (يا بخيل أخذت علينا هذا المقدار من الدين، خذ، عليك الأخذ وعلينا العطاء .. فما حاسبت بعد ذلك بقالاً ولا قصاباًولا غيرهما ) . أى أنه استقراض بأكل أموال الناس بالباطل. والغزالي في موقف آخر يجعل من وظيفة خدم الصوفية أن يتسولوا بغرض إذلال النفس – وهو الهدف الأسمى – لابن الكريبي سالف الذكر،يقول الغزالي (خدام الصوفية في الربط يخالطون الناس بخدمتهم وأهل السوق للسؤال منهم كسراً لرعونة النفس) ..
إلا أن التطبيق لهذه القاعدة يظهر فسادها، لأن الفساد في أصل القاعدة ودين التصوف نفسه، وهكذا فإن الغزالي حين يفصّل في الصور التطبيقية للسؤال أو التسول،فإنه يظهر الوجه القبيح للتسول الصوفي في عصره، وقد انحط إلى درجة التحايل ، يقول :( ويتنزل أخذ السائل مع اظهار الحاجة كاذبا ًكأخذ العلوي بقوله أنا علوي وهوكاذب فإنه لا يملك ما يأخذه ، وكأخذ الصوفي الصالح الذى يُعْطى لصلاحه وهو في الباطن مقارف المعصية لو عرفها المعطي لما أعطى، وإن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم رده إلى مالكه) .
وتأبى براعة الغزالي إلا أن تظهر في هذا النص أيضا، فهو لم يعرض للصوفية المتسولين إلا بطريق غير مباشر، وحين عرض لهم بطريق التمثيل والاستدلال – على السائل الكاذب – فإنه اختص بنقمته وإنكاره الصوفي المقارف للمعصية ، وبذلك فإنه يقرر قاعدة التسول للصوفي غير المقارف للمعصية على فرض وجود ذلك الصنف بين الناس .والمهم أن التحايل في التسول الصوفي بدأ مع بداية التصوف واستشرى بزيادته كما سيظهر في كتابات الشعراني فيما بعد..