الرقة: من ثالوث استعمار إلى ثالوث مستعمرين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4694 - 2015 / 1 / 17 - 16:12
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

تكثفت في الرقة، أكثر من غيرها من المدن السورية، عناصر العلاقة الاستعمارية التي تقوم عليها الدولة الأسدية: عنصر السيطرة السياسية المبنية على الإكراه، وعنصر نهب الموارد العامة والخاصة، ثم التعالي والاحتقار شبه العنصري للسكان المحليين.
لا تسجل الرقة فرقا عن غيرها من الأرجاء السورية بخصوص العنصر الأول. لا ريب أنها نالت نصببا من التعنيف أيام حافظ الأسد أقل من حماه، أقل من حلب وإدلب أيضا. لكنها تشارك سورية كلها في المعاناة من عنف منتشر له خصيصتان: إنه فائض جدا عن أي ضروروات أمنية حاضرة، وذو طابع استباقي وترويعي موجه نحو تلقين المحكومين دروسا لا ينسونها، وتاليا ضمان احتلال المستقبل والتحكم به؛ ثم اقتران العنف بالكراهية والإذلال، وصفته المشخصة، أو تدنى مستوى التجريد والقانون فيه. العنف الأسدي ليس عقابيا، يستهدف أفعالا مخلة بقواعد مقررة قام بها (الأفعال) أفراد، ويتناسب مع جسامة هذه الأفعال دون أن يمس الكرامة الإنسانية للمعاقبين، بل هو عنف انتقامي، يطال كيان المعنفين الجسدي والمعنوي، ويحرص على إهانتهم.
لكن الرقة، ومنطقة الجزيرة ككل، تتميز عن مناطق سورية الأخرى بأنها موضع نهب منظم، وبأشكاله الأكثر بدائية. يأتي إلى المدينة ضباط مخابرات ومحافظون، ويخرجون منها بعد سنوات فاحشي الثراء. يستولون على أملاك عامة كانت "أممت" في حركة الإصلاح الزراعي في النصف الثاني من ستينات القرن العشرين، أو يشاركون أصحاب أملاك في محاصيلهم، أو يجرّون أقنية مياه خاصة من بحيرة سد الفرات إلى أراض استأثروا بها، أو يزرعون البادية ببذار من غيرهم وحصاد على حساب غيرهم. بطلهم الأشهر هو محمد سلمان الذي حكم الرقة في ثمانينات القرن العشرين، وكان يطلق عليه لقب الوالي. وسع قصره على حساب ثانوية الرشيد، كبرى مدراس الرقة، وكان يعتقل بتهمة بعث العراق رفاقه البعثيين الذي لا يرضى عنهم، وفي ظله تحولت الرقة من مدينة تنمو إلى حطام مدينة، تتوسع في كل الاتجاهات بلا نظام، يتدهور فيها كل شيء فيها. جرت ترقيته بعد ذلك إلى وزير إعلام.
لكن النهب أوسع من أن يقتصر على لص كبير واحد. أجهزة الأمن وشعبة التجنيد العامة هما بصورة خاصة مراكز نهب عام بدرجة تتناسب مع الطابع الإكراهي لوظيفة هذين الجهازين. ومحصلة النهب طوال عقود الحكم الأسدي ليست إفقار المنطقة وتدهور نموها، بل "كرسحتها" وحطمت مجتمعها. تخلف الرقة والجزيرة مصنوع سياسيا، عبر هذه العلاقة الاستعمارية، وليس خصيصة ذاتية للمنطقة.
والعنصر الثالث في المركب الاستعماري هو التعالي على سكان المنطقة والتعامل معهم باحتقار. اشتهرت قبل أقل من 4 أعوام عبارة تهديدية قالها ضابط من قوات حفظ النظام لتجمع أمام السفارة الليببة تضامنا مع ثورة الليبيين: تمشوا من هون، واللا أفلت عليكم هالشوايا ياكلوكن (يأكلونكم)! يشغل الشوايا، وهو ما ينطبق على عموم سكان الرقة، موقعا لا يضارعه موقع في النظرة السلبية والتحقيرية، أسهمت فيه صناعة الدراما التلفزيونية السورية أيضا. هناك مستويات من الممارسات العنصرية والتمييزية في سورية، تقع وطأة مضاعفة منها على الشوايا بوصفهم ريفيين بخاصة، ونسبة الفقر والأمية عالية في أوساطهم. وتستبطن قطاعات واسعة من الرقاويين هذه المشاعر السلبية تجاه النفس، فلا تطور ثقة مشتركة، وقلما يجري التعاون بين منحدرين من المنطقة في عمل مشترك. هذا ملمح نفسي اجتماعي عام في سورية، لكنه مكثف في الرقة أكثر من غيرها. وهو نصر مستمر للاستعمار الأسدي الذي اعتمد سياسة "فرق تسد" مثل كل استعمار.
ومثلما هو الحال في المركب الاستعماري التقليدي، فإن في ازدراء السكان المحليين ما يبيح استغلالهم وتعنيفهم، وصولا إلى القتل عند اللزوم.
وفي كل ذلك، في العنف والنهب الاستعماريين بخاصة، للنظام أعوان محليون من بعثيين وشيوخ عشائر ومتكسبين متنوعين. هذه نقطة أساسية. ما كان ممكنا للاستعمار الأسدي أن يحقق هذا القدر من التحكم بالمجتمع دون التمفصل مع أوضاع عشائرية، ودون التمهيد البعثي الذي ركبت عليه سلطة الاحتلال المخابراتي لاحقا.
لكن فوق هذه الثالوث الاستعماري تشكل الرقة مساحة تقاطع ثالوث استعماري آخر، أو بالأحرى ثالوث مستعمرين.
أول الثالوث هو المستعمر الأسدي نفسه الذي يواصل اليوم قصف المدينة بالطيران بصورة تذكر تماما بقصف إسرائيل مواقع سورية حتى عام 1974، وقت أخذ الانتداب الأسدي يظهر انضباطا لافتا، لم تعرض مثله حتى مصر والأردن بعد عقدهما معاهدتي سلام مع إسرائيل. في واحدة من أكبر مجازر النظام، وقع يوم 25 تشرين الثاني الماضي نحو 220 شهيدا من السكن المدنيين إثر قصف الطيران الأسدي مواقع في المدينة.
في المقام الثاني هناك داعش التي هي استعمار استيطاني بكل معنى الكلمة، يستولي على الموارد العامة، ويعمل على التطهير العرقي وإعادة التشكيل الديمغرافي للمنطقة، بما يشمله ذلك أيضا من استيلاء على الملكيات ومصادرة للمساكن وإسكان دواعش وافدين من شتى أصقاع العالم في بيوت السكان المحليين المنفيين، وذلك على النمط الإسرائيلي المعلوم. يعتمد الاستعمار الداعشي فائضا من من العنف مثل النظام الأسدي، لكن مع صفة مشهدية للعنف الداعشي، ربما من باب التأسيس وإرساء مداميك هذا الكيان الاستعماري على إرهاب السكان وكسر عينهم. شيء يشبه في مفعوله المأمول "استقبال" السجناء الجدد بالتعذيب في سجن تدمر في عقدي القرن العشرين الأخيرين، وسجن صيدنايا في عهد بشار. يشبه أيضا مجازر إسرائيل في سنوات التأسيس.
ويوزع كيان داعش السكان الواقعين تحت سلطته إلى ثلاثة طبقات: "المهاجرين"، ولهم السيادة والسلطة العليا، وهم يستأثرون بنفاذ امتيازي إلى الموارد العامة والخاصة، ويخصون أنفسهم بأفضل المساكن والخدمات والحمايات؛ ثم "الأنصار"، وهم الأتباع المحليون الذين يستخدمهم المستعمرون لتنفيذ مخططاتهم في السيطرة والتحكم بالعموم، ثم "عامة المسلمين" في القاع، الجمهرات التي تحكم وتنهب وتحتقر وتراقب وتعنف. أما غير المسلمين فمكانهم تحت القاع، عبيد أو ما في حكمهم. المسلمون غير السنيين يبادون ببساطة.
لا شيء من ذلك مختلف عن النسق الاستعماري الذي تشغله في الأعلى النخبة الاستعمارية، ثم المتعاونون معها من السكان المحليين للبلد المحتل، ثم عموم الشعب المستعمر.
وما سهل لاستعمار داعش أن يفرض سلطته في الرقة ما تحقق من تجويف سياسي ومعنوي واجتماعي للمجتمعات المحلية في المحافظة عبر عقود الحكم الأسدي، ثم التمفصل مع روابط العشيرة مثل الاستعمار الأسدي، وبالطبع استخدام الإسلام كإيديولوجية حكم مثلما استخدم النظام الأسدي العروبة.
وليس الإسلام غير مصدر للتبريرات الشرعية لهذا الصنف المتوحش من الاستعمار الذي يجرد السكان من دينهم، مثلما جردت "الرسالة التحضيرية" للمستعمرين الأوربيين سكان المستعمرات من القيمة باسم التقدم والحضارة. تقوم سلطة داعش على فصل متطرف للإسلام عن المسلمين، أو نزع ملكيتهم لدينهم، واستخدامه أداة للترهيب المادي والمعنوي للجماعة المحلية، وهذا مثلما امتلك المستعمر الأسدي العروبة والوطنية للتحكم بمصير السوريين ووضعهم في موضع المتهمين بقوميتهم ووطنيتهم. غرض المستعمرين الدواعش تجريد المحكومين من الشرعية لمصلحة حاكميهم، وحرمانهم من أي بعد روحي في حياتهم الاجتماعية، فضلا عن قطع روابطهم مع غيرها من المسلمين في العالم.

الطرف الثالث في ثالوت المستعمرين هو القوة الأميركية وأتباعها الإقليميين والدوليين، وهم يوصلون منذ نحو ثلاثة شهور ونصف حملة على داعش تطال مواقع في الرقة بين حين وآخر، لكن يبدو أن خطتهم تستهدف أساسا طرد داعش من العراق، وحصرها في سورية، وذلك حماية للبترول في العراق وما وراء العراق، والحيلولة دون وقوع هذه الثروة في يد داعش.
العنف الأميركي لا يزال على درجة كبيرة نسبيا من التجريد، محصور باستخدام الطيران والصواريخ بعيدة المدى. لكن يبدو أن الأميركيين الذين يعملون عمليا كقوة طيران للنظام الأسدي، يريدون تحويل ما بقي من الجيش الحر إلى قوة برية لحربهم ضد داعش، أو بناء قوة مرتزقة تتبع خطتهم في الحرب ضد الإرهاب، وربما بالتنسيق مع المستعمر الأسدي.
لكن نتائج التدبير الأميركي ليست مجردة أبدا. لقد هندست، وربما بتأثير إسرائيلي، تدمير البلد، ومحصلة سياستها هي تمديد الانتداب الأسدي وجعل سورية ساحة حرب لا تنتهي في مواجهة داعش التي يقول الأميركيون إنهم لا يستطيعون القضاء عليها، وغرضهم هو تحجيمها. التحجيم يعني العمل المستمر من أجل بناء قوى محلية تواجه داعش التي تبنى بدورها قوى محلية لمواجهة من يواجهونها، بينما يحافظ النظام الأسدي على سيطرته في مواقع تحكمه الحالية في البلد أو يوسعها بمقدار لمصلحة... إيران. وهذه بدورها قوة توسعية شديدة القسوة، لا تخفي مطامحها التوسعية وإرادة تثبيت هذه المطامح بالقوة العسكرية والسيطرة الاقتصادية والتحويل المذهبي بقدر الإمكان.
كانت الرقة في غنى عن هذا الشرف المميت: مساحة تقطع ثلاث استعمارات بعد أن كانت طوال عقود البؤرة التي تكثف فيها ثالوث الاستعمار الأسدي. لكن الواقع واقع، وهو يجعل التحرر عملا معضلا بالغ المشقة، لكنه يُلزم أيضا بالجذرية في مواجهة الشرط الاستعماري في كل تجلياته وأبعاده. جذرية التحرر العام، السياسي والاجتماعي والفكري والقيمي، بما في ذلك تحرر النساء وتحرر شرائح المجتمع الأشد فقرا.
الآن، وفي مواجهة ثلاثة مستعمرين، الثقافة ميدان الكفاح الأساسي، المعرفة والفن والجمال والأخلاقيات والحقوق. والسياسة وبناء القوى المؤثرة وكسب أصدقاء وتحييد أعداء وتسويات مرحلية... هي ميدان الكفاح الأنسب في مواجهة عدوين. لكن وقت حمل السلاح ومقاومة الاستعمار بالقوة آت من كل بد، وهو أجدى في مواجهة مستعمر واحد، وإن يكن شرعيا في كل وقت.
الصراع طويل، لكن بدايته اليوم، وإعداد جيل من الواقعين تحت الاحتلال ومن المهجرين من أجل التحرير واجب الآن وفي كل وقت. والمعركة سورية في كل أطوارها، والرقة جزء منها فحسب. ليس في النزعة المحلية الرقاوية، أو أي نزعة محلية، ما هو تحرري أو ثوري. وإن كانت مقاومة التمييز واجبة دوما، فإن الانحصار في نطاق محلي إضعاف للنفس، وحرمان من جبهة شركاء أوسع في سورية كلها.