ج 2 ف1 أولا : تعليل لتركهم الصلاة


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4715 - 2015 / 2 / 9 - 18:13
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الثانى : العبادات فى مصر المملوكية بين الإسلام والتصوف الفصل الأول :أثر التصوف فى شعيرة الصلاة فى مصر المملوكية
* تعليل لتركهم الصلاة :
1- وبعض القصص الصوفية كانت تشى بترك الصوفية للصلاة بشتى الحجج والمعاذير .. كأن يحكى الغزالى عن أحد النساك يقول (أتيت ابراهيم بن أدهم فوجدته قد صلى العشاء ، فقعدت أرقبه فلف ّ نفسه بعباءة ، ثم رمى بنفسه ،فلم ينقلب من جنب إلى جنب الليل كله ،حتى طلع الفجر ، وأذن المؤذن فوثب إلى الصلاة ، ولم يحدث وضوءاً ، فحاك ذلك فى صدرى ، قلت له : رحمك الله قد نمت الليل كله مضجعاً لِِم لم َتجدد الوضوء ، فقال : كنت الليل كله جائلاً فى رياض الجنة أحياناً وفى أودية النار أحيانا ،فهل فى ذلك نوم ) .، وتلك القصة تتطلب صوفياً معتقداً يؤمن بكلام ابراهيم بن أدهم مهما قال ، أما نحن فنقول أنها تعليل غير مقنع لإهمال الوضوء وإبطال الصلاة عن عمد ، وأنها كانت سابقة للصوفية اللاحقين ممن خصصوا كراماتهم فى إهمال الوضوء والإستنجاء ،وعن طريق ذلك استهانوا بحرمة الصلاة والطهارة وكانت تأديتهم للصلاة مظهرية وبدون وضوء أو إستنجاء وطهارة ، ولمجرد أن يؤمن الأتباع – وهم يصدقون إدعاءاتهم ـ بكراماتهم تلك ..

ويحكى الغزالى أيضاً أن أحدهم قيل له بصوت عال (إلا أن للخلق غداً مقاماً ، فبقى مبهوتاً فاتحاً فاهُ شاخصاً ببصره يصيح بصوت ضعيف .. وظل مبهوتاً على حالته متحيراً لا يؤدى فرضاً ،فلما كان بعد ثلاث عقل) ، فذلك المبهوت استمر فاتحاً فمه وعينيه ثلاثة أيام بالتمام والكمال ، ومن الطبيعى ألا يصلى طالما ظل مفتوح الفم والعين طيلة هذه المدة ، وكل ذلك لأن قائلا ً – لا بورك فيه – صاح فيه فجأة بأن للخلق غداً مقاماً.. وكأن صاحبنا الصوفى قد عرف هذه الحقيقة لأول مرة فارتاع ، واستمر مرتاعاً ثلاثة أيام ،ونحن مطالبون بالرثاء لذلك الصوفى ومسامحته فى تركه للصلاة ثلاثة أيام ، فالخطب جليل ومحنته شاقة ويكفيه من أمره عسراً أن ظل مصراً على فتح فمه طوال هذه المدة بلا توقف وهذا عناءاً يهون معه أمر الصلاة!!.

ويهمنا أن الغزالى يومىء بهذه الأسطورة إلى أن المبهوت أو المجذوب يسقط عنه التكليف طالما ضاع منه عقله ..ذلك ما صرح به الدسوقى فيما بعد فى القرن السابع من أن (من غاب بقلبه فى حضرة ربه لا يكلف فى غيبته) ، وكانت رخصة صوفية للمجاذيب فى العصر الممولكى يتركون بها الصلاة ..
2- وفى العصر المملوكى اختلفت المواقف بشأن تعليل ترك الصوفية للصلاة .. مع تنوع فى أساليب التعليل، فبعض الفقهاء الصوفية كابن الحاج استنكر تركهم الصلاة يقول(منهم من يقوم مع الناس لصلاة الجماعة فإذا ركعوا أو سجدوا بقى واقفاً ينظر اليهم ،لا يحرم،ولا يركع ولا يسجد ثم يتمادى على ذلك حتى يفرغ الناس من صلاتهم، ومنهم من يدعى أنه يصلى فى مواضع أخرى ويرى أنه ممن يُتبرك به ‘وأنه من الواصلين ) ،فمن الصوفية من كان يتباهى وسط المصلين بعدم صلاته .. فخوراً بأنه قد سقط عنه التكليف ،ومنهم من يدعى أنه يصلى فى أماكن أخرى بحجة أنه من أهل الخطوة الذين تطوى لهم الأرض فينتقلون من مكان لأخر بلا عناء أو سفر ..
ويقول السخاوى عن الشيخ ابن سلطان(ت853)(أنه بالغ فى العزلة ،حتى لم يكن يحضر صلاة الجمعة مع قرب سكنه جداً من الأزهر ) ،وعدم صلاته الجمعة دليل على تركه للصلاة الأخرى..والعزلة مؤهل الصوفى لإدعاء الولاية ، وادعاء الولاية يتفرع عنه الإعتقاد فى سقوط التكاليف عنه ..
ورزق العصر المملوكى بالشعرانى الذى استغل اعتقاد العصر فى الصوفية وأنهم من أهل الخطوة فانبرى يتخذ منها حجه يدافع بها عن أشياخه تاركى الصلاة..وقبل أن نعرض للشعرانى موقفه نقرر أن صلاة الصوفى فى مكة- مثلاً- وهو بمصر كانت قضية مسلماً بها من العصر وتذكر ضمن مناقب الصوفى وكراماته فيقال مثلاً عن الشيخ أبى ناصر صدقه (كان يصلى الخمس بمكة المشرفة) ، إلا أن الشعرانى أضفى على هذا الإدعاء الأسطورى كثيراً من التفاصيل والمبالغات المتفننه فى الكذب كى يستحوذ على أكبر كمية من التقديس لأشياخه من ناحية ويقابل الإنكار عليهم من جهة أخرى باعتباره صوفياً فقيهاً يرمى لربط التصوف بالإسلام ..
فقد سأل الشعرانى الخواص عن أرباب الأحوال الذين يظهرون الخوارق مع عدم صلاتهم وصومهم فقال (ليس أحدا من أولياء الله له عقل التكليف إلا وهو يصلى ويصوم ويقف على الحدود،ولكن هؤلاء لهم أماكن مخصوصة يصلون فيها كجامع رملة وبيت المقدس وجبل قاف وسد اسكندر) . أى أن الشعرانى يتخذ من اعتقاد العصر فى كرامات الصوفية سلماً لتقرير تركهم الصلاة ،وأولئك لم يكونوا من المجاذيب الذين يتمتعون بتسليم العصر لهم فيما يفعلون ومالا يفعلون..
ثم يذكر الأماكن التى تحظى بصلاتهم ومنها الموجود كجامع رملة وبيت المقدس ومنها ما لا يوجد إلا فى خيال المتصوفة والمعتقدين فيهم كجبل قاف وسد اسكندر، ويعلل الشعرانى –أوالخواص –اختار هذه الأماكن دون غيرها فيقول (والسبب فى صلاتهم فى هذه الأماكن قلة عبادة ربها فيها فأرادوا جبر خاطرها وإكرامها بالصلاة فيها) ، ثم عرض الصوفية أصحاب الصلاة فى تلك الأماكن فقال(ومنهم الآن الشيخ عبد القادر الدشطوطى والشيخ أبو خودة وجماعة ،ومنهم جماعة يصلون بعض الصلاة فى هذه الأماكن وبعضها فى جماعة بالمساجد ، وكان ابراهيم المتبولى يصلى الظهر دائماً فى الجامع الأبيض برملة أللد، فكان علماء حارته ينكرون عليه ويقولون :لأى شىْ لا تصلى الظهر أبداً مع كونه فرضاً عليك ؟ فيسكت ) ،أى أن المتبولى ترك صلاة الظهر عمداً ليوصف بأنه يصليه فى الجامع الأبيض برملة أللد فى فلسطين كل يوم ثم يعود ، على ما يزعمون .
وذكر الشعرانى فى طبقاته أن المتبولى كان لا يراه أحد يصلى الظهر فى مصر أبدا ًوأن بعض الفقهاء أنكر عليه وتزعم الرواية أن ذلك الفقيه سافر الشام فوجد المتبولى يصلى فى الجامع الأبيض وقال له القائم على الجامع أنه يصلى الظهر عندهم فرجع الفقيه عن إنكاره .،ومن زبائن الجامع الأبيض كان الدشطوطى ، يقول الشعرانى فى ترجمته أنه عندما يؤذن للظهر يتغطى بالملاءه ويغيب ساعة ثم يتحرك ويقول (الناس معذورون يقولون عبد القادر ما يصلى .والله أنى ما أظن أنى تركت الصلاة منذ جذبت ،ولكن لنا أماكن نصلى فيها ،فقال محمد بن عنان: أن الدشطوطى يصلى فى الجامع الأبيض برملة لد ) .
والخواص أستاذ الشعرانى كان من رواد ذلك الجامع الأبيض وقت الظهيره أيضاً.. يقول فيه الشعرانى (كان لا يصلى الظهر أبداً فى جماعة ولا غيرها ،بل كان يرد باب حانوته وقت الآذان فيغيب ساعة ثم يخرج، فصادفوه فى الجامع الأبيض برملة لد فى صلاة الظهر ،وأخبرالخادم أنه دائماً يصلى الظهر عندهم ) .
ثم يستخدم الشعرانى أسلوب الفقهاء فى تقنين هذا الإفك وللدفاع عن أولئك الصوفية فيقول (لذا ربما يقال أن الفقير تارك الصلاة وهو خطأ،ولأهل هذا المقام أمارات يتميزون بها على من ترك الصلاة تهاوناً أوكسلاً ، وقال لى سيدى عبد القادر الدشطوطى : ولِم تقول أهل مصر : عبد القادر ما يصلى شيئاً،ونحن والله لا نقطع الصلاة ، ولكن لنا أماكن نصلى فيها ،فقلت ذلك لسيدى محمد بن عنان فقال : صدق الشيخ عبد القادر، له أماكن يصلى فيها ، وأخبرنى الشيخ محمد أيضاً أن سيدى أبراهيم المتبولى ما رؤى قط يصلى الظهر فى مصر حتى قيل : كأن الله لم يفرض الظهر على ابراهيم ،والحال أنه كان يصلى فى الجامع الأبيض برملة لد.وكذلك كان سيدى على الخواص يصلى فى الجامع المذكور الظهر دائماً، وسمعت الشيخ بدر الدين المنشاوى يقول له :الظهر فرض عليك ،فيسكت الشيخ ، وأخبرنى الشيخ يوسف الكردى أنه صلى مع سيدى ابراهيم (المتبولى) الظهر فى الجامع الأبيض مراراً قال : ورأيت الذين يؤم فيهم وهو شاب أمرد نحيف البدن أصفر اللون كأن لونه لون الزعفران .أ.هـ)،ويقول الشعرانى (وقد حضرت أنا صلاة الظهر عند الدشطوطى فلما سمع الأذان اضجع وقال : غطونى بالملاءة فغطيناه بها فلم نجد تحت الملاءة أحداً ثم جاء بعد خمس عشرة درجة ، وكان الخواص يغلق باب حانوته بعد أذان الظهر ساعة ثم يفتحه ففتحوه عليه مرة فلم يجدوه بالجملة .فأرباب الأحوال ينبغى التسليم لهم) .
وهذه هى النتيجة التى يداوم الشعرانى الوصول إليها ..بعد سلسلة من الأكاذيب التى تشرع للصوفية ترك الصلاة