أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثاني عشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4720 - 2015 / 2 / 14 - 12:44
المحور: الادب والفن     

عندما وصلت مدريد، كان خبر هرب العاشقين قد انتشر في كل أنحاء العاصمة، وقد أخذ الناس ينسجون حولهما القصص، ويتقولون الأقاويل، وهم إن لم يقولوا في الأميرة ما يشين، قالوا في آميديه كل ما هو شنيع، وطالبوا بقتله، وقتل أهله، وكل أهل أرخذونة الذين يقفون إلى جانبه. انطلقت من جديد أجواء الحملة الهستيرية ضد "المور"، فقرعت أجراس الكنائس استنكارًا، وقاءت وسائل الإعلام حقدًا. حثت بعض جرائد المساء السلطة المركزية على شن حملة تأديبية ضد الجيران العرب، وتركيعهم واحدًا واحدًا -لأنهم هم الذين يقفون وراء هذه القضية- وحرق مدنهم، فهي اللغة الوحيدة التي يفهمونها.
انتظرت أن يتصل بي أبو بكر الآشي، لكن حاجتي إلى قضاء غرض سريع في المدينة القديمة اضطرني إلى الخروج. في الواقع، لم أكن اسكن بعيدًا عن البُويرتا ديلسول، الساحة الكبرى على شكل الهلال، التي تشكل القلب التاريخي لمدريد. كان كل شيء يغلي حول البُويرتا ديلسول، رغم متنزهي المساء المألوف أمرهم والدكاكين الأنيقة في الشوارع المحيطة بالساحة. كانت تماثيل الملوك تشخص ببصرها إليّ، وكأني المذنب الوحيد. أحدق ألفونس العظيم النظر فيّ، فارتعدت أوصالي. ثقب أذنيّ وقع حوافر حصانه في الحروب التي خاضها، ودفعت ابنه إلى التمرد عليه. لكنه العظيم في كل شيء، في الحرب وفي الحرب، انتصر على ابنه، ورماه بين القضبان. لم ينزل عن العرش إلا على يد زوجته التي ثارت ضده، واقتسم البلاد أبناؤه الثلاثة ما بينهم. تعلل بالحرب عن التنازل عندما طلب منه أبناؤه أن يكون على رأس الجيش الذي قاتل "المور"، وانتصر عليهم. تحركت تماثيل الشخصيات الأسطورية، سِيد ودون كيشوت وكارمن، وأخذت تتبعني. حاولت التخلص منها بالاختباء وراء النوافير، لكنها كانت في الماء. عملت من الماء سيفًا ورداء، وانقضت عليّ. لم يكن عليّ الخروج، وفوق ذلك، تأخر الطبيب الشخصي للملك عن إرسال من يجيء بي. بأمر النجوم كان يعمل، فانتظرت سقوط الليل. وبالفعل، ما أن حل المساء حتى طرق أنطونيو بابي، وساقني إلى القصر الملكي المدريدي. كان قلقي كبيرًا على زوجتي وبناتي اللاتي يقضين عطلتهن الصيفية في الجنوب، بيد أني فضلت أن يكن بعيدات على أن يرينني في قلب كل هذه المعمعة. أبديت لأنطونيو رغبتي في الاطمئنان عليهن، فوعد بمهاتفة زوجتي بنفسه، وإذا ما لزم الأمر، أرسل إليها برسول يراها، فتراني. كان يريدني التفرغ تمامًا لمشكل الساعة، فحدست مدى المصاعب التي على أبي بكر مواجهتها، وما ينتظره مني.
اخترقنا حدائق القصر الملكي، القلعة المورية لمجريط سابقًا، ألكازار. اجتزنا عتبة البناء الضخم، لنجد رجال القصر في قيام وقعود، أشبه بيوم القيامة، فلم أفه لأنطونيو بأي تعليق. صارت له، ونحن نطأ السجاجيد الحمراء، قرب المكتب الملكي، سحنة متجهمة. قبل قبول التحدي، لاحظت الحرس الملكي في زيهم الأندلسي على جانبي باب العاهل الإسباني: عمامات بيضاء، ملتفة، قمصان بيضاء، مطرزة، سراويل بيضاء، منتفخة، أحذية وأحزمة سوداء تتدلى منها السيوف. في طويتي، لم يدهشني ذلك. بعرض الماضي "الضد-الإسباني"، يبدي الملك للعالم سياسة الانفتاح التي له والتصالح، وحقيقة أن يكون طبيبه الشخصي من أصل عربي، وكذلك حضوري في عقر داره، يؤكد ذلك بقوة، لكن الوقت ليس للتفاؤل.
رجاني أنطونيو الانتظار قليلاً في إحدى الحجرات الضخمة ريثما يبلغ سيده بوصولي إلى القصر، وذهب، وهو يغلق الباب بهدوء من ورائه. كانت السجادة الجدارية لجويا نفسها التي رأيتها في الإيسكوريال معلقة على الحائط، تقدمت منها، وأنا أتساءل أيهما الأصلية. أصابني العجز، وهتف بي هاتف يقول لي "كن على حذر". انفتح باب داخلي، وظهر أبو بكر الآشي. جاء باتجاهي بخطوات مثقلة دفعتني إلى الإسراع نحوه لمصافحته والسلام عليه. كانت له سحنة أنطونيو المتجهمة نفسها. أشار إلي بالجلوس، ففعلت، بينما بقي واقفًا. سحب نفسًا طويلاً قبل أن يقول:
- منذ وصولي القصر، وأنا برفقة جلالة الملك. لا يريد تصديق أن الحب هو ما دفع سمو الأميرة إيزابيل إلى فعل ما فعلت، ويعتقد جازمًا أن في الأمر مؤامرة تقصده، وابنته الكبرى، وكل الأسرة المالكة، لهدم الديمقراطية كما حصل سنة 1981 حين الانقلاب العسكري في الكورتيس إسبانولاس، والذي تمكن من القضاء عليه بسرعة. هو على استعداد لحرق الأرض تحت قدمي آميديه وأقدام الباسك الذين لجأ عندهم إن لم يُطْلَق سراح سمو الأميرة حالاً، ودون شرط أول. بيد أنه لن يفعل شيئًا قبل أن تتصل أنت، بروفسور، بطالبك، وتقنعه بتسليم نفسه، وتعود بالأميرة إيزابيل إلى أبيها سالمة. لقد كلفني جلالته بإبلاغك رغبته، وهو يرفض، بطبيعة الحال، استقبالك الآن خوفًا من أن يأخذك بذنبك، وهو لن يقتنع بأن لا يد لك في الأمر إلا بعودتك وابنته معك، فيثق بك، ويضع آميديه ورفاقه بين أيدي السلطات المخولة بحفظ أمن الدولة وصيانة وحدتها، والتي ستقرر مصيرهم.
ابتسمت دون أن أنتبه إلى أمارات الاستنكار على وجه محدثي، الذي يجد ابتسامي غير مناسب في تلك اللحظة العصيبة.
- هل هذه هي طريق الفاجعة التي أقرأتك إياها النجوم، سنيور أبو بكر؟ قلت ليس من غير تهكم، وهل ربما هي النهاية لنا جميعًا؟
ارتبك أبو بكر، ونظر إلى النافذة. تساقطت على حوافها بعض النجوم من السماء الألقة لمدريد، اللامبالية بما يجري في القصر.
- لا توجد نهاية، بروفسور، همهم، وإنما استئناف، وبداية جديدة، وكل شيء يتوقف عليك في الوقت الحاضر.
- وحب آميديه لإيزابيل؟ وخاصة حب إيزابيل لآميديه؟ إذا كان هذا الحب بالفعل سبب كل ما جرى، فماذا سأفعل؟ ربما كانت سمو الأميرة هي فلورا، هل تذكرها؟ تلك التي ضحت بنفسها في سبيل حبيبها يولوجيوس وقضيته، أو إيزابيل العاشقة، تلك التي أحبت أحمد الأندلسي، وبدمهما كُتبت قصتهما. إن لم تكن هناك نهاية، فهي أم البدايات، سنيور أبو بكر! شخصيًا، أعرف مسبقًا مخرج مسعاي: لا شيء غير الفشل. أما عن مصيري، فسيكون المصير الذي يقرره عاهل البلاد، ربما كانت الإدانة.
- سأدافع عنك بالقرب من صاحب الجلالة، وأجعل من مصيرك مصيري.
- وأهل أرخذونة، من سيدافع عنهم؟ وأهل الباسك؟
- فلنترك الجواب للتاريخ، ألم أقل لك إن التاريخ لا يفعل سوى إعادة نفسه؟
- هذه المرة لن تكون فقط بضع قطرات دم ستلطخ بضع صفحات بيضاء في مخطوط ضائع، هذه المرة سيكون نهر يجرف كل شيء مع عبوره. حقًا، إنها أم الفواجع، أم كل اللعنات!
- تتأرجح الحياة بين الفاجعة واللعنة، ونحن لا نستطيع شيئًا. يمكن لبعضنا ذي البصر والبصيرة أن يؤجل الفاجعة، ويحتوي مؤقتًا اللعنة، أو العكس. أمام غضب جلالة الملك، وبدافع إخلاصي له، أرجوك، بروفسور، أن تعمل كل ما بوسعك على تأجيل هذا المصاب الفظيع.
- وإذا فشلت؟
- هناك طرق أخرى سنأخذها، ومهمات أخرى سنكلفك بها بالقرب من سلطات عمان وشذونة، فلا تعقد الأمور. سنحكي فيها حال عودتك، إذا فشلت، الشيء الذي لا أتمناه.
أعلمني أن آميديه وإيزابيل يوجدان في "منطقة من جبال البرنة الغربية"، فالرسالة التي وصلت القصر من آميديه منذ ساعة، والتي يطالب فيها بمفاوضات حول استقلال أرخذونة، مدموغة بهذه العبارة. سيرافقني أنطونيو إلى مقر الحكم الذاتي و، من هناك، سيصطحبني معارضون للحكومة المركزية حتاه.
عاد الهاتف يهتف بي "كن على حذر!"، فهمهت:
- الحذر لا يمنع القدر.
- ماذا؟
- لا شيء.
- ظننت...
- متى سأغادر؟
- في الحال. وضعنا طائرة تحت تصرفك.
دخل أنطونيو.
- كل شيء على ما يرام، بروفسور، قال. اتصلت بزوجتك، وهي تتمنى لك النجاح والتوفيق في مهمتك الباسك. اضطرتني إلى أن أقول لها كل شيء، فمعذرة!
فتح نجي أبي بكر معبرًا لنا من السجاد الأحمر بين الحاضرين، والطبيب الشخصي للملك يطالبني ويلح أن أبذل قصارى جهدي لإقناع آميديه بالعدول عن مشروعه السياسي، وقطع على نفسه عهدًا بالعمل على رضاء الملك عنه وتسامحه، حتى أنه سيقنع جلالته بتزويجه من سمو الأميرة ابنته الكبرى، فينتهي كل شيء على ما يرام. نظرت إليه بدهشة واستغراب، فموقفه، في الوقت الحاضر، يعارض قناعاته الفلسفية.
- سنحاول كتابة التاريخ بطريقة أخرى، بروفسور، قال الطبيب الذائع الصيت، إن كان نجاحنا أعدنا النظر في مواقفنا كلها، وإن كان فشلنا قلنا إننا حاولنا.
حصلت ضجة مفاجئة حولنا، فظننت الملك مغادرًا القصر، لكني رأيت رجلاً قصيرًا أصلع بوجه أعرض وشفتين هدلاوين، فهمس أبو بكر في أذني:
- ها هو الفارس بوعمير، حاكم شذونة. لم أكن أعلم باستدعاء جلالة الملك له.
- في هذا الظرف الصعب، علقت، ربما دعا نفسه بنفسه ليعرض خدماته.
- هذا ممكن مع شخص مثله.
توقف أمام أبي بكر، وسلم عليه بحرارة، ثم تابع طريقه بعد أن رماني بنظرة فاحصة.
- هذه هي المرة الأولى التي أراه فيها عن مقربة، قلت.
سارع الطبيب الشهير إلى القول:
- عليّ العودة إلى مكتبي، فلن يتأخر جلالته عن طلبي.
وعاد إلى توصياته، قبل أن يعود أدراجه.
- سنمر على منزلي، قلت لأنطونيو، لأخذ بعض الأغراض.
- لا داعي لذلك، بروفسور، طمأنني، لقد أعددنا كل شيء.


يتبع الفصل الثالث عشر من القسم الأول