ج1 ب1 ف 4 : معاناة البقاعى من الصوفية مع إيمانه بالتصوف السنى


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4667 - 2014 / 12 / 20 - 19:37
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : العقائد الدينية فى مصر المملوكية بين الاسلام والتصوف .
الباب الأول : مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى
الفصل الرابع : وحدة الوجود وصراع الفقهاءمع الصوفية في القرنين التاسع والعاشر الهجريين .
معاناة البقاعى من الصوفية مع إيمانه بالتصوف السنى
معاناة البقاعى وأنصاره
1 ــ والواقع أن البقاعي كان يناضل عصره بكل ما أوتي من عنف ، ويكفي أنه حين ساءت به الأمور قال لمن عرض عليه المهادنة ( إني والله قد وضعت بين عيني القتل بالسيف والضرب إلى أن أموت منه فرأيته أهون عندي من أن يجُهر بالكفر في بلد أنا فيه ، ويقال إنّ الصلاة حجاب والصوم حجاب والقرآن باطل أو شرك ، ويُراد خلع الشريعة المحمدية ، ويظهر دين الكفر على دين محمد صلى الله عليه وسلم. فإما يُعيننى الذين يريدون سكوتى بمال أو غيره أقدر به على الانتقال به من هذا البلد ، فإنه والله لو كان معى مال أتجهز به هاجرت منها . وإما أن يختاروا منى واحدة من ثلاث بحضرة السلطان والقضاة الأربعة وساير العلماء ، وهى : المجادلة ثم المباهلة ثم المقاتلة ، فيعطينى السلطان سيفا وترسا، ويعطى أشبّهم ( أى أكثرهم شبابا ) سيفا وترسا ، ويخلى بيننا قدامه فى حوش القلعة ، وينظر ما يكون منى على شيخوختى ، فإن قُتلت كنتُ شهيدا ، وإن قتلت خصمى عجلت به الى النار )
2 ـ وبعد إفشال حركة البقاعي لم ينقطع الصوفية عن إيذائه حتى مع وجود جماعة حول البقاعي تحميه . يقول ابن الصيرفي في أحداث رمضان 875 : ( عمل البرهان البقاعي ميعاداً بالجامع الظاهري على عادته بعد العصر فحضر إليه جماعة قصداً من معتقدي ابن الفارض ، وأساءوا عليه ، فشكاهم لقصروه الحاجب ( الأمير المملوكى حاجب السلطان )، فطلبهم ورسم عليهم. ( أى أمر باعتقالهم ) ثم أن البقاعي طلب جماعة من جهته وأوقفهم في عدة مواضع ومفارق ومخارص من الطرقات وبأيديهم العصي والخشب ، وقرر معهم إذا مروا عليه فيضربونهم وينكلون بهم ،( أى أمر البقاعى أتباعه بإنتظار أولئك المقبوض عليهم من خصومه وضربهم ) فبلغ ذلك ابن مزهر الأنصاري كاتب السر ( خصم البقاعى ) فأرسل إليهم بداوداره بركات فأطلقوهم . ( اى أطلق خصوم البقاعى المعتقلين ) . ثم أصبح البقاعي وشكي خصومه لبيت الأمير تمر حاجب الحجاب ، فاجتمع الجمع الغفير وحضر من العلماء والفضلاء جماعات برزوا للبقاعي وطلبوه فحضر بين يدي الأمير وأراد الطلوع من المقعد فما مكنه خصومه . ووقف من تحت المقعد وجلس المشايخ المذكورون وادعى على جماعة ، منهم شخص شريف حضروا إليه في مسجده ليقتلوه ، فقال له الشيخ بدر الدين بن القطان ( لا تقل مسجدي فإن المساجد لله ) ، وترضٌوا عن الشيخ عمر ابن الفارض ولعنوا وكفّروا من يكفره ، وحصل له بهدلة ما توصف ، وانفصلوا على غير طائل ، ولم يحصل للبقاعي مقصود ، فإنه مخذول ، سيما أنه يتعرض لجناب سيدي الأستاذ العارف بالله عمر ) .
3 ــ وتعرض أتباع البقاعي لاضطهاد مماثل من الصوفية وصنائغهم من القضاة . يقول البقاعي في تاريخه: ( تخاصم شخص من جماعة اهل السُّنّة يقال له : محمد الشغرى مع جماعة من الفارضين ( أى الصوفية من أتباع ابن الفارض ) من سويقة صفية ، فرفعوه الى ( إشتكوه الى ) قاضى المالكية البرهان اللقان، وإدّعوا عليه أنه كفّر إبن الفارض ، فأجاب ( محمد الشغرى ) بأنه قال بأن العلماء قالوا بكفره ، ، فضربه القاضى بالسياط ن وامر بتجريسه وبالمناداة عليه فى البلد : هذا جزاء من يقع فى الأولياء . ثم توسط القاضى الشافعى لدى المالكى حتى أطلقه . وقال ( القاضى ) الشافعى : أيُفعل بهذا هكذا ولم يقل إلا ما قال العلماء ، ويُرفع لهم حربى ( شخص أجنبى من دار الكفر بتعبير العصر وقتها ) إستعزأ بدين الاسلام فى جامع من جوامع المسلمين ولا يفعلون به مثل ما فعلوه بهذا ؟ مع إنه حصل اللوم فى أمره من السلطان ومن دونه ولم يؤثر شىء من ذلك ..) أى إستهزأ رجل أوربى بالاسلام فلم يعاقبوه بينما عوقب هذا الشخص السُّنى الذى كفّر ابن الفارض . وأن السلطان قايتباى لام القاضى المالكى فى حكمه على الشخص السنى ، ولم يؤثر هذا فى شىء. ويقول البقاعى : ( هذا كله ، والحال أن البرهان المذكور ( يعنى قاضى القضاة المالكى برهان الدين اللقان) قال لغير واحد ( أى لأكثر من شخص ) إن له أكثر من ثلاثين سنة يعتقد كفر ابن الفارض .! ) . أى يؤمن بكفر عمر بن الفارض ، ومع هذا يعاقب من قام بتكفير ابن الفارض رعاية للنفوذ الصوفى.!
4 ــ ولاحقتهم الدعاية الصوفية بالويل والثبور ، يقول المناوي ( ورأى بعض المنكرين ( أى المنكرون على عمر بن الفارض ) في نومه جماعة وقفوا بين يدي عمر بن الفارض وقيل له : "هؤلاء المنكرون " ، فقطع ألسنتهم فانتبه مذعوراً ورجع عن إنكاره .. وروى بعضهم أن القيامة قامت وجيء بجماعة ألقوا في أوان غاية في الكبر حتى أنهى العظم واللحم ، فقال ما هؤلاء ؟ قال الذين ينكرون على ابن عربي وابن الفارض . وقالوا إن شيخ الإسلام ابن البالشي قاضي القضاة لما وصل مصر صار ينال من الشيخ وترصد زواره .. فابتلي بمرض فما شفي منه حتى رجع عن ذلك ، والحكايات في معنى ذلك كثيرة ) .
إيمان البقاعى بالتصوف السُّنى
1 ــ ومع حدة البقاعي في الإنكار على الصوفية الاتحادية إلى درجة تظهر في اختيار عنوان كتابيه ( تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد ) و ( تنبيه الغبي إلى تكفير ابن عربي ) إلا أن البقاعي كان يعتقد فى التصوف السُّنى ويدين باحترام شديد إلى أوائل الصوفية ويعتبرهم ( اهل الله ) تعالى الله جل وعلا عن ذلك علوا كبيرا . ويعتقد فيهم الولاية والنفع ، ويرجو النفع بكراماتهم ، ويتردد ذلك في ثنايا تاريخه في معرض إنكاره على الاتحادية يقول مثلا ( .. وقد قال أهل الله كالجنيد وسري السقطي وأبي سعيد الخراز وغيرهم ممن هو على طرقهم نفعنا الله بهم ..) . ويقول عنهم ( إن المحققين منهم بنوا طريقهم على الاقتداء بالكتاب والسنة ) ، واستدل ببعض أقوالهم المنافقة( ) ، مخدوعاً بهم كشأن ابن تيمية وابن الجوزي .. وفي خطابه لكاتب السر استشهد ببعض تلك الأقوال وعلق عليها بقوله ( وإن قلتم مخالفين لهؤلاء الأئمة الذين هم القدوة إلى الله تعالى ..) .
2 ــ فالبقاعي أراد بإخلاص إصلاح الطريق الصوفي وأن يربطه بالكتاب والسُّنة ، أوالإسلام فى ذهنية السنيين ـ وهو الذي ادعى منافقو الصوفية الأوائل أنهم ملتزمون به . وكان نصيبه هذا العنت مما اضطره في نهاية الأمر إلى الرحيل عن مصر متمتعاً بكراهية أهلها لمجرد دعوته للحق ، بل اعتبر بعض من حاول الإنصاف – أن تلك هي سيئته الوحيدة . فيقول ابن إياس ( في رجب 885 جاءت الأخبار بموت برهان الدين البقاعي في دمشق ، وكان عالماً فاضلاً محدثاً ماهراً في الحديث ليس من مساويه سوى حطه على الشيخ عمر ابن الفارض ) .
موت تأثير حركة البقاعى بعد موت البقاعي سنة 885 هـ
1 ــ كانت حركة البقاعي هزة في المجتمع المصري الراكد ، وبموته عاد الهدوء وكثر تحول باقي الفقهاء إلى عقيدة الصوفية، وشهدنا السخاوي ( ت 902 ) يقول عن ابن صديق أنه انتحل الشياخة الصوفية ( وكأنه لمناسبة الوقت ) .. واعترف زكريا الأنصاري للشعراني باعتناقه للتصوف منذ بدايته واستمرت مكانته حتى القرن العاشر تتزايد ليصبح شيخ الإسلام .. وعرضنا لموقف السيوطي من كائنة البقاعي وكيف أنه صنف في الرد عليه كتاباً يدافع فيه عن ابن الفارض ، وكرر السيوطي مقالته في كتابه ( تأييد الحقيقة العلية ) معتمداً على المبررات الصوفية المعتادة من السكر والوجد الصوفي والتأويل... الخ . وعلى نفس المنوال قال الشعراني عن الفقيه نور الدين المحلي الشافعي ( كان لديه الاعتقاد الحسن في الصوفية عكس البقاعي ، وكان يعتقد حتى في ابن عربي وابن الفارض ، وكان يقول بأن الملاحدة قد دسوا كثيراً في كلام الأئمة بغير علمهم ...
2 ــ وقام الصوفية وأعوانهم بالقضاء على أي أثر لحركة البقاعي بعد رحليه باضطهاد تلاميذه وملاحقتهم بالمحاكمات المتعسفة . يقول ابن إياس في حوادث 888 ( حضر شمس الدين الحلبي تركة يحي بن حجي فرأى بين كتبه كتاب الفصوص لابن عربي ، فقال : هذا الكتاب ينبغي أن يحرق ، وأن ابن عربي كان كافراً أشد من كفر اليهود والنصارى وعبدة الأوثان . فمسكوا عليه ذلك وأرادوا تكفيره .. وآل أمره إلى أن عزروه وكشفوا رأسه ثم حُكم بإسلامه وحقن دمه ، وقد قامت عليه الدائرة بسبب ذلك ، وفيه يقول أبو النجا القمني ( الصوفي ) ساخراً : أقعدت يا حبيبي بالصـفع في قفـاكـا
لما ادعيت جهلاً حرق الفصوص يا كا فر
وما خلصت حتى أقمـت شاهـداكــا
وسأل الشيخ يونس بن الحسين الألوحي عن منشد ، أنشد على منارة مسجد أبياتاً منها :
خمرة تركها على حرام ليس فيها إثم ولا شبهات
شربها آدام ونوح وشيث وتحياتها غرات ذاكيات
شربها عيسى فصار نبياً وحبيبـا وزائد البركات
وهي طويلة ، فأنكر عليه طالب ، فغضب واستفتى على الطالب فكتب له بعض الناس :إذا كان القصد بذلك خمرة التوحيد التي يهيم بها العارفون فليس في ذلك خطأ ولا يجب على المنشد شيء ويؤدب المعترض عليه ، وقد قال الشيخ ابن الفارض :- شربنا على ذكر الحبيب مدامة سكرنا بها من قبل أن يخلق الكرم 46 . فالصوفي غضب حين أنكر عليه طالب إنشاده أبيات العقيدة الصوفية فى الاتحاد على المئذنة ، وأفتى له البعض بأنه لم يخطئ طالما أن المقصود هو خمرة الأولياء العارفين واستشهد بابن الفارض .. وحكم على الطالب بالتعزير ، أي أنقلب الحال ، فصار المنكر منكراً عليه وأصبح الطالب مطلوباً . وقد ألمح إلى ذلك السخاوي ـــ على عادته في الإنكار الضمنى بلا تصريح – في معرض روايته لما حدث من القاضى سعد الدين الديري حين أمر بتعزير من وجدت عنده بعض تصانيف ابن عربي واعترف بكونها عنده وأنكر استفادة ما فيها ، يقول السخاوي يصف عصره معلقاً على الحادثة ( كيف لو أدركا هذا الزمن الذي حل به كثير من المحن والرزايا ) .ويقول الشعراني إن الفقهاء في الجامع الأزهر عقدوا مجلساً لمحاكمة إبراهيم المواهبي ، فجاء إليهم محمد المغربي وهم في أثناء الكلام فقال : نحن أحق بتنزيه الحق منكم معاشر الفقهاء ، وأخذ بيد المواهبي وقام معه فلم يتبعه أحد ، وقد لحقوا بالمغربي يترضونه فقال لهم ( الطريق ما هي كلام كطريقتكم إنما هي طريق ذوق ، فمن أراد منكم الذوق فليأت أخليه ( أي أجعله في خلوة ) ، وأجوعه حتى أقطع قلبه وأرقية حتى يذوق ، وإلا فليكف عن هذه الطائفة ( الصوفية ) فإن لحومهم سم قاتل ) .
أخيرا : البقاعى المظلوم حيا وميتا
أرى إن البقاعى أكثر علما وفقها من إبن تيمية ، وأسوأ حظا منه . لم يترك البقاعى مؤلفات كثيرة ، ولكن مؤلفاته أظهرت عقلية سُنيّة مجتهدة معتدلة لا نراها بنفس القدر فى ابن تيمية ومدرسته . هجوم البقاعى على ( ابن عربى وابن الفارض ) فى كتابيه ( تحذير العباد ) و ( تنبيه الغبى ) أقوى مما كتبه ابن تيمية ومدرسته . كتاب البقاعى فى ( علم المناسبة القرآنية ) كان فتحا غير مسبوق فى علوم القرآن . وتعرض كتابه هذا الى السرقة ، سرق السيوطى أفكار هذا الكتاب وقام بتلخيصه ، وكتاب السيوطى منشور مشهور بعكس كتاب البقاعى وهو الأصل . حتى مخطوطة تاريخ البقاعى والتى عثرت عليها فى دار الكتب المصرية بخط اليقاعى نفسه تعرضت للعبث وشطب بعض سطورها و كشط بعض أسماء الصوفية الذين ذكرهم البقاعى فى ظلمهم له وتعديهم عليه ، واستلزم الأمر منى جهدا فى المراجعة للتعرف والتحقق مما ذكره البقاعى فى هذه المخطوطة. وكان من وسائل التحقق الرجوع الى تاريخ ابن الصيرفى ( إنباء الهصر بأبناء العصر ) فى نفس الأحداث ونفس السنوات ، وقد كان ابن الصيرفى معاصرا للبقاعى وخصما له ، وذكر ( كائنة البقاعى ) فى تاريخه ( الهصر ) من وجهة نظر متحاملة على البقاعى . ولكن المفاجأة أن جزءا مما تم العبث به وحذفه فى مخطوطة تاريخ البقاعى عن معاناة البقاعى تم نزع صفحاته من كتاب الهصر أيضا . أى كانت مؤامرة للإنتقام من هذا الرجل وحصره فى دائرة النسيان . ولذلك انتهى البقاعى وحركتة الى النسيان بين سطور التاريخ ، عكس ابن تيمية الذى تم نشر رسائله وكتبه وشطحاته الفقهية . ونشعر بالفخر لأننا كشفنا الغطاء عن هذا الفقيه الثائر الذى لم تدفعه حدته فى الهجوم على شطحات الصوفية الى الوقوع فى الشطحات الفقهية الدموية مثلما حدث من ابن تيمية .