ج1 ب1 ف 5:إعلان الشطح الصوفي في العصر المملوكي طريقا لنبذ الإسلام


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4673 - 2014 / 12 / 26 - 23:02
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الأول : مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى
الفصل الخامس :المرحلة الثالثة للعقيدة الصوفية : رفض الإسلام صراحة .
إعلان الشطح الصوفي في العصر المملوكي طريقا لنبذ الإسلام
1 ـ أتاح الشطح الفرصة الكاملة لكل الصوفية – على اختلاف طرائقهم – في أن يقولوا ما شاءوا بكل حرية . وتاريخ الشطح هو تاريخ التصوف . إذ بدأ التصوف بإعلان عقيدته فيما اعتبر شطحاً. وقد أودى الشطح بحياة بعض الصوفية الأوائل وأشهرهم الحلاج ، وبه اضطهد الآخرون بسبب (كلمات) لهم قيلت فتعرضوا للنفي والطرد والمحاكمات ..
2 – وبتقرير دين التصوف في العصر المملوكي لم يعد الشكل الإسلامي حائلاً للصوفية عن قول الشطحات المنافية للإسلام والمُسيئة لرب العزة جل وعلا ، بل على العكس أصبح الشطح من سمات العقيدة الصوفية حتى لدى شيوخ التوفيق بين الإسلام والتصوف كالشعراني ، الذى يقول عن ( العارفين ) أى ( الأولياء الصوفية ) :( منهم من تهب على قلبه نفحات إلهية لو نطقوا بها كفّرهم المؤمن ) . فالشطح أصبح عند الشعراني ( نفحة إلهية ) . وازدهرت طوائف المجاذيب في العصر المملوكي ولهم مطلق الحرية في القول والفعل ، فالمجذوب على حد قول الشعرانى : ( لا يطالب بأدب من الآداب .. مع وجود الكشف - ( علم الغيب ) – وبقائه عليه ) . أي أن المجذوب لا يسأل عما يفعل ومهما قال وفعل فهو متمتع بعلم الغيب مع أنه لا يعلم الغيب إلا الله تعالى .
3- وأصبح الشطح من لوازم الولي الصوفي يحفظ عنه ويكتب في ترجمته ، وإذا حدث وشذّ صوفي عن هذه القاعدة قيل عنه ( لم يحفظ عنه شطح ) كما في ترجمة المرشدي ت737 ..ويزداد التقدير والتقديس للصوفي المجذوب إذا بالغ في شطحه كما قال أبو المحاسن في ترجمة السطوحي 865 المجذوب ( إذا بدأ في الشطح يتغير كلامه كله بالسفه والإساءة المفرطة بغير سبب ، رحمه الله ونفعنا ببركة أوليائه ) .أى مع مبالغته فى الإساءة المفرطة فى حق الله جل وعلا يقول المؤرخ أبو المحاسن عن ذلك المجذوب (رحمه الله ونفعنا ببركة أوليائه ).!!
4- وتوصف الشطحات بالكثرة ، كما ورد في ترجمة الشعراني لعبد القادر السبكي إذ قال عنه ( كان رضي الله عنه .. كثير الشطح ) .أى كثير التلفظ بالكفر وسوء الأدب فى حق الله جل وعلا ، ومع ذلك يقول الشعرانى عنه ( رضى الله عنه). وأحمد الكعكي يقول عنه الشعراني ( وكان كثير الشطح تبعاً لشيخه سيدي الشيخ محمد الكعكي .. حتى كان لا يقدر على صحبته كل أحد ) . أى كان الناس لا يتحملون شطحاته .! . وقد قال الشعرانى عن الشيخ أبي السعود الجارحي ( وكان رضي الله عنه له شطحات عظيمة.. ) . فوصف شطحه بالعظمة . وقد كان أولئك معاصرين للشعراني .وهنا يصف الشعرانى سوء الأدب المفرط من أبى السعود الجارحى بالعظمة ، وأنه ( رضى الله عنه ).ويقول المناوي في ترجمة الشيخ عبيد ( كانت له خوارق مدهشة ، وشطحات موحشة ،وكان مثقوب اللسان لكثرة ما ينطق به من الشطح الذي لا يمكن تأويله ) . فلم يمنع وصفه للشطحات بهذا الشكل من وصف صاحبها بالخوارق والكرامات ، أى أصبح سبُّ رب العزة من سمات الولاية والألوهية لشيوخ الصوفية.!!..
5- وفي إطار الشطحات انعدم الفارق بين الصوفي الاتحادي وأخيه الذي يعلن رفض الإسلام ، طالما أن الاتحادي يدعي أنه في حالة (وَجْد ) أي ( قوى عليه حاله ) وحينئذ يباح له أن يقول ما يقول. وقد أورد الشعراني طائفة من الشطحات في معرض فخره بأشياخه الصوفية لا تختلف عن أقاويل الرافضين للإسلام ..
أ) منها ما أستهدف الاستهزاء ببيوت الله بالقول والفعل ، كما قال في ترجمة الشيخ إبراهيم العريان ( كان رضي الله عنه يطلع المنبر ويخطب عرياناً فيقول : " السلطان ودمياط وباب اللوق وبين القصرين وجامع طيلون الحمد لله رب العالمين " فيحصل للناس بسط عظيم ) ( وكان رضي الله إذا صحا يتكلم بكلام حلو ) .. فصاحبنا المجذوب يتمتع بتأييد الناس حتى أنه ( يحصل للناس بسط عظيم ).
ب) وبعضهم كان يجد مجال الاستهزاء في القرآن الكريم كشعبان المجذوب ، يقول فيه الشعراني ( كان يقرأ سوراً غير السور التي في القرآن على كراسي المساجد يوم الجمعة وغيرها فلا ينكر عليه أحد ، وكان العامي يظنها من القرآن الكريم لشبهها بالآيات في الفواصل وقد سمعته مرة على باب دار ( على طريقة الفقهاء الذين يقرأون في البيوت ) فصغيت إلى ما يقول فسمعته يقول : " وما أنتم في تصديق هود بصادقين ".. ولقد أرسل الله لنا قوماً بالمؤتفكات يضربوننا ويأخذون أموالنا وما لنا من ناصرين " ثم قال اللهم أجعل ثواب ما قرأناه من الكلام العزيز في صحائف فلان وفلان إلى آخر ما قال ..وكانت الخلائق تعتقده اعتقاداً زائداً ، لم أسمع قط أحداً ينكر عليه شيئاً من حاله ، بل يعدون رؤيته عيداً عندهم ) . أي تنزه بجذبته عن الإنكار عليه وحظى بتقديس الناس فجعلوا رؤيته عيدا ، حتى أن الشعراني يقول عن تخريفاته أنه (كان يقرأ سوراً غير السور التي في القرآن ) فجعل تخريفاته ( سوراً قرآنية )..
ج- وبعضهم كان يسب الأنبياء كالشيخ محمد الخضري ، وقد ترجم له الشعراني فقال ( كان يتكلم بالغرائب والعجائب من دقائق العلوم والمعارف ما دام صاحياً ، فإذا قوي عليه الحال تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها في حق الأنبياء وغيرهم .. ) ( وأخبرني الشيخ أبو الفضل السرسي أنه جاءهم يوم الجمعة فسألوه الخطبة فقال بسم الله . فطلع المنبر فحمد الله واثني عليه ومجده ثم قال ( وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام ) فقال الناس : كفر .. فسلّ السيف ونزل فهرب الناس كلهم من الجامع فجلس عند المنبر إلى آذان العصر وما تجرأ أحد أن يدخل ) . ويحس القارئ نبرة الفخر في حديث الشعراني عن ذلك الخضري عندما هدد المنكرين عليه بالسيف فهربوا .. ويعنينا أن نذكر أن الخضري المتوفي 897 كان من أصحاب الاتحاد العارفين بدقائق العلوم والمعارف ولم يجد لعقيدته مجالا إلا في ادعاء الجذب الوقتي أو بتعبير الشعراني ( فإذا قوي عليه الحال تكلم بألفاظ لا يطيق أحد سماعها في حق الأنبياء وغيرهم .. )
6- ويذكر أن بداية العصر المملوكي ووسطه شهد عقد المحاكمات لأصحاب الدعوات المتطرفة الذين وقعوا في سب الأنبياء تبعاً لغرضهم في التحلل من الإسلام والشرائع الإلهية .ففي عام 813 ( رفع القاضي الشافعي أن شخصاً يقال له أبو بكر المغزو يدعي المشيخة ويتكلم على الناس ويقول : الأنبياء عرايا عن العلم لقوله تعالى ( سبحانك لا علم لنا ) ونحو ذلك من الأشياء الشنيعة ، فمنعه القاضي عن الكلام بعد أن عزره بالقول ) .أى شتمه القاضى عقوبة تعزير له . مع ملاحظة أن الملائكة هى التى قالت ذلك وليس الأنبياء:( وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلاء إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لا عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنتُمْ تَكْتُمُونَ (33) البقرة ). وفي عام 844 ( عُقد مجلس حكم بإراقة دم علي بن أخي قطلوخجا لأنه يثبت عليه أنه سب الأنبياء وأفحش وذلك بالتركية والعربية ) . أى كان يسبّ الأنبياء باللغتين العربية والتركية .وتأثر بعض الفقهاء بهذا الجو ففي نفس العام 844 ( طُلب قاضي دمشق الحنفي بالقاهرة ) أى تم إستدعاؤه من دمشق للقاهرة ( بسبب ما نقل عنه أنه سئل عن الحكمة في طواف النبي (ص) على النساء في ليلة واحدة ، فأجاب فعل ذلك ليعفهن عن الزنا ، فأغرمه السلطان مائتي دينار ) .هنا السلطان المملوكى هو الذى يعاقب القاضى ـ قاضى الشرع الشريف ـ وعقوبته غرامة 200 دينار أخذها السلطان طبعا .!
وفي القرن التاسع ازداد التصوف وتكاثرت طبقة المجاذيب الصوفية ، والمجذوب( لا يطالب بأدب من الآداب ) فلم يطالبوا بالآداب طالما هم في حالة جذب، بينما تعقد المحاكمات لغيرهم. وهكذا أصبح ادعاء الجذب غطاءأ ومبررا لأصحاب الدعوات المتطرفة يتخلصون به من المحاكمات . ويلفت النظر أنه في القرن العاشر – عصر المجاذيب الذين ذكرهم الشعراني وترجم لهم فى الطبقات الكبرى على أنهم من أعيان العصر– عقدت محاكمة سنة 913 لعمر بن علاء الدين الحنفي وكان خطيباً بأحد الجوامع لأنه ( وقع في حق سيدنا إبراهيم ، فاستتابه أحد القضاة وحكم بحقن دمه ، فتعصب السلطان الغوري للخليل إبراهيم ، وصمم على ضرب عنق الخطيب ، وجمع القضاة والعلماء وتباحثوا وبعد تشاجر انفصّل المجلس على سجنه حتى يتوب ، والسلطان مصمم على قتله ، فسٌجن. )، والغوري الذي صمم على قتل ذلك الفقيه المتأثر بالتصوف – هو نفسه الغوري الذي يعتقد في الصوفية إلى درجة تقبيل أيديهم كما فعل بالصوفي المجذوب ابن عنان على مرأى من الشعراني . ، فالفارق بين المجذوب الصوفي والمتطرف أن الأول يدعي الجذب في قوله للشطح ويتمتع بالتقديس لأنه عندهم غائب العقل ، أو مجذوب العقل ، أى عقله فى ( الحضرة الالهية ) ولا يدرى ما يقول ، فهو فى حصانة مهما قال ومهما فعل ، أما الآخر فيقوله بصراحة وبلا ادعاء ، ويتعرض للمحاكمة أحياناً .
7 – وهناك عامل آخر يذيب من الفوارق بين الصوفية العاديين وأصحاب الدعوات المتطرفة الرامين للتحلل من الإسلام ، وذلك فيما قاله أساطين الاتحاد من عبارات شطحية مقصودة تعبر عن عقيدة ( وحدة الوجود ) بكل وضوح وصراحة مستغلين جو الحرية الذي يتيح للصوفي أن يقول ما يشاء طبقاً لمبدأ الشطح ..فقد قيل في ترجمة عفيف الدين التلمساني (690 ) تلميذ ابن عربي أنه ( نُسبت إليه عظائم في الأقوال والأفعال والاعتقاد في الحلول والاتحاد والزندقة والكفر المحض ، هذا مع أنه عمل أربعين خلوة كل خلوة أربعين يوماً متتالية) . وأنه ( لا يحرم فرجاً ) أى يبيح الزنا بأى أنثى حتى من المحرمات والمحارم ( وإن عنده ما ثم ( أي ليس هناك ) غير ولا سوى ( أي لا يوجد غير الله ولا سواه فالله هو كل شئ ) بوجه من الوجوه ، وإن العبد إنما يشهد السوي ( أي غير الله من العالم ) إذا كان محجوباً ، فإذا انكشف حجابه ورأى أن ما ثم غيره ( أي غير الله ) تبين له الأمر ، ولهذا كان يقول " نكاح الأم والبنت والأجنبية واحد " وإنما هؤلاء المحجوبون قالوا : حرام علينا فقلنا حرام عليكم ") . وقال عنه ابن تيمية ( هو من حُذّاق القائلين بالاتحاد علماً ومعرفة ، وكان يظهر المذهب بالفعل فيشرب الخمر ويأتي المحرمات ، وحدثني الثقة أنه قرئ عليه فصوص الحكم لابن عربي وكان يظنه من كلام أولياء الله العارفين فلما رآه يخالف القرآن قال : فقلت له : هذا الكلام يخالف القرآن فقال : القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ، وكان يقول : ثبت عندنا في الكشف ما يخالف صريح المعقول ، وحدثني عن من كان معه ومع آخر نظير له فمر على كلب أجرب ميت بالطريق عند دار الطعم فقال له رفيقه : هذا أيضاً هو ذات الله ؟ فقال : وهل ثم ( هناك ) شئ خارج عنها ؟ نعم الجميع في ذاته ) .. فالتلمساني حلقة وصل ضرورية بين ابن عربي والصوفية الرافضين للإسلام . ولم يعدم العصر المملوكي من وجود تلامذة للتلمساني ( قال أحدهم لرفيقه – وكان يمشي في الإسكندرية – إن الله تعالى هو عين كل شئ ، فمر بهما حمار فقال : وهذا الحمار ؟ فقال : وهذا الحمار !! فروّث الحمار من دبره فقال له : وهذا الروث ؟ فقال : وهذا الروث !! ) . وهذه قصة حقيقية وقعت في القرن التاسع ..
أخيرا
جدير بالذكر أن بعض عتاة الجاهلين استهزأ بيوم القيامة وأعلن أنه سيُعطي في الآخرة أجرا كما أعطى في الدنيا المال والولد ، واعتبر القرآن مقالته إثما بالغاً يستحق مزيد العذاب ، مع أن ما قاله لا يقاس بأي حال بشطح أي صوفي مهما بلغ اعتداله . واقرأ قوله تعالى ( أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً{77} أَاطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِندَ الرَّحْمَنِ عَهْداً{78} كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدّاً{79} وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْداً{80} مريم ).والمشركون السابقون لم يقولوا كالصوفية ( وأشهد أن لا إله لكم إلا إبليس عليه الصلاة والسلام – أو أن النجاسة والكلاب الميتة والحمير والروث هي عين الله ) .. وكل ما هنالك أنهم قالوا بأن الله اتخذ ولداً . واعتبر رب العزة هذا القول كفراً هائلا ، تكاد السماوات يتفطرن منه:( وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً{88} لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً{89} تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدّاً{90} أَن دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَداً {91} مريم ) وقال جل وعلا : ( وَيُنذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلا لآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) الكهف ). فأين هذا من ذلك القائل ( طاعتك لي يا رب أعظم من طاعتي لك – بطشي أشد من بطشك- لأن تراني مرة خير لك من أن ترى الله ألف مرة ... )؟؟..!!