أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل العاشر


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4718 - 2015 / 2 / 12 - 10:18
المحور: الادب والفن     

أرغمني أبو بكر الآشي على قول كل شيء بخصوص آميديه، أصله الأردني، حلمه اللامعقول، استقلال أرخذونة، علاقاته برفاقه الباسك، وهو يريد أن يُوَفَّق إلى الاستقلال بالوسائل السلمية. في حال ما إذا فشل في سعيه، فلسوف يلجأ إلى العنف. بررت ذلك متذرعًا بحمية الشباب، وكذلك بقلة التجربة، وقطعت عهدًا على جعله يرجع عن كل هذا الجنون، دون أن يطلب أبو بكر مني ذلك. كنت أريد الدفاع عن آميديه بأي ثمن، وتفادي غضب الطبيب الشخصي للملك، غير أنه استمع إلي بهدوء كبير.
رأيت على شفتيه ابتسامة لم تنقطع عن الاتساع، فأراحتني ابتسامته وأربكتني في آن واحد. سألته عن كنهها، وإن كان سببها عدم تصديق ما أحكي. لم يجبني، لكنه تركني إلى راصدة فلكية، سارّني أنه ينقلها معه أينما ذهب، وأن علم الفلك وجهه الخفيّ، خطيئته، المهنة التي كان يريد ممارستها. نظر منها إلى نجوم وادي الرامة، من إحدى الشقق الملكية، قرب لوحات أخرى بدائية فلامندية لتيتيان وديجريكو ودوزورباران، ونحن في قلب الليل.
- مع أن علم الفلك وعلم التنجيم مرتبطان ارتباطًا وثيقًا عند فيثاغورس، أنا لا أطالع النجوم لأقرأ طالع آميديه، قال أبو بكر مواصلاً النظر من الراصدة الفلكية، بل لأحدس أين ستطلع الزُّهَرَة.
لم أفهم ما يعنيه، فأشار إليّ أن آتي، وأنظر. نظرت من حيث نظر، فلم أر سوى كمية لا تعد ولا تحصى من النجوم.
قال عائدًا إلى راصدته:
- مَنْ لا يعرف شيئًا عن علم الفلك يرى ما رأيت، وأبدًا لن يعرف موضع الزُّهَرَة، والذي هو تلك النقطة السوداء في بحيرة الظلام.
وهكذا فهمت ما القصد من كلامه:
- تريد القول إن آميديه لا يعرف كيف يحقق مرامه، ولا يقدّر العواقب الوخيمة التي ستنجم عن ذلك؟
- هذا هو مصير كل جاهل بعلم الحياة، والفلك هو الحياة.
دفعني بهدوء إلى حيث كان مجلسنا، وبعد لحظة من التأمل، قال:
- بعض الأحلام تتحول إلى كوابيس على أرض الواقع، وحلم آميديه هذا لهو واحد منها. انظر، على سبيل المثال، إلى الحلم الباسكي، والعناد المميز لأصحابه منذ سنين، وحتى سنين طويلة أخرى كذلك. إن لم يبدل الحلم أصحابه، وجدوا أنفسهم مضطرين إلى التضحية، فَيُقْتَلوا جميعًا. تبديل الحلم أمر ليس سهلاً، لهذا تتوارثه الأجيال تلو الأجيال، ولا تجعل الفاجعة بأصحابه سوى أن تزيدهم إيهامًا، على الرغم من أنهم يدركون أن كل ذلك ليس ممكنًا في ظروف إسبانيا الحالية.
- حتى ولو لجأوا إلى قوة خارجية؟
وأنا أقول هذا، كنت أفكر، بخصوص أرخذونة، في الأردن، البلد الذي جاء سكانها منه.
- لن يلجأوا إلى أية قوة خارجية، ليس لأنهم يطبقون مبدأ "حي بن يقظان"، بطلي، والذي يرى "أن المقدرة الإنسانية تستطيع التوصل إلى إدراك العالم العلوي دون اللجوء إلى عون قوة خارجية"، قوة تتدخل بالفعل وبوضوح لا كوسيلة تُحَرِّض، ولكن لأن أهل الأندلس، في الماضي، قد تخلى عنهم السلاطين العرب والمسلمين، تمامًا كأهل الباسك الذين ترفض اليوم أوروبا لهم كل مساعدة، تاركة إياهم وحدهم أمام مصيرهم.
- ما الفائدة إذن من الإدراك دون الفعل؟
- لتكون الفاجعة، ولتتجدد بلا نهاية، مع تأبيد الحلم، وليغدو هذا المنطق للتاريخ صراطًا. لا بد أن آميديه يعرف من هم أهل الباسك، ومن أين جاؤوا. إن أجدادهم هم أوائل الإيبيريين الذين جاؤوا من الصحارى، بمعنى أن أجدادنا كانوا آباءً لأجدادهم، نحن وهم من أصل واحد. المشكل إذن لا يكمن في أصلهم، ومن أين جاؤوا، وإنما في تأبيدهم، وبقاء لغتهم الأوسكارية منذ آلاف السنين، بسبب تلك الفاجعة التي أحدثك عنها. كانت الفاجعة محفزًا على العيش والصمود أمام كل الموجات البشرية التي اجتاحت شبه الجزيرة الإيبيرية من إغريق وقرطاجنيين وقوط وفيزيقوط وعرب وغيرهم.
- إذن هل نضع حدًا للفاجعة بإعطائهم الاستقلال؟
- مع الاستقلال سيتبدل الحلم، وستتبدل بالتالي الفاجعة كذلك، مثل هذه الشعوب التي اعتادت على المأساة لن تستمر في العيش والبقاء. لهذا السبب، السلطة المركزية في إسبانيا، على رأسها جلالة الملك حفيد ألفونس دوبوربون، لن تعطي أبدًا الاستقلال للباسك، لأن منطقتهم لن تستقر، لأن منطقتهم لن تستمر في الحكم بما فيه الكفاية، والصراع القائم بين الذين هم مع العنف وبين الذين هم ضده لهو خير برهان على ذلك، ولأن –هذا ما حدثني عنه عاهل البلاد بصراحة- إذا ما أُعطي الباسك استقلالهم، طالبت بدورها كل شعوب إسبانيا بالاستقلال، ليس فقط شعوب إسبانيا بل وكل شعوب أوروبا، فتنقسم البلاد، وتتشرذم العباد، وتتهدم أركان هذه الحضارة.
سكت قليلاً على ضحكات الأميرة إيزابيل الرنانة وآميديه الآتية من الصالون المجاور، وأصغى بعض الوقت. لم يعلق بشيء، وواصل:
- في فرنسا، كان البريتانيون حتى عهد قريب يُمنعون من التكلم بلغتهم، ومن تسمية أبنائهم بأسماء أجدادهم. لقد حصل الشيء ذاته لأجدادنا في غرناطة، وفي كل مدن الأندلس منذ خمسمائة سنة، فالنظام الذي يقوى على الفاجعة الإنسانية لم يتغير. في نصي الجديد "لحي"، بعد أن ييأس من إقامة أية عدالة اجتماعية على الأرض، سيفهم بطلي كل هذا، وسيعتقد أن الخلاص يبدأ بمعرفة الحق قبل معرفة الحقيقة، فينجح، على المستوى الفردي، عندما يصبح إنسانًا كاملاً على صورة الله، عاجزًا، مع ذلك، عن تغيير أي شيء، على المستوى الجماعي، عندما يعود إلى مجتمع عبادة الحروب، السلطة فيه قانون حكامه، فتجعله الظروف أحد جلاديها الأشد شراسة، حتى ييأس من كل شيء، لأجل أن تبقى الفاجعة. استطاع عاهل البلاد أن يجعل في الإبقاء عليها حِكمة للحكم في زمننا، ومفهومًا للتعايش إن لم يكن للعيش، خوفًا من أن تتحول هذه الفاجعة إلى كارثة لن يقوم منها أحد.
ومن جديد، سمعنا ضحكات صاحبة السمو الملكي وطالبي اللامع، فأشار أبو بكر الآشي بإصبعه إلى الناحية التي تأتي منها:
- كل واحد اليوم يحمل فاجعته، ويسير، وإلا ما بقي فينا واحد، على وجه الخليقة. من هناك، من حيث تأتي هذه الضحكات المرحة، تبدأ واحدة، فلا أفعل من طرفي ما يمنعها، أتركها تتشكل، وتجني نفسها بنفسها.
لم أفهم ما يعني.
- هذه الضحكات التي ترن كقطع الذهب، قال، ما هي إلا لعاشق وعاشقة، عشق لامعقول، لن يضاهيه عشق آخر غير عشق الله.
أربكتني كلمات أبي بكر، فأنا أعرف طبيعة آميديه، فيما لو أحب إيزابيل، أولى أميرات البلد.
- إذا كان الأمر كذلك، همهمت، فسيحمل آميديه السلاح من أجل حرية محبوبته بالقدر ذاته من أجل حرية أرخذونة.
- لو كان بطلي الجديد "حي" حيًا لفعل مثله، لصنع من الحب مأساته. لقد تدخلت في منع الموت عن آميديه باعتقال الكاردينال ريفيرا لأن تلك لم تكن فاجعته التي يجب أن تكون بالفعل فاجعته.
أذهلني منطقه، كان يرى العالم كجملة من المآسي والآلام لا كنسيج من ملاهي البشر وآمالهم، ومحرك العالم كما يراه المأساة. كانت كلماته حازمة، وكأنه صاحب نبوءة لا محيد عنها، علمته النجوم إياها.
- لقد اقترب موعد طلوع الزُّهَرَة، قال، وهو يتقصى النجوم.
استشرت ساعتي، كان الليل يخلع عن جسده الأسود نصف ثوبه، وموعد طلوع الزُّهَرَة لم يزل بعيدًا. أبديت له ذلك، فأجاب:
- مع كل دقيقة، تَقَدُّمُ الليل يقترب بنجمة الصباح، إنه منطق فاجعة طلوع الشمس ذاته، إذا ما رمزنا إلى الليل بالشر وإلى النهار بالخير، الواحد يولد من الآخر إلى أبد الآبدين، ولكن عندما يحين الوقت لذلك.
- هل نستسلم للأقدار إذن؟
- ما تدعوه "الأقدار"، أوضح، ما هو إلا مجموع الإرادات الفردية، إرادة الله، كما يرى الفلاسفة العقلانيون الذين أنا واحد منهم، إنه مفهوم وحدة الوجود، فالله والطبيعة شيء واحد، والكون المادي والإنسان ليسا سوى مظاهر للذات الإلهية. لهذا، الاستسلام للأقدار لا معنى له إلا للمخلوقات الدنيا، وفي عين الخالق الأعلى، ليست إلا الفاجعة المحتومة للإنسان، ومَسْكَنُنَا الأخير المتمثل بالموت لهو خير مثال. هل تنسى الموت، بروفسور؟ الموت المترصد عند آخر الطريق والمنتظر لكل واحد منا؟ حتى السعادة، في هذه الشروط، تغدو إحدى الطرق المؤدية إلى الموت. السعادة كالتعاسة، الكره كالحب، وكل المشاعر الأخرى المصاحبة لأفعالنا. الإنسان، صاحب هذه المشاعر، لن يفلت من الموت.
- إذن، بوصفنا بشرًا، لِمَ الصراع من أجل شيء، من أجل حلم، ونهاية المطاف هي العدم؟
- لتبقى قصص الناس وليعيد التاريخ نفسه.
جاءت الأميرة إيزابيل وآميديه، كانت تحمل قطًا صغيرًا، وكان يحمل مخطوطًا قديمًا، وهما يضحكان، فسأل أبو بكر الآشي عن سبب ضحكهما.
- لحكاية حب بين موريسكي وقشتالية، قالت الأميرة.
بدا على آميديه أنه تعافى تمامًا، بينما أخذ يترجم عن الرومانثية:
- أراد موريسكي أن يتزوج من قشتالية، فاشترط عليه أهلها أن يتنصر، الأمر الذي فعله بكل بساطة دون أن ينتظروا منه ذلك، وهم يعلمون علم اليقين أن زواج امرأة نصرانية من مسلم لا يعني أن يترك للمسيحية دينه! واشترط عليه أهلها أن يقاتل في صفوفهم، الأمر الذي فعله بكل بساطة دون أن ينتظروا منه ذلك، وهم يعلمون علم اليقين مدى حمية المسلمين فيما بينهم وعصبيتهم! واشترط عليه أهلها أن يأتي لها بتاج الأرملة ملكة غرناطة مهرًا، الأمر الذي فعله بكل بساطة، وهم يعلمون علم اليقين أن مثل هذا التاج لا يمكن لأحد الوصول إليه حتى ولا يد الملكة ذاتها! ولكن لسوء حظه أو لحسنه، أوقفه حراس ملكة غرناطة على باب القصر، وساقوه إليها، فوقعت هذه في غرامه أول ما رأته، وأمرته بالزواج منها، فقال إنه نصراني، فقبلت به راضية، وإنه قاتَلَ في صفوف أعدائها، فقبلت به راضية، وإنه سارق تاجها، فقبلت به راضية. تزوجها بعد أن عاد إلى إسلامه، وصار ملكًا، لكنه لم ينس حبه للقشتالية. أعد العدة، وقام بغزوة ضد أهلها أسرها فيها وأسرهم جميعًا. وللزواج منها، اشترط عليها أن تُسْلِمَ هي وكل أهلها، وإلا قتل كبارهم وشرد صغارهم، الأمر الذي فعلوه بكل بساطة، وهم يعلمون علم اليقين أن إسلامهم ظاهر ونصرانيتهم باطن مقابل ما لاقوه من جاه وشأن. وبعد وفاة الملكة، صارت ابنتهم ملكة غرناطة مكانها، رزقها الله وزوجها بنين وبنات عاشوا طويلاً في رغدهما، أحبوا بدورهم وكرهوا، تزوجوا وأنجبوا، إلى أن رحلوا كلهم، نصارى ومسلمين، والأديان من بعدهم وحدها الباقية".
التفت أبو بكر الآشي إليّ، وقال:
- هذه واحدة من القصص التي حدثتك عنها، والتي سنكتبها بالدم حتى نهاية الأزمان.
ارتعشت الأميرة إيزابيل من الخوف.
- عم تتكلم، سنيور أبو بكر؟ سألت وهي تضغط القطيطة على قلبها. كنت أضحك للسخرية التي تفلت من هذه الحكاية، وها أنت لا تجد فيها إلا الجانب المرعب! قل لي، عم تتكلم؟ ماذا تعني؟
ابتسم لها أبو بكر، وأخذ يدها بين يديه.
- لا شيء! قال. أنا لا أعني شيئًا! لقد تأخر الوقت، لا بد أن سموك تعبة، وعليك الذهاب إلى النوم.
ابتسمت وهي تنظر إلى آميديه.
- مع دون آميديه، لا أشعر بالوقت كيف يمضي، قالت وهي تداعب القط الصغير.
- هو أيضًا تعب، فلم يترك فراش المرض إلا اليوم، وهو بحاجة إلى النوم.
- أريدك أن تطلب من القيمين على مركز الدراسات أن يصعدوا لي كل مخطوطات الرومانثي، قالت صاحبة السمو الملكي للعالم الذائع الصيت، لقد قرأنا، أنا وآميديه، كل ما أحضروا دون أن نجد القصة التي تتمناها.
- لم أكن أعلم أن آميديه يعرف الرومانثية، قلت، فيا للحظ! وإلا ما استطعْتِ، يا سمو الأميرة، إنجاز هذا العمل الضخم وحدك.
ابتسمت الأميرة إيزابيل لآميديه، له وحده هذه المرة، ورأيتها تسبح في السعادة.
- حقًا، يا للحظ! قالت.
- يا للحظ لي أنا! أجاب المريض السابق. لولا صاحبة السمو الملكي والسنيور أبو بكر لما استطعت الوقوف على قدميّ ثانية.
- أرجو أن ينتهي كل شيء قبل انتهاء العطلة، قلت.
- سأرتب لك إجازة سبعية لو لزم الأمر، بروفسور، تدخل أبو بكر، فلا تشغل بالك من أجل هذا.
توادعنا على أمل اللقاء في صباح الغد، وذهب كل واحد منا إلى حجرة من حجرات القصر ما عدا أبي بكر الذي عاد إلى راصدته الفلكية، يتقصى النجوم، ويقرأ في مداراتها.


يتبع الفصل الحادي عشر من القسم الأول