أبو بكر الآشي القسم الثاني الفصل الثاني


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4725 - 2015 / 2 / 19 - 13:37
المحور: الادب والفن     

أخذت المواجهة بين الجيش والأئمة تنحو نحوًا خطيرًا، حرضوا المصلين على التظاهر ليس فقط ضد رفع أسعار الخبز بل وغلاء المعيشة، وانعدام الأعمال، والإدقاع، وذهب بعضهم إلى التشهير برجالات الدولة والتجار الكبار. اتهموهم كلهم باللصوصية، والإثراء غير المشروع، هؤلاء الجشعون جاهًا ومالاً، جعدو الأنامل. حرقوا القلوب، وعملوا كل ما في وسعهم على خنق البلد. كانوا من القوة بحيث أنهم أضعفوا القوة، وأذلوا الجبال السبعة، فالذل كريم في عمان، الكرم ذل، وسينتهي بها الأمر إلى لفظ النفس الأخير، واستتباب الموت في المملكة. كان رد العساكر عنيفًا، فتحوا النار على المتظاهرين، وأردوا العشرات، وجرحوا المئات. لم يقف الأمر عند هذا الحد، رموا في المعتقلات كل من ألقوا القبض عليه، واقتحموا بيوت الملعونين الأكثر إدقاعًا في السيل وماركا والقلعة، وبيوت الغجر في قرطبة، فوصلتني ضربات أقدام الراقصات، وهن يرفعن فساتينهن الطويلة، فتبين سيقانهن، ونظرتُ إلى الدم لأقرأ تاريخ عمان. كاد رشاد رشد الآشي يُجَنُّ جنونُه، وظل طوال نهار الجمعة يردد:
- هذا البلد لا حظ له! هذا البلد لا حظ له!
ومع ذلك، كانت موسيقى الغجر تصلني من بعيد، وغناء حزين، ومن وقت إلى آخر، هذه الصيحة: "أولليه!" الله في لغتنا. كنت الوحيد القادر على الحيلولة دون تفاقم الوضع أكثر وإسالة المزيد من الورد الأحمر. أعدنا الاتصال بالبلاط الملكي، من غير أقل نتيجة. تردد المحامي الشاب، في البداية، ثم عزم على أن يقول لي كل ما يعتمل في صدره:
- عندما علمت أن بلوغك أعتاب الملك سيتم عن طريق أبي الحسن الفزاع، فهمت أن جلالته لا يولي أمرك الاهتمام الكافي، فهذا ليس مستشارًا له ولا شخصًا معتبرًا عنده، وإنما موظف عادي ملحق بمكتبه الصحفي، لا يستطيع أن يفعل لك شيئًا، بروفسور، شيئًا إيجابيًا لمهمتك. وبالمقابل، يقدر أن يسيء إليك كثيرًا، باستغلاله التناحر المعروف بين رجالات القصر الكبار لصالحه. في الواقع، المستشار الشخصي للملك، أبو الحكم القاسم، يطمع بأن يكون رئيسًا للديوان الملكي، ورئيس الديوان الملكي، أبو الوليد الكركي، يطمع بأن يغدو رئيسًا للحكومة، ورئيس الحكومة، ليس آخر غير ابن خال الملك، الشريف لست أدري من وكيف، يطمع بالاستواء على العرش! إذن، بدافع الأمل في الترقية إلى رتبة مستشار أو وزير، ما أن يقول هذا الفزاع الفزع الذي لا يفزع أحدًا لرئيس الديوان إنك آتٍ لتأخذ منه رئاسة الوزارة، حتى يقوم هذا بعمل كل شيء لعرقلة وصولك إلى جلالته، ونسف كل جهد يُبذل للهدف ذاته، وإن أدى ذلك إلى نسف البلاد وهدمها كما حصل اليوم. أضف إلى ذلك أنك لست "لحية"، باللغة الخاصة لأصحاب المهنة، أي لست مخبرًا سريًا، بروفسور، صنائعك الأدبية والعلمية هي مستنداتك الوحيدة، وهذا سبب على سبب لاستبعادك من طرف جهلة هذا الزمان، أسياد هذا البلد وأذل جبابرته.
كنت مفتتنًا بالطريقة التي يعرض فيها محدثي حججه، ومعجبًا بنوعية التعليق عليها. بينما كان يتكلم، استعدت صور الدم والحنطة في شوارع العاصمة الهاشمية، وذلك اللحن الغجري، البعيد، البعيد جدًا، الذي لا يني، وخلت نفسي أقضم من ذلك الخبز الياقوتي الجمري الذي سقط الناس بالعشرات من أجله. أصابني الدوار، ورأيت نقطًا سوداء. لم أشأ الخضوع لإرادة الموت والدمار، فاقترحت على رشاد رشد الاتصال بأخيه أبي بكر، في مدريد، فلربما فعل شيئًا من هناك. وفي الحال، طلب الحديث مع الطبيب الشخصي للملك الإسباني، كلمه، وكلمته، قلنا له كل ما يجري هنا. لم يكن مسرورًا، إذا لم ألتق العاهل الأردني في القريب العاجل، انقض الجيش على آميديه وجماعته، ولن يمنع العساكر وجود الأميرة إيزابيل بينهم من عَقرهم جميعًا. أخبرنا بتدهور الأوضاع في أرخذونة، وقد عززت أحداث عمان موقف الفارس بوعمير، ويخشى العالم الفلكي أن يسبقنا إلى الاتصال بحكام الأردن. لا يني، اللحن الغجري، البعيد، فحثني رشاد رشد على قول كل شيء للأرملة، ولا حاجة بي إلى إخفاء أي شيء عنها. على أي حال، ليس هناك ما يُخفى عنها، علاقتها بحكام البلد معروفة من الجميع، عاجلاً أم آجلاً سينتهي الأمر بها إلى معرفة كل شيء.
- الأنهار تفضي إلى البحر، ختم، وستساعدك.
في المساء، وأنا أذهب للعشاء عند الأرملة، خرج رجل من فيلّتها، عرفت فيه ولي العهد. أحاط به الحرس، واشتغلت الموتورات. رماني بنظرة، وصعد في مرسيدس سوداء ساقها بنفسه. بعد عدة لحظات، استعاد الشارع هدوءه. ألقت أشجار الزيزفون هنا وهناك ظلالها الفضية، فمشيت، وكأني أسير نحو عالية النهر. قطعت البوابة، لأجدني تحت عريش من ياسمين إسبانيا. أفعمت منخريّ الرائحة العطرة، وفاقمت قلقي. عاودتني نظرة ولي العهد، نظرة قاتمة. طرقت الباب، ففتح لي خادم هندي، وأدخلني في صالون فخم، أخضر. قال لي بالإنجليزية إن سيدته لن تتأخر عن النزول. بقي قليلاً، ثم ذهب. كان الدرج الرخامي يدور نصف دائرة حتى الطابق الأول، ولا أقلها إشارة إلى الحياة. فجأة، ظهرت الأرملة كالملكة، والمنزل الواسع راح ينتعش بالعشق والحيوية.
اعتذَرَتْ عن عدم استقبالها لي بنفسها، فولي العهد زارها على غير استعداد، وكان عليها انتظار مغادرته حتى ترتدي ثياب السهرة. كلما تأزمت مشاكل البلد كان يأتي عندها بحثًا عن الهدوء. قالت لي إنها حدثته عني، وإنه تمنى رؤيتي. عندئد، كلمتها عن مهمتي دون مواربة.
- عندما حدثته عنك، قالت مدام سونيا، بدا لي أن سمو ولي العهد لا يعلم بوجودك في عمان.
- هل من الممكن أن يكون الملك قد أخفى عن ولي عهده أمرًا في غاية الأهمية؟
- كل شيء ممكن، بروفسور، أريد القول، سيد رئيس الوزراء! لأنك ستكون رئيسًا للوزراء قريبًا، تستطيع الاعتماد عليّ.
- مع الأحداث الحالية، من اللازم العمل...
وضعت أصابعها برقة على فمي.
- عندي لا أحد يفكر فيما يجري في الخارج. أيًا كانت كارثية الأوضاع، للأوضاع حلها. ستجد الحل أنت، سيد رئيس الوزراء. لا تقلق، بروفسور، ستتم تسميتك رئيسًا للحكومة، وأنا، ماذا ستكون مكافأتي؟
- وزيرة اللطافة.
انطلقت ضاحكة.
- أنا لا أفضل هذا.
- إذن وزيرة اللامبالاة.
- ولا هذا.
- كنت قد فهمت أن علينا عند لقائك ترك كل همومنا حيث هي لنجعل من البهجة طريق القلوب إلى السعادة.
- الحب، بروفسور، ودون أية حقيبة وزارية.
أعلن الخادم الهندي أن العشاء جاهز، فأخذتني من يدي إلى قاعة الطعام. كان ترف سيدة الزهو يتنافر وبساطة حركات مدام سونيا. كان كل هذا الثراء في خدمة تواضع من غير ادعاء ولا كبرياء. مع الأرملة، كانت كل النساء لك، وأنت الحي الوحيد في العالم.
ونحن نتعشى، حدثتها عن أبحاثي في الإيسكوريال، عن قصة الحب الملطخة بالدم بين إيزابيل وآميديه. أصغت إلي بانتباه دون أن تقاطعني. لأجدها، وهي هنا. لأجدني، وأنا هناك. كنا في مكان لا يعلم به أحد. في الأخير، ابتسمت. أخذتني من يدي، وذهبت بي إلى صالون صغير، وردي. بالأحرى داكن. جاء موسيقي أعمى يعزف ألحانًا ناعمة. لم تترك يدي، وأنا أحس الحرير بين أصابعي، شفتيها على شفتيّ، ثم كل جسدها على جسدي.
بعد يومين من مجزرة الخبز، والإنهاء السريع لوضع سيء بما هو أسوأ، أقال الملك حكومة ابن خاله، وعين أحد أقرباء الحاكم الإسباني، عبد السلام بوعمير، على رأس مجلس وزراء جديد، أسماه "حكومة السلام والوحدة بين الأردن وأرخذونة". كان ذلك لإرضاء الله في ثوبه، ولإرضاء أزلام الله في أثوابهن، جعل ابن خاله مستشاره الشخصي، ومستشاره الشخصي رئيسًا للديوان، بينما عين رئيس ديوانه وزيرًا للإعلام. تم توزيع الآلهة الصغار على قمم الأولمب الأردني، وبدأ تطبيل إعلامي لا سابق له لهذه الحكومة التي ستأتي بالرخاء والرفاهية على أجنحة الحمام الأبيض للجميع، وتسمح لهم بدفع ثمن الرغيف، الذي لم يلغ قرار رفعه رغم كل الدم الذي جرى، فالماء نادر في عمان، والهواء ساخن في الشتاء. افترضت أن مساعي الأرملة لدى ولي العهد لم تفض إلى شيء، وأن كل شيء قد انتهى، فيما يخص مهمتي، في عمان. وُكِلَ مصير البلاد إلى ذات الأيدي التي ضيعت أرخذونة، وحل قهر الخطاب محل قهر الجيش. أُبعدت مشاكل الحاضر إلى المستقبل، والحلول العاجلة إلى الآجلة. صارت السرابات من حظ الأجيال القادمة، ولا بأس من دفع هذا الجيل دفعًا للسعي إلى حتفه بظلقه، الذل قبلة والهوان ثدي.
عبّرت لرشاد رشد الآشي عن يقيني فيما يخص عدم جدوى بقائي في عمان، وحاجة عودتي إلى مدريد، لكنه أخبرني أن بعض الأساتذة الجامعيين الذين أعلمهم بوجودي سيجيئون للسلام عليّ. لم يكن يائسًا بعد.
- لا تعجل العودة، بروفسور، قال، يجب أن يعرف الكل أنك في عمان، فتقوم ضجة من حولك، ويرى الملك نفسه مضطرًا لاستقبالك.
- وما الفائدة بعد أن عين حكومة جديدة؟
- أمور البلاد لا تثبت أبدًا، اعتدنا على حكومات لا تدوم أكثر من عدة أشهر، عدة أسابيع.
- خلال ذلك، يكون الجيش الإسباني قد صفى آميديه، وأنهى مسألة أرخذونة وكذلك الديمقراطية.
- المهم أن تقابل جلالته، وتحطم الأطواق من حولك. هذا يعني تجديد لقاءاتك مع المثقفين واستغلال الهامش الضئيل للحرية في الجرائد. حقًا حرية الصحافة ليست موجودة، كيف تكون هناك حرية، ورئيس الوزراء السابق ابن خال الملك، والتلفزيون كالجرائد ملك للأسرة الملكية، كالعباد، كالحجارة! ستستغل هذا الهامش، فتكتب للبسطاء الذين يمثلون أغلبية السكان، تقول شيئًا آخر غير ما يقوله الأئمة أو رجال السلطة، بالجمع بين العقلاني والتقليدي، بدعمهم ستفتح الطريق بثبات إلى القصر.
قلت لنفسي إنني لن أستطيع المكوث طويلاً بعيدًا عن أسرتي وإن حلاً سياسيًا لأرخذونة عليه أن يكون سريعًا عاجلاً.
- كل هذا يحتاج إلى وقت، إلى وقت كبير! والمهمة التي جئت من أجلها لا يمكنها الانتظار.
عبس محدثي لحظةً، وغرق في تفكير جعل عينيه تلمعان، ثم ما لبث أن ابتسم.
- ربما وجدت لك طريقة سريعة لاختراق القصر الملكي، قال، وذلك باللجوء إلى شخص آخر غير الأرملة، شخص يستطيع فرضك على رجال الملك رغم الخطر الذي تمثله، كنت أريد تفادي الطرق المخادعة، ولكن إذا كان هيك...
- تبقى الذئاب ما بينها!
- للذئاب لغة لا تفهمها إلا الذئاب!
- ستكون إذن محاولتي الأخيرة.
ابتسم المحامي الشاب من جديد.
- بعد لقائك بالجامعيين، سنذهب إلى مكان غريب اسمه "تحت السيل"، حيث الوهم لا استيلاء عليه، الضعيف ضعيف، والقوي قوي، إلا أن القوي أو الضعيف لا يعني شيئًا دون حقيقة، وهذه الحقيقة هي التي أريد أن أريك إياها رغم أنها ليست لائقة، هي التي ستعينك في إكمال مهمتك التي غدت مستحيلة، إن لم تكن خيالية.
حياني الأساتذة باحترام، بينهم من حضر للتقدير الذي يكنه لي، وآخرون بدافع الفضول. أرادوا كلهم رؤية الشخص الذي عاش خلال ثلاثين عامًا الحلم الأندلسي. طلب الأوائل مني البقاء للتدريس في إحدى الجامعات، وعبر الآخرون عن رغبتهم في الرحيل واتباع الطريق نفسها التي اتبعتها.
بعد ذهابهم، فاجأني بعض أصدقائي القدامى بزيارتهم. اتصل بهم رشاد رشد، وطلب منهم أن يمسكوا بي في عمان دون أن يكشف لهم الأسباب. رأيت أنهم لم يتبدلوا، بقوا صغارًا، وإن غدوا كبارًا.
جاء أيضًا بسام المنصوري، الشاعر وصاحب الافتتاحية الشهير. كنا قد تراسلنا لفترة، وتبادلنا الكتب. ضمني بحرارة، وقال إنه عرف بوجودي في عمان صدفة عن طريق صديق مشترك بينه وبين رشاد رشد. كانت قد وصلته أصداء بحثي عن الشعر الأندلسي المدنس، وكم كان متحمسًا. لا أحد قبلي كانت له فكرتي، حتى ولو حصل، فسيمتنع مثقفونا، تنقصهم الجرأة! مبادرة كهذه تفترض الكثير من القوة النفسية، لكن الشجاعة تنقصهم. لا يريدون إزعاج أنفسهم ولا إزعاج غيرهم، ويفضلون البقاء جبناء، على صورة جلاديهم. وبحمية، دعاني إلى استغلال فرصة وجودي في المشرق، فأنقب عن هذا الكنز الضائع الذي لا يقدر بثمن في مكتبات دمشق وبغداد والقاهرة. عَيَّرَ الوجود بالوجود، وعرض عليّ أن يكون يدي اليمنى أينما حللت. شكرته، وقلت، وأنا أراه دَهِشًا لما أقول، لم أجد شيئًا في إسبانيا مع الأسف، ولن أجد شيئًا في الشرق.
سارع إلى السؤال متحيرًا:
- وفي المغرب: هل بحثت في المغرب؟
- تقصد في مراكش؟
- نعم، في مراكش. ستجد حتمًا ما قيل ضد الريكونكيستا ومحاكم التفتيش.
تذكرت قصة حب إيزابيل العاشقة وأحمد العربيّ، على الرغم من أنني لم أنسها: إذا فشلت في مهمتي هنا ذهبت للبحث عن جزئها الثاني في الكُتُبِيَّة.
- سأذهب إلى مراكش ذات يوم، قلت، كل شيء يتوقف على الظروف.
اربد وجه بسام المنصوري وعمقت نبرته:
- الظروف صعبة في كل مكان!
قبل أن يتركني، شكر رشاد رشد على مقالاته المختلفة في الحقوق وفي الفلسفة وفي الطب، وطلب مني الكتابة في جريدته.
- في الطب؟ سألت المحامي اللامع.
- كأخيه العظيم الجليل، علق بسام، الأستاذ رشاد رشد عالم متعدد المواهب.
- نعم، ولكني فضلت مهنة المرافعة على مهنة المعالجة، اعترف، هل كنت مخطئًا عندما يموت عشرات الجرحى في الشوارع؟
حيرنا كلامه، كرر صاحب الافتتاحية الشهير طلبه، فوعدته خيرًا، وأنا أفكر في المكان الغريب الذي سيأخذني رشاد رشد الآشي إليه وفي بشره الغريبين.


يتبع الفصل الثالث من القسم الثاني