ج1 ب2 ف 2 : تطور خرافات كتب المناقب وإزدهارها في العصر المملوكي


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4684 - 2015 / 1 / 7 - 19:32
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الثانى : تقديس الولي الصوفي في مصر المملوكية
الفصل الثانى : التزكية بين الاسلام والتصوف
تطور خرافات كتب المناقب وإزدهارها في العصر المملوكي
أولا : التطور
1 ـ العصر المملوكي هو عصر التصوف ، وهو أيضا عصر الازدهار لكتب المناقب الصوفية ، وهو عصر التوسع الأفقي والكمي في الناحية العلمية والتعليمية ، من الناحية العلمية هو العصر الذي أعاد تدوين الحضارة والمؤلفات بعد تدميرها في الزلزال التترى المغولي 656سنه هـ . وهو العصر الذي اقتصر على التدوين وعلى الشرح والتلخيص دون إضافة أو تعمق ، إذا هو ازدهار فى الكم دون النوع ، وكان من الممكن أن يقترن الازدهار الأفقي بالتعمق والابتكار لولا أن التصوف سيطر على هذا العصر وحارب الاجتهاد فيه تمسكا بمقولة أبى حامد الغزالي " ليس في الإمكان أبدع مما كان". وقد فرض التصوف أن تزدهر كتب المناقب الصوفية بديلا عن ازدهار الابتكار العلمي . وفى ذلك الدليل الكافي على أن العقل فى العصر المملوكي قد امتلأ بالخرافات بديلا عن التبحر في العلوم الحقيقية ، ليس علوم التفسير والحديث والفقه ، بل علوم الفلسفة والكيمياء والطب والرياضيات والجغرافيا ، وسائر العلوم التى إزدهرت فى العصر العباسى الأول ثم قضى عليها الحنابلة ، الذين حصروا العلم والعلماء فى الفقه والحديث وما يتصل بهما . ثم بالتصوف إختفى فى العصر المملوكى ذكر العلماء الحقيقيين مثل الفارابى وابن سينا والرازى وابن حيان والخوارزمى والبيرونى والزهراوى .وحل محلهم تمجيد علماء ( الهجص ) فى الفقه والتفسير والحديث ، كالبخارى وأمثاله ومالك والشافعى وابن حنبل ..الخ ، وقد أصبحوا آلهة بالتزكية وكتب المناقب التى تم تأليفها فيهم . بينما لحق النسيان والتجاهل بالعلماء الحقيقيين الذين قامت على أكتافهم النهضة الأوربية فيما بعد . الحنابلة السنيون هبطوا بالعقلية الى الحضيض فى أواخر العصر العباسى ، ثم هبط الصوفية بنفس العقلية الى أسفل سافلين فى نهاية العصر المملوكى وإنمحت فى العصر العثمانى، الى أن صحا المحمديون على أوربا تغزو ديارهم .
2 ــ وكتب المناقب الصوفية هي المصدر الأساسي لمن يريد التعرف على واقع الدين العلمي الواقعى عند المسلمين في العصرين المملوكي والعثماني ، وهى مع أهميتها الشديدة في دراسة الأحوال الدينية والاجتماعية إلا أنها لم تحظ بالاهتمام الكافي لأن القارئ لها الآن يستشعر الفزع الشديد مما يملؤها من الخرافات والتأليه الواضح للأولياء الصوفية على نحو لا يستسيغه ذوق عصرنا ، وإن كانت معبرة عن العصور التي كتبت فيها بدليل أنها كانت السمة السائدة في تأليفات العصرين المملوكي والعثماني في التراجم والتأريخ للأشخاص المشهورين من الصوفية والفقهاء .
3 ـ وقد قلنا أنه حين بدأ التصوف في القرن الثالث الهجري كان الفقهاء يعقدون المحاكمات لرواد التصوف . وقاسى من هذه المحاكمات الحلاج وذو النون المصري و الجنيد وغيرهم ، ثم دارت الأيام وأصبحت للتصوف سطوة ، وقام فقهاء التصوف وأربابه باضطهاد الفقهاء الحنابلة ، وأوذي ابن تيمية في القرن الثامن كما أوذي ــ من قبل ــ أعيان الصوفية في القرن الثالث . ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك الانقلاب على طبيعة المؤلفات في المناقب ، إذ ظهر نوع جديد من الصوفية احترف الفقه وتكلم بأسلوب الفقهاء ليدافع عن التصوف كالشعرانى كما ظهر نوع آخر من الفقهاء خنع للتصوف واستكان لأشياخه كالسيوطى . وكلاهما شارك في كتابة المناقب ، ومن الطبيعي حينئذ أن تزدهر الكتابة في المناقب الصوفية في العصر المملوكي تبعا لكثرة الداخلين في تيار التصوف وتبعا لنوعياتهم وتسيد التصوف الذي أعلن عقائده بوضوح فيما عُرٍف بالشطح الصوفى ، فأتيح لكتاب المناقب أن يقولوا ما يشاءون فى تقديس أوليائهم .
ثانيا : التطور الكمي لكتب المناقب :
انتشر التصوف وأزداد أولياؤه فى العصر المملوكي ، ومن الطبيعي أن تتكاثر الكتب التي تتحدث عن مناقبهم ، ويمكن ان نصنفها كالآتي : ـ
1 ـ مؤلفات كتبت فى مناقب مجموعة من الأولياء الصوفية مثل الطبقات الكبرى للشعراني ت (973) هـ وهو مطبوع فى جزئين ، تحدث فى الجزء الأول عن مشاهير الصوفية قبل القرن السابع تقريبا ، وخصَّ الجزء الثاني عن صوفية العصر المملوكي. وختمه بترجمة الصوفية المعاصرين له فى القرن العاشر.وللشعراني أيضا (الطبقات الوسطى ) وهو مخطوط ، (والطبقات الصغرى ) وهو مطبوع . ومنها ما كتبه أيضا عبد الله بن أسعد اليافعي ت ( 768 ) فى كتابين فضل ( فضل مشايخ الصوفية ) ، ( روض الرياحين فى حكايات الصالحين ) وهما مطبوعان ، وكتب الشطنوفي ت 713 ( بهجة الأسرار فى مناقب السادة الأخيار ) وهو مخطوط فى جزئين ، وكتب أبن عطاء الله السكندري ( لطائف المنن ) فى مناقب الشاذلي وأبي عبد الله المرسى ، وهو منشور ومشهور. وعلى منواله كتب إبن محسن فى العصر العثماني ( تعطير الأنفاس بمناقب أبى الحسن وأبى العباس ) وهو مخطوط ، وكتب بن فارس ( المنح الإلهية فى مناقب السادة الوفائية ) الشاذلية ،وهو مخطوط . وفى العصر العثماني كتب أيضا عبد الرؤف المناوي على نسق الشعراني وطبقاته ( الطبقات الكبرى ) للمناوى ،الجزء الأول منه مطبوع والباقي لا يزال مخطوطا، وللمناوي أيضا (الطبقات الصغرى ) ولا يزال مخطوطا .وكتب البلقينى ( طبقات الشرنوبى ) فى مناقب الدسوقي والرفاعى والبدوي والجيلانى، وكتب البكري ( تراجم صوفية ) وكلاهما مخطوط ، ولأبن عياد الشاذلي مخطوط فى مناقب الشاذلي عنوانه ( المفاخر العلية ) وقد تمت طباعته .مع ملاحظة أن قولنا ( مخطوط ) هو فى وقت كتابة هذا البحث عن التصوف ، وربما تم طبع ونشر بعض تلك المخطوطات فيما بعد .
2 ـ مؤلفات فى مناقب ولى معين ، فابن إسحاق المالكي ت 767 كتب (مناقب المنوفي ) في القرن الثامن وكان المنوفي من أعيان الصوفية فى عصره وتمتاز ( مناقب المنوفي ) بالاعتدال وعدم المغالاة فى تقديس المنوفي. ولا يزال مخطوطا . وهناك (مناقب الفرغل ) وهو وليّ أمّي فى الصعيد ، ولا يزال الكتاب مخطوطا . وللشعراني كتاب ( الوصية المتبولية ) عن الشيخ المتبولي ، وكتب العيدروسى ( النجم الساعي فى مناقب القطب الرفاعى ) وهو مطبوع ومعتدل ويدور حول أحمد الرفاعى الولي الصوفي بالعراق . وأشتهر فى القرن التاسع الشيخ الصوفي شمس الدين الحنفي ، وهناك ( مناقب الحنفي ) التي كتبها البتنوني فى أواخر القرن التاسع بعنوان ( السر الصفي فى مناقب الشيخ الحنفي )،ولا يزال الكتاب مخطوطا. ونقل الشعرانى ترجمة الحنفى فى ( الطبقات الكبرى ) من هذا الكتاب ( السر الصفى فى مناقب الحنفى ). ومسجد الحنفى مشهور حتى الآن فى القاهرة .
3 ــ ويلاحظ أن العصر العثماني تابع ما كتب من مناقب في العصر المملوكي وزاد عليها بما يتناسب وشهرة أولئك الأولياء التي عمت العصر العثماني. فالأولياء الصوفية المشهورون في العصر المملوكي ازداد تقديسهم بمرور الأيام حتى إذا جاء العصر العثماني أضيفت إلى مناقبهم مؤلفات أخرى . ثم أن الشعراني و السيوطي كان لهما اكبر الأثر في تشكيل العقلية في العصر العثماني، فكتب اللاحقون علي منوالهما ، وترتب على ذلك أن حيكت مناقب متعددة في ولى بمفردة إذا كان مشهورا ، مثل احمد البدوي الذي ترجم له الشعراني في (الطبقات الكبرى ) وترجم له السيوطي في (حسن المحاصرة ) ثم كتب فيه العصر العثماني مؤلفات عديدة منها (الجواهر السنية ) لعبد الصمد الأحمدي، وهو مطبوع ، ( النفحات الأحمدية) للخفاجى و(النصيحة العلوية ) للعلوي وهما مخطوطان . وفى إبراهيم الدسوقي كتب البلقينى ترجمته في (طبقات الشرنوبى) وكتب له الكركى ( لسان التعريف) وكتب له حسن شمه (مسرة العينين) وهما مخطوطان..وما سبق مجرد أمثلة ..
4 ـ وذلك الازدهار في كتب المناقب ألقى بظلاله على الأنواع الأخرى من الكتابات التاريخية فتحولت إلى ما يشبه كتب المناقب من المبالغة في المدح والنفاق ، فكتب بعضهم مؤلفات تاريخية في سيرة السلاطين كانت إلى كتب المناقب أشبه ، فالمؤرخ بدر الدين العيني ت855 قاضى القضاة كتب في سيرة أو مناقب السلطان المملوكي الظاهر ططر ( الروض الزاهر في سيرة الملك الظاهر – ططر) وقد ملأه نفاقا للسلطان بنفس طريقة كتب المناقب. وكتب العيني أيضا في سيرة السلطان المؤيد شيخ ( السيف المهند في سيرة الملك المؤيد) وخلطه بعناصر صوفية تجعل من السلطان المملوكي كأنه شيخ صوفي . والعينى من شيوخ الحديث المشهورين فى العصر المملوكى ، وهو صاحب كتاب ( عمدة القارى فى شرح صحيح البخارى )، وكتب السيوطي ت 911 للسلطان قايتباى ( تاريخ قايتباى ) وهو مخطوط ، وقبلهم كتب ابن عبد الظاهر (الألطاف الخفية في السيرة الشريفة السلطانية ) في تاريخ ومدح السلطان الأشراف خليل بن قلاوون، وكان ابن عبد الظاهر يعمل لديه كاتبا للسر، أي سكرتيرا خاصا.
5 ــ وازدهرت في أواخر العصر المملوكي الكتابة في مناقب آل البيت والخلفاء الراشدين والعباسيين وأئمة المذاهب السنية ، فكتب السيوطي في مناقبهم جميعا ، و للسيوطي (الأساس في مناقب بني العباس )، (فضائل آل البيت) ،( تحفة العجلان في فضل عثمان) ، الدرر في فضل عمر)، ( الروض الأنيق في فضل الصديق)،( القول الجلي في فضل على ) وكلها مخطوطة..وله في مناقب الشاذلية كتاب مطبوع هو ( تأييد الحقيقة العلية وتشييد الطريقة الشاذلية )..ثم يحلو للسيوطي أن يكتب في مناقب البراغيث لأنها تعين على السهر وقيام الليل ، فله (الطرثوث في فوائد البرغوث ) وفى الوسادة كتب ( ما رواه السادة الاتكاء على الوسادة) وفى المسبحة ( المنحة في السبحة) .. وكلها مخطوطات .وذلك قليل من كثير تفيض به المصادر المخطوطة والمطبوعة عن كتابات المناقب وتطورها الكمي وتأثيرها فيما عداها .
ثالثا : التطور الموضوعي في كتب المناقب في العصر المملوكي:
1 ــ قبل العصر المملوكي كانت كتب المناقب تحاول الدفاع عن الأولياء الصوفية وتحاول تأويل كلماتهم في الحلول والاتحاد والشطحات التي تنطق بالكفر. وفى محاولاتها للدفاع كانت تستند إلى تأويلات للقرآن والى استدرار عطف القارئ والتقرب إليه حتى يؤازر الصوفية ويقتنع بهم . وبتسيد التصوف في العصر المملوكي بدأت كتب المناقب تنحو نحوا جديدا ، لم تعد محتاجة للتبرير والتأويل ، بل إتجهت الى الفخر بما يقوله الأولياء من شطحات، حيث كان معروفا انه كلما ازداد الولي الصوفي في شطحاته كُفرا ازداد اعتقاد الناس فيه . ولم يكن ذلك معروفا لدى الصوفية فقط بل عند المؤرخين أيضا وهم المعبرون عن عقلية العصر . وسبق التعرض لهذا . وفى ذلك العصر الذي يسلم للأولياء الصوفية في كل ما يقولون حتى لو كان استهزاءا بالقرآن راجت كتب المناقب و أتيح لبعضهم أن يكتب في مناقب ذاته حتى انه يصف نفسه بصفات إلاهية دون تحرج ، ويجد الناس تصدق كلامه . وكتاب الجوهرة للدسوقي أوضح مثل على ذلك ، وقد نقل الشعراني في ترجمته لإبراهيم الدسوقي في الطبقات الكبرى مقتطفات من كلامه من كتابه الجوهرة . وهذا الكتاب مطبوع بعض أوراقه ومتداول .
2 ــ والشعراني نفسه افتخر بمناقبه الشخصية في كتابين له " لطائف المنن الكبرى " وهو مطبوع، وله غير ذلك " لطائف المنن الصغرى" وهو مخطوط . وفيهما أقام لنفسه حفل تكريم في كل صفحة. وعلى سبيل المثال يقول الشعراني يفتخر بنفسه في ( لطائف المنن الكبرى ) " ومما انعم الله تبارك وتعالى به على مساعدتي لأصحاب النوبة فى سائر أقطار الأرض فى حفظ إدراكهم من برار وقفار ومدائن وبحار وقرى وجبال فأطوف بقلبي على جميع أقطار الأرض في نحو ثلاث درج .. وصورة طوافي كل ليله على مصر وجميع أقاليم الأرض أنني أشير بإصبعي إلى أزقة جميع المدائن والقرى والبراري والبحار وأنا أقول الله الله الله ، فأبدأ بمصر العتيقة ثم بالقاهرة ثم بقراها حتى أصل إلى مدينة غزة ثم إلى القدس ثم إلى الشام ثم إلى حلب ثم إلى بلاد العجم ثم إلى البلاد التركية ثم إلى بلاد الروم ثم أعدّى من البحر المحيط إلى بلاد المغرب فأطوف عليها بلدا بلدا حتى أجئ إلى الإسكندرية ثم أعطف منها إلى دمياط ثم منها إلى أقصى الصعيد ثم إلى أقصى بلاد العبيد ثم إلى بلاد الروجر وهى أقطاع جدي الخامس ثم اعطف إلى بلاد التكرور وبلاد السكوت ومنها إلى بلاد النجاشي ثم إلى أقصى بلاد الحبشة وهى سفر عشر سنين ثم منها إلى بلاد الهند ثم إلى بلاد السند ثم إلى بلاد الصين ثم ارجع إلى بلاد اليمن ثم إلى مكة .. ثم إلى مدينة النبي (ص) .. وما ارجع إلى دارى في مصر إلا وأنا الهث من شدة التعب كأني كنت حاملا جبلا عظيما ولا أعلم احد سبقني إلى مثل هذا الطواف ، وكان ابتداء حصول هذا المقام لي سنه ثلاث وثلاثين وتسعمائة فرأيت نفسي في محفة طائرة فطافت بي سائر أقطار الأرض في لحظة وكانت تطوف بي على قبور المشايخ فوق أضرحتهم إلا ضريح سيدي أحمد البدوي وضريح سيدي إبراهيم الدسوقي ... فان المحفة نزلت بي من تحته عتبة كل من أحدهما ومرت من تحت قبره ..." )!! . فى الوقت الذى كان فيه الشعرانى يكتب هذا الهجص فى كتابه الضخم ( لطائف المنن الكبرى ) يستعرض فيه مناقبه الشخصية وكراماته الوهمية، كانت أوربا قد أسّست تقدمها العلمى على ترجمة مؤلفات ابن سينا والرازى والفارابى وابن رشد والزهراوى وابن حيان وابن الهيثم والادريسى وغيرهم ، وانطلقت تكتشف العالم الجديد .
وحتى لا ننسى : فإنّ كتب المناقب الصوفية هى أحطّ المكتوب فى التزكية لدى طوائف المحمديين .