أبو بكر الآشي القسم الأول الفصل الثالث


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4711 - 2015 / 2 / 5 - 10:45
المحور: الادب والفن     

نهضت في ساعة متأخرة من صباح اليوم التالي، والأفكار غامضة في رأسي. أمام باب آميديه، ترددت في طرق الباب، وأنا أفكر في تركه ينام، فمن المحتمل أنه قضى معظم الليل في المكتبة. كان ميلي إلى المخاطرة لا يعني أنني سأركب الأهوال والأخطار معه، لكني كنت عازمًا على مكاشفته بكل ما اكتشفت من نشاطاته الليلية.
في الكافيتيريا، رِواق المبشرين بالإنجيل قديمًا، طلبت من راهبة المشرب فنجانَ قهوةٍ كبيرًا. أتاني راهب شاب، كان يجلس وراء الصندوق، بصحن كبير من الفطائر باللوز والخبز بالشوكولاطة، وأوضح لي بكلمات خافتة، لا تُسمع أو يكاد، أنها تعليمات نيافة الكاردينال ريفيرا. أتتني الراهبة بفنجان إكسبرس كبير يتصاعد منه خيط من الإبهام، وهي تبتسم، ورفضت أن أدفع مقابله شيئًا: كل طلباتي ومعاوني بما فيها الوجبتان الأساسيتان على حسابهم طوال مدة إقامتنا في الإيسكوريال.
حملت فنجان القهوة وفطيرة باللوز، وأنا أفكر في أسباب كل هذا الكرم المفاجئ، إلى طاولة قرب نافذة تطل على باحة الدير. رأيت بعض الرهبان الجالسين في ظلال بعض الأعمدة، وبعض الزوار المتأملي طنافس الطين المحروق، طنافس ناعمة تتنافر مع أسلوب بناء الدير الكلاسيكي الصارم لبوتيستا دوتوليدو، المهندس الأول للقصر. كانت لمسات المهندس الإيطالي جيامباتيستا كوستيللو واضحة، فلربما كان بوتيستا دوتوليدو متأثرًا بأسلوب النهضة الفلورنسي. ضج الدير بالنور الباهر، فطلب زوجان شابان من أحد الرهبان أن يأخذ لهما صورة قرب تمثال من البرنز حفره النحاتان ليونيه وبومبيو ليوني.
في اللحظة التي أردت فيها مغادرة الكافيتيريا، تبسمت الراهبة الشابة عن لؤلؤ والراهب الشاب، فغبطتهما على هذا الجو النادر لدى الطوائف الدينية الأخرى. ربوت برأسي لما في رأسي، وأنا أؤيد قيام أفراد القسمين الذكوري والأنثوي بأعمال مشتركة غير الصلاة والعبادة، وهذه إشارة، إشارة على إشارة، إلى اعتدال الكاردينال ريفيرا، أساسية، كانت ستغيب عني، وكل همي البحث في الفهارس القديمة، بعد كل ما أبداه من اهتمام بالشعر المدنس. ولأخفف من بلبلة أفكار الليلة الأخيرة، فكرت أن الأب الأعلى ربما يرمي من وراء كرمه نحوي وحسن معاملتي وتسهيل أموري لغاية رد الاعتبار إلى ذاكرة الكنيسة في عهد التفتيش، وإبراز وجه من وجوهها ظل مغيبًا، فالوقوع على مثل هذا الأدب الغاضب "الكافر" أو حتى الفاحش، سيثبت أنه كان في عهدِ التفتيشِ مِنَ القُضَاةِ المُقَدِّرُ مِنَ الكُتَّابِ ما تغلُبُ على كتابتهم القِيمة الأدبية أيًا كان الموضوع المعالج، وأن هذا العهد اليوم قد انتهى إلى الأبد مع كل هذا الانفتاح في النظام الرهباني.
لم يستقم لهذه الخلاصة أساس عندما وجدت آميديه في المكتبة: من وراء كل هذا اللطف وكل ذاك الكرم يحاول الكاردينال ريفيرا الوقوف على شيء لا يعرفه أحد إلا آميديه.
ومن ناحيته، يلعب آميديه لعبة الكاردينال، فالسهر حتى الصباح لم يمنعه من الحضور على الساعة المعتادة. كان يتطلع إلى المستقبل، ربما إلى ما فوق ذلك، وعندما صارحته بما اكتشفت ليلة أمس، نفى كل شيء.
كنا نقف إلى جانبٍ وحدنا لا يسمعنا أحد من قليل الرواد الذين ينكبون على كتبهم أو مخطوطاتهم، وكنا على الخصوص بعيدين عن الأخ دومينيك، قرب باب داخلي دغدغ فضولي للمرة الأولى منذ بدئي العمل في هذه المكتبة العريقة. أخذت أداعب بأصابعي خشبه المحفور، وأنا أقول لنفسي إن في الأمر لغزًا يواصل آميديه إخفاءه عني. تفاجأ الراهب دومينيك بسلوكي، فاقترب مني بسرعة، ودعاني إلى الابتعاد عن الباب:
- لا تقترب من هذا الباب، يا أستاذ! إنه محظور على الجميع!
وأنا على وشك سؤاله عن سبب الحظر، إذا بالراهبة زارا وبراهبة أخرى، جميلة جدًا، تخترقان قاعة القراءة، وتتقدمان باتجاهنا. خف الأخ دومينيك إلى استقبالهما، وجاء بهما إليّ:
- أنت تعرف الأخت زارا، وهذه هي الأخت كلارا التي حدثتك عنها، بروفسور!
التفت إلى آميديه قبل أن يضيف:
- السنيور آميديه على علم بالأمر، أخبرته بكل شيء هذا الصباح.
سلمت علينا، أنا وآميديه، الراهبة زارا أولاً، وهي ترمي الراهب دومينيك بنظرة متحدية، وتبتسم ابتسامة متغطرسة. وبالمقابل، سلمت علينا الراهبة كلارا بخجل، وهي تسبل جفنيها، أو تزيح عينيها بعيدًا، كلما تلاقتا بعينيّ، وخاصة بعيني آميديه. سألتها إن كانت فعلاً طالبة في قسم اللغة العربية في جامعة مدريد، فأكدت ذلك، وأضافت أنها تعرفني بالاسم، وأسفت لأني لم أكن أستاذها.
تدخلت الراهبة زارا، وهي تنظر مباشرة في عيني الأخ دومينيك:
- إن الأم العليا تسمح لنا بالتفرغ تمامًا لعمل الأستاذ.
لم يقل الأخ دومينيك شيئًا، وبقي آميديه صامتًا.
قلت:
- هذه لفتة جميلة لا تزعجني.
أحسست أن شيئًا غير طبيعي يجري بين الأخت زارا والأخ دومينيك من ناحية وبين الأخت كلارا وآميديه من ناحية، ولأتحاشى كل سوء فهم، طلبت من الجميع القيام بالعمل.
أخذ آميديه يشرح للراهبتين طريقتي التي يجدر بهما أن تتبعاها، وهو يبتسم خاصة للجميلة كلارا، ابتسامة عاشقة لا تخدع عينًا، إلا أنه نسي نذور الدين نذورها. هي أيضًا كانت تبتسم له، ولكن بخجل، وهي تسبل جفنيها. أراني الراهب دومينيك مخطوطًا لابن هانئ، أمير شعراء الأندلس، الذي اتهم بالكفر لأخذه بمذاهب الفلاسفة، ولتجرده عن الدين، ولمغالاته. تصفحت المخطوط، فوجدت بعض المدائح التي يُصَدَّرُ أكثرها بالغزل، ووجدت بعض المراثي، ولا شيء عن الشعر المدنس، فتساءل الأخ دومينيك عن سبب ذلك، وحاول الإجابة:
- ربما لنقمة المتزمتين من دينه عليه، فدمروا الفاحش من أشعاره.
- أو ربما لموقف المعارضين للملك، صاحب نعمته، وأنا أفترض أن هذا الأخير، كي يفلت من غضبهم، هو من دمر أشعار ابن هانئ المدنسة بعد أن أشار عليه بالتغيب عن اشبيلية لينساه الناس، ولتكون فاجعة موته دون أن يعلم أحد إذا ما كان موته عَرَضًا أم غَرَضًا.
عدت أنظر إلى آميديه وكلارا بعين المدنس، وهما يمارسان الاغتيال على طريقتهما، فتلاشت الحدود بين الغَرَض والعَرَض في فاجعة ابن هانئ. كانت لكل منا فاجعته الخاصة، وَتَسَلُّقُنَا لشجر التفاح شرطنا إلى شبق الموت ولّذة العدم. رأيتهما، وهما يقطفان التفاح، ويرشقان الوجود. وفي مملكة الروح مدينةٌ من الأفكار المجردة من الفضيلة، على ضفافها أطفالٌ لا أب لهم ولا أم، وغير بعيد هناك مومساتٌ يتقنَّ الصلاة، ورائحة المني كرائحة الشواء ألذ رائحة. لم أكن أعرف لماذا ابتسمتُ لابتسامتهما، ولماذا كل هذا المقدس، وأنا أراهما في جهنم يتعانقان عاريين.
مضى الوقت بسرعة، ولم يكن أي منا يشعر بالتعب، ونحن ننتقل، مع أمل الإثم، أو، الأمل بالإثم، من مخطوط إلى مخطوط، ومن مرآة إلى مرآة، ومن هاجس إلى هاجس، لكني سمحت لكل معاونيّ بألا يعودوا إلى المكتبة بعد العشاء، تحت حجة أنه اليوم الأول لعمل الأختين زارا وكلارا، وهما على التأكيد مرهقتان، وكذلك نحن، أنا وآميديه والأخ دومينيك، بعد أسابيع من الجهد المتواصل. كانت غايتي، بالطبع، أن أعطي آميديه فرصة للعودة وحده إلى المكتبة، فأضبطه في حالة تلبس بالجريمة.
ككل مساء، اجتمع الرهبان والراهبات للصلاة في الكنيسة وسط لوحات زورباران ودوتيتيان وديغريغو وغيرهم من مشاهير الرسامين، وغدت الباحة فضاءً رحبًا لقطط الدير السوداء. فتح آميديه باب غرفته بحذر، وكما فتحه أغلقه، وراح يقطع الأروقة الداخلية ثم الخارجية بخطوات سريعة إلى المكتبة التي دخلها دون أن يغلق بابها. أحس، إذن، باقتفائي أثره، وأراد أن أجد نفسي وإياه ليعترف بكل شيء. ترددت في الدخول، لحظةً، وأنا أقف بين دفتي الباب الضخم. أردت العودة من حيث أتيت تاركًا لآميديه حرية فعل ما يشاء طالما أن ذلك لا يعيق عملي، إلا أن حركة مباغتة في الممر جعلتني أعجل في اختراق صمت القاعة المعتمة. درت في أرجائها بحثًا عن آميديه، كمن نكث عهدًا. فجأة، خطر على بالي أنه غادرها من الباب الداخلي إلى جهة أجهلها، فحاولت فتحه دون نجاح، كان موصدًا من كل النواحي ثقيلاً لا يتزحزح: ترك آميديه الباب الرئيسي عن عمد مفتوحًا كي يتسلل منه، فلا يقع في يدي. عدت أدراجي، حائرًا، كعبارة مقتضبة، تحت شراع حيرتي. فتحت غرفة آميديه، فلم يكن موجودًا. دخلت غرفتي، واستلقيت بكامل ثيابي، وأنا أراقب عودته، فانتهى بي الأمر إلى النوم لا أدري كيف، ولم أصح إلا في الغد، حوالي الساعة الثامنة.


يتبع الفصل الرابع من القسم الأول