(2) هل تتحقق نبوءة ماركس للرأسمالية؟

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4685 - 2015 / 1 / 8 - 21:44
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في الجزء الأول من هذا المقال والذي يمكن الرجوع إليه على الرابط: http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=445677
انتهينا إلى أن نبوءة ماركس صحيحة وملموسة فيما يتعلق بزيادة بؤس الطبقة العاملة في جميع انحاء العالم نتيجة حصول طبقة الرأسماليين على نصيب أكبر مما يستحقون من " فائض القيمة " الناتج عن العملية الانتاجية وذلك على حساب طبقة العمال وبناءا عليه فإن مشكلة فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء لازالت تتفاقم سواء داخل الدول الغنية أو الفقيرة على حد سواء. وقد بينا في بحث سابق أن فجوة الدخل هذه أصبحت أخطر مشكلة تواجه النظام الاقتصادي العالمي وتهدد استقرار المجتمعات المختلفة، ويمكن إرجاع كل هذا إلى آليات ومحركات النظام الرأسمالي الأساسية والقائمة على تحقيق أكبر ربح ممكن كمعيار وحيد للنجاح.
وقلنا إن ثورات الربيع العربي والحركات الإسلامية المتطرفة التي تتجه الى المزيد من التطرف في عنفها والتزايد في أعدادها ما هي إلا نتاج الظلم وعدم العدالة في توزيع الثروات والموارد والفرص.

ولكننا ألمحنا أيضا إلى أن صناع القرار والمنظرين في النظم الرأسمالية المختلفة بدأوا يتنبهون إلى خطورة مشكلة زيادة فجوة الدخل بين الاغنياء والفقراء وأن هناك حاجة بالفعل لوجود حكومة كبيرة وقوية تتدخل عند الضرورة لكبح جماح وتوحش النظام الرأسمالي والليبرالية المطلقة التي نادى بها الاقتصادي الأمريكي الشهير وصاحب جائزة نوبل ميلتون فريدمان والذي تأثر به كل من الرئيس ريجان ومارجريت تاتشر وغيرهم.

وعرضنا في هذا نظرية فوكوياما فيما يتعلق بنهاية التاريخ وكيف أنه عدل في أرائه بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008 وهي الأزمة التي كان باعثها الأساسي الطمع والرغبة في النمو بلا حدود وتحقيق أكبر معدل ممكن من الربح وقد سبق أن كتبنا بحثا مبسطاً في هذا المنبر يشرح ما حدث إبان أزمة 2008 وكيف أن مجموعة محدودة من المؤسسات المالية العملاقة في أمريكا كادت أن تودي بالعالم كله الى الدخول في نوبة كساد تشبه الكساد الكبير في ثلاثينيات القرن الماضي وكشفنا عما توصل اليه فوكوياما مؤخرا من أن آليات الاقتصاد الحر وحدها لا يمكنها التعامل مع الأزمات الاقتصادية الكبيرة.

وكما ذكرنا سابقاً واستكمالاً للجزء الأول من المقال وقبل أن نشرع في الحديث عما هو جاري في العالم العربي فإن هناك توجهات في الغرب تهدف إلى إخفاء الجوانب القبيحة في وجه النظام الرأسمالي ومن هذا ما تقدمه الشركات والبنوك الكبيرة في الغرب من برامج ومبادرات اجتماعية وخدمية ودعم مالي للفقراء والمحتاجين في المجتمع ولكن الواقع العملي يشهد على أن هذه المبادرات ليست إلا عمليات تجميل بسيطة لا تتسم بالجديد الكافية لإصلاح ما أدت اليه الرأسمالية من تباين رهيب في الدخل والثروات بين أقلية صغيرة جداَ وباقي المجتمع.

وعلى سبيل المثال فإنه يكفي أن نعلم أن0.1 % أي عشر الواحد الصحيح من المجتمع الأمريكي وهو ما يعادل حوالي 300 ألف فرد يمتلكون من الثروة (الأصول المالية) ما يعادل ما يمتلكه 280 مليون من المواطنين الأمريكيين (وهم من يشار اليهم بقاع المجتمع) وحسب ما نشر مؤخراً في مجلة السياسة الخارجية Foreign Policy” " الأمريكية فإن ال10 %التي في قمة المجتمع الأمريكي تمتلك حوالي 80 % من ثروة أمريكا.

ولا تنفرد أمريكا بهذا الوضع الخطير حيث قام محفل ال Forum” “World Economic
ببحث شمل 44 دولة وكانت نتيجته أن 7, 0 % من مجموع سكان هذه الدول يمتلكون حوالي 40% من ثرواتها بينما يمتلك حوالي 70% من سكانها 3% فقط من هذه الثروة.

ومرة أخرى فإن هذا ما تنبأ به الفيلسوف الكبير كارل ماركس وهو ما قد يؤدي بالفعل الى تقويض اركان الرأسمالية، بمعنى أن الخطر الحقيقي الذي يهدد النظام الرأسمالي يكمن داخل النظام نفسه وليس من خارجه.
وفي رأينا فإن ما يروج له هذه الأيام من أن نظام داعش والإرهاب العالمي يمثلان أكبر المخاطر التي تهدد الغرب والنظام الرأسمالي ما هو إلا مبالغات يقصد بها إلهاء الشعوب الغربية عن مشاكلها الحقيقية في الداخل ، كما أن برامج الإعانات والمسئولية الاجتماعية التي تتبناها الشركات الكبرى في الغرب تنقصها الجدية الحقيقية حيث لازالت تمثل نوعا من العلاقات العامة (PR ) والأخطر من هذا أن هناك توجهات لدى معظم الشركات الكبرى لتوظيف هذه المساعدات والبرامج الاجتماعية على النحو الذي يؤدي الى تحقيق هذه الشركات للمزيد من الأرباح بشكل غير مباشر وبما يعيد هيكلة النظام الرأسمالي بحيث يتضمن برامج يطلق عليها بالإنجليزية ( Corporate Social Investment) بدلاً من المصطلح القديم وهو (Responsibility Social Corporate)
والفارق بين التعبيرين هو أن هذه الخدمات لم تعد مسئولية تتحملها الشركات أو حقوقاً مكتسبة للفقراء أو المتضررين من النظام الرأسمالي بل هي نوع من الاستثمار تقوم به الشركات لإعادة ترميم أعمدة النظام الرأسمالي وحمايته عن طريق ضم الفقراء إليه مقابل بعض التبرعات والخدمات وجعلهم جزء من المنظومة الرأسمالية ضماناً لسكوتهم.

وكمثال على هذا ما تقوم به بعض الشركات الغربية من تدريب لسكان المقاطعات الريفية على توزيع منتجاتها داخل هذه التجمعات الفقيرة مقابل اقتسام الربح معهم وبالطبع فإن هذا شيء جيد لأنه يخلق وظائف جديدة ويدعم الكثير من الأسر الفقيرة ولكنه في نفس الوقت يخلق منافذ توزيع جديدة لهذه الشركات وبتكلفة أقل بما يمكنها من تعويض تضحيتها بنسبة من الأرباح ، ويمكن تلخيص ما يحدث في الغرب في جملة واحدة وهو الشعار المتداول حالياً في انجلترا "Doing well by doing good " بمعنى أنه يمكنك أن تعمل بشكل جيد ( تحقيق المزيد من الارباح) من خلال القيام ببعض الاعمال الخيرية .

ولكن ستبقى مشكلة فجوة الدخل الهائلة والمتزايدة بين قلة غنية محدودة تمتلك ثروة هائلة وتحقق المزيد من الدخل وتتمتع بخدمات تعليمية وصحية وترفيهية خاصة ومتميزة مقابل أغلبية ساحقة لا تتوفر لها إلا الخدمات التي تقدمها الحكومة وشتان بين التعليم في المدارس الحكومية الأمريكية مثلاً والمدارس الخاصة ذات المصاريف المرتفعة أو بين العلاج في المستشفيات الخاصة والعامة وكل من يعيش في الغرب يعرف هذا وإن كان الحال هنا أفضل بمراحل بالمقارنة بالدول العربية التي سوف نعرض لها في الجزء القادم.

ومرة أخرى نعيد طرح النتيجة التي خلص إليها ماركس من قوانينه الشهيرة وهي هل سيقود هؤلاء القابعون في القاع وهم الأغلبية ثورة تؤدي الى انهيار النظام الرأسمالي؟ وهل سيكون البديل هو سيادة النظام الشيوعي كما توقع ماركس؟

ولعلنا نبدأ بالإجابة على السؤال الثاني وهو الأسهل حيث نرى أن سيادة النظام الشيوعي على النحو الذي توقعه ماركس أمر صعب التصور بعد أن رأت الشعوب كيف تحولت كل النظم الشيوعية والاشتراكية التي ولدت بعد الحرب العالمية الثانية إلى نظم قمعية مستبدة تتسم بالفساد وعدم الكفاءة الاقتصادية نتيجة لغياب الديمقراطية والشفافية وانتفاء مبدأ المحاسبة لمن هم في قمة السلطة مما أدى إلى فقر وبؤس الشعوب وإحساسها بالخوف وعدم الانتماء وهو ما أدى في النهاية الى انهيار هذه النظم وعلى رأسها الاتحاد السوفيتي وتحول بعضها الآخر مثل الصين الى نظام رأسمالية الدولة ونبذ الشيوعية مع الابقاء على شعاراتها فقط وهذا بالطبع ما لم يتوقعه ماركس الذي لا نشكك ابدا في نبل وإنسانية مقاصده .

ولعلي أضرب مثلا من خبرتي الشخصية حيث سافرت إلى برلين الغربية في عام 1982 في بعثة دراسية تمكنت خلالها من الحصول على تأشيرة دخول إلى برلين الشرقية التي لم يكن يفصلنا عنها سوى حائط برلين الشهير. واتذكر أنني وزملائي من مختلف الجنسيات شعرنا أننا انتقلنا إلى عالم اخر مقارنة بما اعتدنا عليه من بذخ الحياة في الجانب الغربي. كانت المحال التجارية في مناطق التسوق القريبة من بوابة براندنبرج الشهيرة شبه خاوية والناس في حال من البؤس والشقاء لا تخطئه أي عين. وبين الحين والأخر كنا نشاهد طوابير طويلة تصطف لساعات في البرد القارس أمام منافذ لبيع بعض السلع الأساسية بأسعار مدعومة من الدولة.
وبدأنا نتسأل هل هذه هي الاشتراكية التي كان ماركس يحلم بها؟ وأين الخطأ؟ ولماذا هذا هو حال كل الدول التي اخذت منعطف الاشتراكية؟

وفي هذا لازلنا نرى أنه يمكن للإنسان أن يضحي ببعض المنافع الاقتصادية وأن يتعايش مع جاره الذي يفوقه في الغنى والرفاهية بشكل فج طالما انه ينعم بسلطات تشريعية وقانونية مستقلة توفران له حماية حقيقية من أي تغول محتمل من السلطة التنفيذية كما هو حاصل في عالمنا العربي. في الغرب الرأسمالي يتمتع الفرد العادي بالاحترام وحريته في التعبير والنقد ويشعر بأنه يشارك في اختيار حكامه بدلا من اتخاذ موقف المتفرج على ما يحدث في بلاده دون ان يستطيع أن يتفوه إلا بشعارات مدح الزعيم والتغني بحكمته وحنكته رغم كل ما يتسبب فيه الزعيم من خراب وضياع لبلاده ومواطنيه وفي هذا يكفي ان نرى ما يحدث في كوريا الشمالية اليوم على يد شاب صغير ورث الحكم من أبيه وكأنه يحكم ضيعة وليس بلداً.

النظام الرأسمالي بالفعل يستغل الفقراء ويعمل لصالح الأغنياء وهم الأقلية ولكنه مرن وبارع في علاج الأزمات التي يمر بها ويوفر إطاراً من الحرية الفردية والديمقراطية والفصل بين المؤسسات التنفيذية والتشريعية والقانونية تشعر المواطن بالأمان والانتماء والمشاركة رغم كل ما يتعرض له من خداع وظلم في المنظومة الاقتصادية للرأسمالية كما أوضح ماركس في قوانينه الشهيرة. وبكلمات أخرى فإن المواطن في الغرب عندما يرى أحوال أخيه في المجتمعات الاشتراكية يغض الطرف عما يتعرض له من خداع ويمضي في طريقه مفضلا التشبث بالأرض بدلا من التعلق بأحلام ماركس.

أما بالنسبة لمسألة انهيار الرأسمالية أو زوالها على النحو الذي توقعه ماركس فإننا نعتقد أن هذا لن يحدث في المدى المنظور لسبب بسيط وهو عدم وجود نظام سياسي أفضل حالياً ولكن العالم بصدد عملية طويلة وبطيئة نحو نوع من التغيير بدأت بالفعل وسوف تثمرعن ميلاد نظام اقتصادي جديد يقوم على أساس التعاون المشترك والتحالفات الإقليمية المتجانسة التي تلبي احتياجات اعضاءها حتى ولو كان على حساب الآخرين وهذا ما يعني استمرار الصراع بين هذه التحالفات وربما استمرار معاناة غالبية البشر بشكل أو آخر وذلك الى حين استيقاظ الضمير الإنساني وهو أمر غير متوقع في الأمد القصير حيث ستتواصل مسيرة انهيار القيم ومعاناة الإنسان حتى نصل بظهورنا الى الحائط ... عندها سوف تبدأ البشرية في الخطو الى الأمام .