ج1 ب2 ف 3 : عبودية المريد لشيخه


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4698 - 2015 / 1 / 23 - 08:42
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الثانى : تقديس الولي الصوفي في مصر المملوكية
الفصل الثالث :ملامح تأليه الولى الصوفى فى العصر المملوكى
عبودية المريد لشيخه:
بالغوا في طلب الطاعة من المريد إلى حد أنهم أفقدوه ذاته وحياته. وأمروه بأكثر مما يأمر الله تعالى من العباد.
1 ـ ـ يقول الدسوقي (المريد مع شيخه على صورة الميت لا حركة ولا كلام، ولا يقدر أن يتحدث بين يديه إلا بإذنه، ولا يعمل شيئاً إلا بإذنه من زواج أو سفر أو خروج أو دخول أو عزلة أو مخالطة أو اشتغال بعلم أو قرآن أو ذكر أو خدمة في الزاوية أو غير ذلك) . ولا يكتفي بذلك بل يقول ( يجب على المريد ألا يتكلم قط إلا بدستور شيخه إن كان جسمه حاضراً، وإن كان غائباً يستأذنه بالقلب حتى يترقى إلى الوصول إلى هذا المقام ) . وقد جعل الشعراني من مقالة الدسوقي إحدى قواعد الصوفية فيقول ( المريد الصادق مع شيخه كالميت مع من يغسله لا كلام ولا حركة ولا يقدر ينطق بين يديه من هيبته ولا يدخل ولا يخرج ولا يخالط أحداً ولا يشتغل بعلم ولا قرآن ولا ذكر إلا بإذنه، لأنه أمين على المريد فيما يرقيه) . وقد طبق الشعراني هذه القاعدة على نفسه حتى كان لا يمد رجليه إلا بعد أن يستأذن بقلبه الأولياء ، يقول ( ومما منّ الله تبارك به عليّ كراهتي لمد رجلي في ساعة من ليل أو نهار إلا بعد قولي دستور يا الله أمد رجلي.. وكذلك الحكم في مدها نحو المدينة المشرفة أو نحو ولي من الأولياء ، لا أمدها ناحية أحد منهم حتى أقول: دستور يا سيد المرسلين أو دستور يا سيدي عبد القادر يا جيلاني أو يا سيدي أحمد يا ابن الرفاعي أو يا سيدي أحمد يا بدوي أو يا سيدي إبراهيم يا دسوقي ونحوهم من الأولياء الأحياء .. والأموات .. فإن لم يكن ذلك كشفاً كان إيماناً . فالشعراني يتمسح بقوله( دستور يا الله أمد رجلي) كي يعطي نفس الحق للأولياء الصوفية باعتبارهم واسطة – عندهم بين الله والمريد – وفي ذلك يقول (الأدب مع الشيخ سلم للأدب مع الله .. وإقبال شيخ الإنسان عليه عنوان لرضا الحق عنه ، وأقل مراتب الشيخ أن يكون كالبواب للملك ، فمن كان البواب يكرهه فبعيد أن تقضى له حاجة عند الملك لأنه لا يستطيع الوصول للسلطان من غير الباب، ومن قال من المريدين أنه يقدر على قضاء حاجته عند الله من غير واسطة فقد افترى على الله تعالى.. وأجمع أشياخ الطريق على أن من لم يقدر على ملاحظة شيخه ومراقبته حال العمل لا يصح له مراقبة الحق في طاعته أبداً . والمهم أن الشعراني جعل عقيدة الإسلام في منع الواسطة افتراءاً على الله فقال "ومن قال من المريدين أنه يقدر على قضاء حاجته عند الله من غير واسطة فقد افترى على الله تعالى "!! .
2ــ ويجدر بالذكر أن مقالة الدسوقي عن المريد أمام شيخه أنه (كالميت أمام مغسَّله) مستقاة من وصف الغزالي لإحدى درجات التصوف وهى أن يكون الصوفي بين يدي الله تعالى كالميت تجري عليه أحكام القضاء .. يقول عما أسماه بالدرجة الثالثة من التوكل (وهى أعلاها: أن يكون بين يدي الله تعالى في حركاته وسكناته مثل الميت بين يدي الغاسل لا يفارقه إلا في أنه يرى نفسه ميتاً تحركه القدرة الأزلية كما تحرك يد الغسل الميت) .. وطبقاً لعقيدة الاتحاد الصوفية التي لا ترى فارقاً نوعياً بين الله والخلق فقد أعطى الشيخ الصوفي وصف الله بالنسبة للمريد العابد له ، إلى أن يترقى المريد برعاية شيخه له ويصبح شيخاً في نهاية الأمر يمارس نفس اللعبة مع مريد آخر ، يقول (على وفا) (لم أجد إلى الآن – سنة 804 هـ - مريداً صادقاً معي يعترف لي بأني أعرف منه بخواطره وصفاته الباطنة، ولو وجدته لأفرغت فيه جميع ما عندي من العلوم والأسرار) . ويقول على وفا لكل مريد ( إن وجدت أستاذك المحقق وجدت حقيقتك وإذا وجدت حقيقتك وجدت الله تعالى فوجدت كل شيء ) . فوجود الشيخ فضلاً عن كونه يحقق عملياً عقيدة الاتحاد الصوفية فإنه – يجعل من الشيخ عنواناً لله أمام المريد الصوفي يستغني به عن الله ويتوجه له بكل ما يجب عليه أن يتقدم لله تعالى به، وهكذا صرحوا بأن وجود الشيخ ضرورة وإلا فالمريد ضائع بلا شيخ فيقول علي وفا (من ليس له أستاذ فليس له مولى ومن ليس له مولى فالشيطان أولى به ) . وصار مثلا شعبيا بين الصوفية حتى الآن : ( من ليس له شيخ فشيخه السلطان ). ولم يخترع علي وفا هذا القول اختراعاً وإنما أخذه عن الغزالي القائل (لكي يصل المريد للمكاشفة (أي يصبح ولياً مكاشفاً عالماً بالغيب) لابد له من شيخ فإن سبيل الدين غامض وطرق الشيطان كثيرة ظاهرة، فمن لم يكن له شيخ يهديه قاده الشيطان إلى طريقه لا محالة، فمُعتَصم المريد شيخه ، فليتمسك به بحيث يفوض أمره إليه بالكلية ولا يخالفه في ورده ولا صده ولا يبقي في متابعته شيئاً وليعلم أن نفعه في خطأ شيخه – لو أخطأ – أكثر من نفعه في صواب نفسه لو أصاب) . فأرسى الغزالي عبودية المريد لشيخه قبل العصر المملوكي. فعقيدة الاتحاد الصوفية هي التي جعلت من الشيخ جسداً خامداً تسيطر عليه إرادة الله أو مشيئة الله أو تحل فيه ذات الله، جعلت في نفس الوقت من المريد كالميت أمام مغسٍّله ، وحتمت وجود شيخ لكل مريد وكفلت لذلك الشيخ على مريده كل الحقوق الإلهية في الطاعة والتقديس بحجة أنه واسطة لله أو مُتّحٍد به.. ومنها ألا يكتم على شيخه شيئاً (وما كتم مريد عن شيخه شيئا ًإلا خان الله ورسوله وخان نفسه وشيخه ، وربما مات برأيه مع تلبسه بصورة النفاق) . على حد قول الخواص.
3 والنهي عن كتمان السر عن الشيخ مطلب قديم يتفق مع النظرة الصوفية في سلب إرادة المريد وجعله جسداً يتحرك بشيخه. يقول القشيري في القرن الخامس: ( لو كتم نفس من أنفاسه عن شيخه فقد خانه في حق صحبته) . ويقول الخواص : ( وإذا غضب الشيخ على إنسان يجتنبه المريدون ، وإلا يغضب عليهم الله ، ولا ينبغي لهم البحث عن سبب غضب الشيخ عليه بل يسلموا للشيخ لأنه لا يغضب إلا بحق ) . . وإذا غضب الشيخ على مريده فهي الطامة الكبرى، يقول المرصفي (من شقاء المريد في الدنيا وعنوان شقاوته في الآخرة تهاونه بغضب شيخه عليه وعدم رؤيته نفسه وجوب المبادرة إلى صلحه والدخول في طاعته ) . فإذا كان الله يرحم فالشيخ لا يرحم .
4 ــ ولم ترد حقوق للمريد في كتابات الصوفية فقد سيطرت عليهم كفالة حقوق الشيخ ونسوا أن للمريد حقوقاً نظير تلك الواجبات المطالب بها ، ونسوا أيضاً أن الله تعالى – الذي يتمسحون به كذباً وافتراءاً – قد أوجب على نفسه جزاء للعبد الصالح المتقي - فجعل حقاً للعبد مقابل قيامه بواجبه.. أما الصوفية فيعبر عنهم قول المرسي للمريدين: ( لا تطالبوا الشيخ بأن تكونوا في خاطره بل طالبوا أنفسكم أن يكون الشيخ في خاطركم) . فحرم عليهم مجرد التمني أن يكونوا في خاطر الشيخ واهتمامه وجعل عليهم الواجبات دون أي حق .
5) ومع ذلك فالمريدون مخلصون لأشياخهم .. يقول ابن باشا في مدح المرسي كأنما يمدح الله تعالى
شيخي أبو العباس واحد وقتـه خضر الزمان ورب عين الأعين
وما كنت إلا حائداً فرددتنـي وإلى الطريق المستقيم هديتنـي
وسقيت لي ماء الحياة وكنت لي كالخضر لما أن رويت سقيتني
ويقول الشعراني ( كان المريدون عند الشيخ الغزي يرون أنفسهم ملكاً للشيخ يفعل فيهم ما شاء وهم أوصياء على أجسامهم . ) أي أن ولايتهم على الجسد فقط وأما التصريف فمرجعه إلى الشيخ، ويقول المرصفي عن نفسه حين كان مريداً( لما أخذ عليّ شيخي العهد بأني لا أخالفه ولا أكتم عنه شيئاً من أمري كنت لا آكل ولا أشرب ولا أنام ولا أقرب من زوجتي حتى أقول بقلبي .. دستور يا سيدي) . أي كما كان الشعراني يفعل.