مشهدا إعدام.. مِنْ يوميَّات سجين


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4670 - 2014 / 12 / 23 - 22:04
المحور: الادب والفن     

المشهد الأوَّل:

23 /8/1980 – سجن المحطَّة

بعد الثانية عشرة مِنْ ليل أمس، لمسنا (عمران السبع وأنا) تحرّكاتٍ نشطة مريبة قرب المشنقة الواقعة في أقصى الطرف الغربيّ من شبك1 (وبالتحديد، تحت مكاتب إدارة السجن مباشرة)، ورأينا بعض رجال الشرطة يشحِّمون آلتها ويعدّونها للعمل.

عندئذٍ، أيقظنا الرفاق النائمين، ورحنا نراقب معاً الحركة الجارية هناك مِنْ خلل قضبان غرفتنا رقم 14، 15. وفي أثناء ذلك، رحنا نستعرض أسماء المحكومين بالإعدام في سجن المحطَّة، متسائلين عمَّن يكون صاحب الحظّ المنكود الذي تجري كلّ تلك التجهيزات المشؤومة مِنْ أجل انهاء حياته. ولكنَّنا لم نتوصَّل إلى تحديد أيّ اسم، وربَّما أنَّنا كنّا في قرارات نفوسنا نتجنَّب مثل هذا التحديد. ثمَّ حاولنا أنْ نعرف عن الموضوع مِنْ رجال الشرطة الذين راحوا ينتشرون في شبك1 بكثافة غير معهودة، غير أنَّهم امتنعوا عن قول أيّ شيء في هذا المجال.

وما لبثنا أن تعبنا من طول الوقوف والتوتّر ومحاولاتنا الفاشلة للتكهّن بشخصيَّة ذلك الإنسان البائس الذي سيُساق إلى حتفه بعد بضع ساعات. وتطوَّع رفيقنا حسن لمواصلة السهر ومتابعة ما يجري ليوقظنا عند الفجر عندما تبدأ طقوس الإعدام.

وبالفعل، قبيل الفجر بقليل، أيقظني حسن، فوجدتُ الرفاق (أكثرهم) قد استيقظوا، بينما كان الباقون في سبيلهم إلى ذلك. ورحنا نتابع، بمزيدٍ من القلق والتوتّر، تحرّكات الشرطة في ساحة الشبك، وانشغالهم بترتيب آلة الموت تلك، والاختبارات التي كانوا يجرونها على عملها مِنْ حينٍ لحين.

وفي حدود الخامسة صباحاً، دخل المحكوم عليه بالإعدام مِنْ باب السور الفاصل ما بين شبك الزيارة وشبك1. وهو بابٌ – كما فهمتُ – لا يُفتح إلا في مثل هذه المناسبة.

كان المحكوم شابّاً ثلاثينيّاً طويلاً حليق الذقن والشاربين، وقد سرَّح شعره الأسود القصير إلى الوراء. وكانوا قد ألبسوه أفرهولاً أحمراً، وقيَّدوا يديه خلف ظهره.. لكنَّه كان يسير بهدوء وتماسك، منتصب القامة، رافعاً رأسه، ولم يكن يبدو على وجهه أيّ تعبير محدَّد. وفكَّرتُ بأنَّه ربَّما كان ذاهلاً متبلِّد الشعور.

وما لبث أن صعد درجات غرفة المشنقة (وهي الغرفة رقم 19 في شبك 1، وملحقة بها الغرفة رقم 18) بنفس التماسك والثبات، لكنَّه قبل أن يجتاز عتبة بابها، توقَّف قليلاً، وألقى نظرة خاطفة إلى الشرق، حيث كان شفق ذلك الصباح الكئيب يلوح مِنْ أعلى جبل ماركا.. ثمَّ استدار باتّجاه باب المشنقة ودخل.

خلفه مباشرة، كان الجلاد، وهو شرطيّ قديم، متخصَّص في مهنة الموت هذه، ولذلك كان محطّ كراهية الجميع، بمن في ذلك زملائه. ومن المعروف أنَّه يتقاضى مقابل كلّ «رأسٍ» يقصفه، خمسة دنانير، تُؤخذ من أهل الشخص الذي تمَّ إعدامه عند تسلّمهم جثّته.

وكان الجلاد وهو يسير خلف المحكوم بالإعدام، يحمل بيده كيساً أسود من النايلون. وفي الخلف قليلاً، سارت جمهرة مِنْ أفراد الشرطة والضبّاط ومدير السجن ومساعد مدير الأمن العامّ والقاضي الشرعيّ والطبيب الشرعيّ ومصوّر صحفيّ تدلَّتْ آلة تصويره مِنْ كتفه الأيمن.

دخل أكثر هذا الجمع المشنقة، بينما بقي بعض أفراد الشرطة عند الباب. وفكَّرتُ بأنَّه ليس هناك ما هو أكثر قسوةً (وبشاعة) مِنْ أن يؤخذ إنسانٌ للموت بطقوسٍ «احتفاليَّة» كهذه، وبحضور مثل هذا الجمهور الذي يتعامل مع موته كوظيفة روتينيَّة يؤدِّيها بحرفيَّة ثمَّ يمضي إلى شؤونه المعتادة. وهذا في حين أنَّ الشخص المجلوب للإعدام لا يملك أيَّة وسيلة للدفاع عن نفسه. الأمر الذي يجعله أشبه بـ«خروف عيد» أو «صوص دجاج» يُقاد للذبح. وفكَّرتُ بأنَّ هذا – بحدّ ذاته – يجعل مِنْ هذه الطريقة للموت إهانة كبيرة للجنس البشريّ ككلّ.. بغضّ النظر عن الشخص الذي يجري إعدامه.

بعد ذلك، لاح لنا المحكوم، مِنْ فتحةٍ كبيرة في أعلى باب المشنقة التي كانت مضاءة (وهي لا تُضاء إلا بمثل هذه المناسبة)، لاح لنا وهو واقف تحت الحبل المعقود المتدلِّي مِنْ سقف غرفة المشنقة، ووجهه مستدير نحونا، بينما وقف الجلاد على مقربة منه.

وراح المصوِّر الصحفيّ يلتقط له صوراً مِنْ زوايا مختلفة. وفي هذه الأثناء، كان لمعان فلاش الكاميرا يجعل ملامحه أكثر وضوحاً. وكان طوال الوقت يحافظ على تماسكه وثباته، أو على ذهوله ربَّما. ثمَّ أخذ بعض الموجودين حوله يتحدَّثون إليه.. ولم نسمع ما قالوه له أو ما قاله لهم. لكنَّهم، عادةً، كما قال أحد الرفاق هنا، يتلون على المحكوم نصَّ قرار الحكم بالإعدام.. ويقوم المدّعي العامّ، عادةً، بهذه المهمّة. ثمَّ يأتي القاضي الشرعيّ، فيطلب من المحكوم إعلان توبته لربّه، وبعد ذلك يقوم بتلاوة بعض النصوص الدينيَّة عليه.

تقدَّم الجلاد، فسحب المحكوم مِنْ عند ابطه، وأوقفه تحت الحبل المعقود تماماً، بينما كان الأخير مستسلماً له بالكامل، كما لو أنَّه كان يُهيَّأ لالتقاط صورةٍ له في وضعٍ أكثر ملاءمة، وليس لإتمام طقوس موته. ثمَّ غطَّى الجلاد رأس المحكوم بالكيس الأسود، وأمسك بالحبل الغليظ المعقود فوق رأسه ووضع عنقه فيه. وكان هو لا يزال على نفس الحال من الإذعان والتسليم. ثمَّ رأينا الجلاد ينحني إلى الأسفل، وهنا استطالت قامة الوقت أكثر ممّا هي في الواقع بكثير، قبل أن نسمع صوت اصطكاك حديد المشنقة ونرى جسد الرجل يهوي إلى الأسفل دفعةً واحدة، ثمَّ سمعنا صوت ارتطامه بالأرض.

(أظنّ أنَّه لا يمكن لمَنْ سمع تلك الأصوات البشعة، ورأى الطقوس الوحشيَّة المصاحبة لها، أن ينساها إلى الأبد، وسيظلّ، كلَّما سمع صوتاً مشابهاً، يجزع ويكتئب وتدبّ القشعريرة في بدنه).

بعد ذلك، خرج الحضور، ما عدا نفر قليل مِنْ رجال الشرطة، وقد نزل اثنان منهم إلى حفرة المشنقة. وما هي إلا دقائق قليلة، حتَّى رأيناهم يخرجون بجسدٍ رخوٍ معفَّرٍ بالتراب، محمولاً على محفَّةٍ قماشيَّة.. وقد بدا كما لو أنَّه قطعة قماشٍ قديمة بالية لم تحظَ يوماً بأيّ مظهرٍ مِنْ مظاهر الحياة.

حداداً على روح ذلك الإنسان الذي لم نعرفه (تبيَّن لاحقاً أنَّه جيء به مِنْ سجنٍ آخر، وليس مِنْ سجن المحطَّة)، قرَّرنا عدم الخروج للرياضة صباح هذا اليوم.

المشهد الثاني:

26/10/1980 – سجن المحطَّة

شنقوا، صباح هذا اليوم، رجلين جاؤوا بهما مِنْ سجنٍ آخر. ومنذ أحسسنا بالتحرّكات المريبة إيَّاها، قرب المشنقة، في الليلة الفائتة، لم نستطع النوم، لكنَّنا على عكس ما حدث في المرَّة السابقة، لم نبرح أبراشنا. وحين بدأت، عند الفجر، طقوس الموت الجهنميَّة، امتنعنا جميعاً، دون سابق اتّفاقٍ بيننا، عن التفرّج عليها.

وفي الخامسة صباحاً، وكنتُ لا أزال مستيقظاً في برشي، سمعتُ أحد الرجلين المحكومين يصرخ أثناء دخوله غرفة المشنقة: خافوا الله...

ولم أفهم باقي كلامه. غير أنَّ تلك الصرخة اليائسة التي أطلقها إنسانٌ فزعٌ أمام الموت، غاصت في نفسي عميقاً مثل خنجرٍ مسموم، ولعلِّي لن أنساها أبداً.

وكنتُ، في الوقت نفسه، أسمع قرب المشنقة أصواتاً أخرى لأناسٍ يتحادثون بمرح، وأصداء قهقهاتٍ منفلةٍ. وفكَّرتُ وأنا أسمع لمرَّتين الصوت المشؤوم لاصطكاك حديد المشنقة، وارتطام الجثَّتين بالأرض، بأنَّه لأمر جليل أنْ يحارب الإنسان ضدَّ الموت بكلِّ أشكاله، وعلى وجه الخصوص ضدَّ هذا الشكل منه، المهين للإنسان ككلّ وللكرامة البشريَّة.

وبغضّ النظر عن الأسباب، الإعدام ليس عقوبة، لأنَّ العقوبة تتطلَّب وجود الجاني لتقع عليه. في حين أنَّ الإعدام يلغي وجود الجاني نهائيّاً، وهذا حقّ لا يملكه أحد أو قانون، إلا «قانون القوَّة» طبعاً، الذي هو في النهاية «قانون» كلّ قاتل، سواء أكان فرداً أو جماعةً أو مؤسَّسةً. ولذلك، فإنَّ الإعدام، في جوهره، هو عمليَّة قتل تتمّ بدمٍ بارد وعن سابق إصرارٍ وترصّد. ولا يغيِّر مِنْ حقيقته، هذه، كونه عمليَّة رسميَّة تتمّ «بموجب القانون».

كان الفجر، في السابق، يذكِّرني بزقزقة العصافير الجميلة، ونسائم الصباح الطريَّة، واستيقاظ الكون الفاتن مِنْ حولي. أمَّا الآن، فقد عرفتُ أنَّ للفجر مظهراً آخر كئيباً ووظيفةً أخرى بشعة لا علاقة لهما بكلّ ما كنتُ أعرفه.