أربعة وأربعون شهرا وأربعة وأربعون عاما/6- سميرة، رزان، وائل، ناظم، وغيرهم من الآخرين المطلقين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4717 - 2015 / 2 / 11 - 15:46
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

قبل نحو 14 شهرا اختطفت في دوما في الغوطة الشرقية زوجتي سميرة الخليل مع كل من رزان زيتونة ووائل حمادة وناظم حمادي من قبل مسلحين مقنعين. ومنذ ذلك الوقت لا أعلم ولا يعلم أهالي المخطوفين الأربعة شيئا عن المرأتين والرجلين، وإن صرنا على يقين بأن تشكيلا عسكريا سلفيا اسمه "جيش الإسلام" هو الفاعل.
سميرة كانت معتقلة عند نظام حافظ أسد لمدة 4 سنوات، بين عامي 1987 و1991، بوصفها مناضلة يسارية. وهي شاركت في معظم أنشطة الطيف الديمقراطي منذ أيام "ربيع دمشق" القصيرة مطلع القرن، بما فيها تجمعات احتجاجية في الشارع، اعتقلنا إثر واحد منها نحن الاثنان لوقت قصير في ربيع 2004. سميرة شاركت في أنشطة احتجاجية منذ بداية الثورة أيضا.
ورزان محامية وكاتبة وناشطة حقوقية معروفة ومحترمة، محليا ودوليا، وهي من مؤسسي لجان التنسيق المحلية عام 2011، وقد قامت (اللجان) بدور مهم في تنظيم الاحتجاجات الشعبية منذ بداية الثورة السورية في ربيع 2011، وفي تغطيتها إعلاميا، وفي تطوير رؤية سياسية مبكرة لتطللعات السوريين المنخرطين في الثورة قبل أن تقول المعارضة الحزبية التقليدية شيئا، ثم بدور إغاثي كبير في عام 2012 وما بعد. رزان مؤسسة أيضا لمركز توثيق الانتهاكات، الجهة المحلية الأكثر تدقيقا في جمع المعلومات عن ضحايا الثورة والمعتقلين.
واعتقل وائل، وهو زوج رزان، مرتين أثناء الثورة وتعرض لتعذيب شنيع. وكان تعرف على رزان في أنشطة احتجاجية تضامنا مع الفلسطنيين ضد عدوان إسرائيل عام 2002، وعملا معا في إحدى منظمات حقوق الإنسان. ومعهما عمل ناظم، صديقنا المشترك، الشاعر والمحامي. وكانا، هو ووائل مساعدين لرزان في لجان التنسيق وفي مركز توثيق الانتهاكات، وما كان لرزان، وهي المركز المحرك والمبادر لهذه الأنشطة دون ريب، أن تحقق ما حققت لولا مساعدة الرجلين المخلصين.
الأربعة ناشطون سلميون عزل، لكن فكرتهم عن الثورة لا تستبعد أشكال المقاومة المسلحة، وإن حاولت "لجان التنسيق المحلية" المساهمة في تنظيم المقاومة في بعض المناطق، واقتراح مدونة سلوك للجيش الحر. بالفعل، في مطلع آب 2012 كتبت رزان مدونة، ووضعتُ أنا مقدمة وجيزة لها، ووافقت عليها مجموعات مقاتلة فعلا، لكن عصفت بها الحوادث فيما عصفت.
كانت رزان ووائل وناظم متوارون في دمشق ومطلوبون من النظام، وصارت سميرة مطلوبة في ربيع 2013، فجاءت إلى الغوطة الشرقية، المنطقة التي طردت قوات النظام منها في خريف 2012. وكنت سبقتهما هي ورزان إلى المنطقة بعد سنتين من التواري في العاصمة، وعشنا نحن الثلاثة معظم الوقت في بيت واحد، وبقيتا هما معا قبل خروجي من دوما إلى الرقة في تموز 2013. عملت المرأتان معا قبل أن ينضم إليهما وائل وناظم في أيلول 2013.
اختطاف الأربعة مناسب للنظام تماما، فهم معارضون معروفون، ويمثلون بأشخاصهم وعملهم وتاريخهم الوجه التحرري الأبرز للثورة، ومن شأن تغييبهم بعد عامين وتسعة شهور من الصراع أن يسهل اختزال الصراع السوري إلى صراع بين الدولة الأسدية وبين مجموعات سلفية، وهو ما كان يريده النظام طوال الوقت. وهذا ما يناسب المجموعات السلفية نفسها التي تريد بدورها تصوير نفسها بأنها الطرف الوحيد في الصراع ضد النظام، بما يهمش الدور الكبير والتأسيسي لناشطين سياسيين وحقوقيين ومثقفين ديمقراطيين منذ بداية الجولة الحالية من الصراع، وطوال عقود قبلها.
وبين الأربعة، لسميرة التي كانت تدير مركز "النساء الآن" في دوما، وهو يؤمن موارد لنساء محليات لإنتاج ما يساعدهن في إعالة أسرهن، رمزية خاصة. فهي معتقلة يسارية سابقة لأربع سنوات، وتمثل تاليا استمرارية كفاح السوريين خلال جيلين. وسميرة، من ناحية أخرى، علوية المنبت، ما يجعلها تجسد أكثر من أي شخص آخر الصفة العابرة للطوائف لكفاح السوريين، وما يجعل وضعها الحالي كمخطوفة من قبل إسلاميين رمزا لجبهتي كفاح السوريين الشاق ضد فاشيي ربطة العنق وضد فاشيي اللحية. ومن ناحية ثالثة ترمز سميرة، ورزان، للدور الكبير فعلا للنساء في الثورة السورية، دور لم يتحقق له تعبير سياسي، ولم يفرض نفسه في الثقافة والتفكير العام بالقدر المطلوب. وأخيرا، فإن ما يميز سميرة شجاعة وإنسانية وتواضع وإصغاء للآخرين، وانحيازات سياسية واضحة لا لبس فيها، يجعل منها مثالا مشرفا للمرأة المناضلة في سورية.
رزان من جيل أصغر، مواليد 1977، لكنها فرضت نفسها كأبرز نساء ورجال جيلها. لقد حولت رزان نشاط حقوق الإنسان من مجال متنحي يعمل فيه رجال متعبون ومتقاعدون، إلى عمل كفاحي ضد الطغيان ودفاع حار عن العدالة. وهي واسعة التجربة قياسا لعمرها، ومن الأفضل اطلاعا على الأوضاع الحقوقية، وبخاصة أوضاع الإسلاميين الذين هددودها بالقتل واختطفوها في النهاية. رزان أيضا كاتبة موهوبة رائقة الأسلوب، وإدارية حازمة في عملها في لجان التنسيق المحلية وفي مركز توثيق الانتهاكات.
اختطاف المرأتين والرجلين المطلوبين من قبل النظام في منطق خارجة عن سيطرته هو أكبر ضربة سياسية ورمزية استهدفت التيار الديمقراطي الجذري العابر للمناطق وللطوائف في الثورة السورية. لم تكن نقطة البداية في تحطيم هذا التيار الذي اختطف النظام واعتقل وسجن وهجر كثيرا من رموزه، لكن اختطافهم كان الجريمة التي سوّدت أكثر من غيرها أفق الثورة، وأثارت أشد التشاؤم بمستقبلها ومستقبل الناشطين المدنيين.
وما أجده مؤلما على نحو خاص في قصتهم بعد 14 شهرا من جريمة الاختطاف هو شيئان، الأول أنه ليس وراءنا، نحن أهالي وأصدقاء المخطوفتين والمخطوفين، دولة أو دول، ولا نملك الملايين (أمكن الإفراج عن رهائن فرنسيين وطليان وأسبان بعد أن دفعت الدول المذكورة مالا بالملايين للخاطفين)، ولا سندا من قوة مسلحة أو "أقلية" أو طائفة نافذة. ومن جهة أخرى، أنه ليس هناك آلية عدالة على أي مستوى يمكن أن نحتكم إليها، لا محليا ولا دوليا. الأمم المتحدة لا تهتم لمصير الأشخاص (ولا الشعوب في الواقع)، والمحكمة الجنائية الدولية تتعامل مع دول فقط. ونجد أنفسنا كناشطين عامين وكأهالي للمخطوفين في وضع غير ملائم. فنحن من جهة لا يسرنا أن نعزل قضيتنا عن قضية السوريين العامة، في مواجهة تحالف إجرامي أسدي أيراني روسي، لكننا من ناحية ثانية لا نستطيع ألا نبذل عناية خاصة بأحبابنا المختطفين الأربعة اللذين ينكر خاطفوهم مسؤوليتهم عن جريمة الاختطاف رغم وفرة الأدلة والقرائن، وهو ما يثير لدينا قلقا مضاعفا، ونحن لا نعلم شيئا عن مصيرهم طوال أكثر من 400 يوم. وفوق ذك لم نلق أي عون من قوى المعارضة الرسمية التابعة، وهي حتى لا تعبر عن التضامن مع قضيتنا.
لسنا عزلا تماما. عملنا في أوقات سابقة على استنفار المنظمات الحقوقية الدولية ووقعت عشرات المنظمات مرتين على بيانات تندد بالخاطفين وتدعو إلى إطلاق سراح المخطوفين، لكن هذا لا يثمر. هذا المنظمات ليس لها تأثير على الدول، ولا على مجموعات فاشية، تنال الدعم من وراء الستار من دول عديدة.
نشعر بمناسبة هذه القضية والقضية السورية ككل بوجوب استحداث آليات وقواعد عمل جديدة على المستوى العالمي، عابرة للدول أو أممية جديدة، لا تعمل على إعادة النظر بالنظام الدولي القائم المتمثل في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، ولكن كذلك تواجه قضايا تنامي العنصرية وازدياد قوة الدول أما المجتمعات، والتعفن الأخلاقي والفكري السياسي لليسار العالمي.
أتساءل اليوم، وقد جرى تفويت كل فرصة لمساعد السوريين: ترى لو أطلقت الدولة الأسدية اليوم سلاحا نوويا على الثائرين عليها، هل يحتمل أن يعاقب عالم اليوم المجرم؟ أشك في ذلك كثيرا. لقد فشل النظام العالمي في معالجة المحنة السورية، وهو لذلك يخسر شرعيته، وتسخر القوى القائدة له جدارتها بالقيادة.
موزعين بين مكشوفين تحت قصف الطيران والصواريخ ومعتقلين ومحاصرين مجوعين ومخطوفين ومهجرين ولاجئين ومقيمين في مخيمات، نشكل نحو السوريين اليوم لا أحد، آخرين مطلقين لأنوات العالم، أرخبيلا بشريا منتشرا، مجردا من الكيان والحماية، عابرا للدول والهويات والعقائد و"الحضارات"، ومدفوعا نحو أقاصي المصير الإنساني. داعش نفسها جزيرة ضمن الأرخبيل، واحتمال أقصى بين هذه الأقاصي. وبينما لا نجد عدالة في عالم الدول والهويات، فإن عالما وراء الدول والهويات والحضارات والعقائد، هو ما قد يكون مضيافا للسوريين المحتقرين.
لقد تحطم الإطار المحلي للكفاح السوري منذ عام 2012، وقد يكون الإطار العالمي للصراع آخذا بالتحطم. وتلوح في الأفق مؤشرات على "ثورة" أمنية عالمية. في عالم واحد، الفشل في مساعدة كفاحـ"هم" التحرري، يرفع منسوب الفاشية عند"ك" أيضا. شبح الآخر المطلق ليس بعيدا، إنه مقيم بداخلك. ومع الإطارين المحلي والدولي، تتحطم أطر تفكير وتحليلات يسارية زائفة، تتكلم على "صراع زائف" في سورية، حسب فليلسوف لا يعرف شيئا عن سورية على الإطلاق، سلوفو جيجك، أو تنضبط بثنائية إسلامي/غربي حسب تحليلات أحدث للمثقف السلوفيني نفسه.
سميرة ورزان ووائل وناظم، ومئات ألوف المكافحين السوريين، ليسوا وكلاء لصراع زائف، أنهم شهود أحياء على صراع تحرري أصيل، مفعم بالحياة و... الموت.