أربعة وأربعون شهرا وأربعة وأربعون عاما 3- مقاومة إسلامية، مقاومة الإسلاميين


ياسين الحاج صالح
الحوار المتمدن - العدد: 4664 - 2014 / 12 / 16 - 16:41
المحور: اليسار , الديمقراطية والعلمانية في المشرق العربي     

أعدمت جبهة النصرة قبل أيام شابين فلسطينيين في مخيم اليرموك، زكريا مرعي وأحمد صيام، بتهمة الكفر. وقبل أيام مرت السنوية الأولى لاختطاف جيش الإسلام، وهو تشكيل سلفي عسكري آخر، لكل من سميرة الخليل ورزان زيتونة ووائل مادة وناظم حمادي، وهم ناشطون سياسيون وحقوقيون معروفون في سورية. واشتهرت داعش بجرائمها المروعة، ومنها قتل 700 شخص من عشيرة الشعيطات التي قاومتها في منطقة دير الزور في تموز، وهي مستمرة في اختطاف وتغييب ناشطين معروفين في الرقة مثل عبدالله الخليل وفراس الحاج صالح وابراهيم الغازي والأب باولو دالوليو والدكتور اسماعيل الحامض.
هذا يعطي فكرة عن الوضع البالغ القسوة للسوريين الذين يسقط العشرات منهم كل يوم على يد قوات النظام الأسدي. إن مجموعات سلفية، ظهرت على خلفية كفاح السوريين التحرري، تواجههم على طريقة النظام. السمة الجامعة لهذه المجموعات التي ظهرت بعد شهور طويلة من الثورة، وبعد شهور حتى من ظهور المقاومة المسلحة، أنها تمارس العنف ضد المجتمع بذريعة مواجهة النظام، مثلما ثابر النظام نفسه على ممارسة العنف ضد المجتمع بذريعة مواجهة إسرائيل.
شهدت الثورة السورية إعادة هيكلة واسعة للمشهد الإسلامي، تمثلت في تصدر السلفيين المشهد على حساب الإخوان المسلمين، وهذا بالتوازي مع العنف الدراكولي الذي تعرض له المجتمع السوري. للسلفيين، عقيدة ونموذجا جهاديا مهيمنا، "ميزة طبيعية" في بيئات العنف على الإخوان الذين يعرضون ميلا سياسيا أقوى. وعلاقتهم، السلفيون، بالعنف بنيوية مثل علاقة الدولة الأسدية، وتظهر تشكيلاتهم المحاربة في شروط العنف المعمم وانهيار الدولة والمجتمع، ولهم في ذلك نظرية يسمونها "إدارة التوحش" (مضمنة في كراس لمؤلف مجهول: أبو بكر ناجي). في الحالين العنف ليس سياسة محتملة أو مسلكا اضطراريا، إنه صلب السياسة ذاتها والخيار الأول. النضال السلمي من وجهة نظر السلفيين الجهادية ليس مسلكا غير ناجع، بل هو خطأ في العقيدة.
يستند كلا تياري الإسلاميين إلى فاعلية احتجاجية قوية، أخذت تميز تعبيرات الإسلام السياسي والعسكرية منذ سبعينات القرن العشرين. قبل أربعة عقود جنح العالم العربي بمجمله نحو الطغيان الحكومي والجمود السياسي، مع صعود البترول ودوله، والإخفاق في مناصرة كفاح الفلسطينيين الذين احتلت إسرائيل وطنهم وشردتهم من أرضهم من أجل تقرير المصير والدولة المستقلة. وخلال هذه العقود كانت التيارات الفكرية والإيديولوجية التي صعدت منذ سنوات الاستقلال التالي للحرب العالمية الثانية، وقبلها في الواقع، تتآكل أما عبر السلطة والإفساد المنظم (حزب البعث في سورية والعراق، جبهة التحرر في الجزائر، الحزب الدستوري في تونس) أو عبر السجون والقمع.
وطوال هذه العقود، وفر "الإسلام" كلاما مستقلا عن السلطة ولا تستطيع التحكم به: النص الديني، وتجمعات طوعية ومستقلة بدورها لا تستطيع السلطة فضها: تجمع المصلين في المساجد. هذا جعل منه حد الفقر السياسي في بلدان مثل سورية ومصر وتونس وليبيا وغيرها. وهو ما ينطبق بطرق مشابهة على أديان وعقائد أخرى.
ومنذ بداية الثورات ظهر التدين الإسلامي كقوة احتجاج فعالة، مستقلة حتى عن الإسلاميين، وإن يكن هؤلاء مؤهلون للاستفادة منها أكثر من غيرهم. كان ضرب من الإسلام الشعبي سندا للحركة الاحتجاجية السوررية منذ البداية، بتعايش واسع مع شعارات ديمقراطية وتحررية. لدى المجموعات الديمقراطية واليسارية طاقة احتجاجية نشطة أيضا، لكنها أضيق نطاقا وأقل تكيفا مع بيئة العنف. طاقة الإسلاميين الاحتجاجية قوية التكيف مع شروط العنف، لكن شرط تكيفها المتواتر هو خسارة المضمون التحرري للاحتجاج. خارج الموقف الاحتجاجي، في إطار البناء السياسي سوءا في السلطة أو في مناطق يهيمن عليها إسلاميون، تذوب الطاقة الاحتجاجية ويظهر ميل تسلطي قوي، فاشي عند السلفيين.
هذا بكل بساطة لأن مثال الإسلاميين لا يتوفر على أسس إيجابية لبناء الحياة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية في مجتمعات قائمة على التنوع، حاجاتها أيضا متنوعة وكبيرة. يقولون إن الإسلام لديه كل الإجابات، لكن هذا كلام تعسفي لا يمكن الدفاع عنه. ومحصلته الفعلية أن السلطة يجب أن تكون خالصة لهم.
وليس غير العنف أيضا حل للتناقض بين المحركات التحررية للاحتجاج وبين النموذج السياسي التسلطي الذي يسعون إليه. يبرر الإسلاميون سلطتهم بمقاومتهم لنظم طغموية فاسدة، لكنهم عنيفون في مواجهة المجتمعات التي يتحكمون بها. ويمكن للشريعة، وهي الإيديولوجية التي يسوغون بها سلطتهم، أن تكون كاتالوغا لتشغيل آلة سلطة تطحن البشر، ولأشكال متطرفة من الهندسة الاجتماعية والديمغرافية. وتهمة الكفر التي قتلت جبهة النصرة الشابين الفلسطينيين بسببها ناجعة جدا كذريعة شرعية لتحصين للسلطة المطلقة، مثلما هي تهمة الخيانة عند النظام الأسدي.
هذا ظاهر اليوم وأخذ يواجه بمقاومات أكبر. قبل أسابيع خرجت مظاهرة نسائية في بلدة الرامي في إدلب احتجاجا على جبهة النصرة. وتكاد تخلو مساجد الرقة من المصلين يوم الجمعة بعد أن كانت تمتلئ أيام الحكم الأسدي. وواجه جيش الإسلام في الغوطة مظاهرات للجياع، وجرى الاستيلاء ما في مستودعات أغذية يخزن فيها تجار مرتبطون بهذا التشكيل السلفي من مواد غذائية. وتنال حملة شاركتُ في إطلاقها للتضامن مع المخطوفين الأربعة في دوما، والضغط على الجناة، تعاطفا متسعا في الغوطة، وازدراء متزايدا لهذا التشكيل وقياداته العسكرية والدينية على حد سواء.
يريد السكان امتلاك السياسة من جديد، أي الكلام والتجمع والاحتجاج. الكلام الديني تتراجع ملاءمته لأنه عقيدة السلطة التي تتوسله بالأحرى لإخراس الناس أو سلبهم القدرة على الاعتراض. والتجمع للصلاة في المسجد لا يحوز قوة احتجاجية على السلطة حين تكون السلطة دينية متشددة مثل داعش. يجري التعبير عن الاحتجاج هنا بالبقاء في البيوت، وتجنب المساجد. البقاء في البيت يصير فعلا سياسيا، فعل مقاومة. انتشار اسم داعش ذاته ينطوي على فعل مقاومة، إن عبر تضميناته الهجائية القوية، أو عبر حرمانه لداعش من الصفة الإسلامية التي تحب نسبتها إلى نفسها، على ما لاحظت بترا ستينن مؤخرا.
في الوقت نفسه يطور الناس كلاما جديدا وأشكال تجمع جديدة. في مظاهرة الرامي النسوية ضد جبهة النصرة استصلحت النساء بعض شعارات بداية الثورة الي كانت موجهة ضد النظام: بدنا المعتقلين! بدنا المعتقلين! وأطلقن شعارا موجها مباشرة لجبهة النصرة: ما بدنا ملثمين/ سرقوا مال المعتقلين! مع إعلان المتظاهرات العزم على امتلاك بلدتهن: هي لينا، هي لينا/ والرامي رح تبقى لينا! استخدمن أيضا خطابا دينيا يحتج على الظلم: لا إله إلا الله/ والظالم عدو الله! والصفة النسوية للتجمع جهد لتفادي القمع بالسلاح على ما يمكن أن تفعل جبهة النصرة بسهولة في مواجهة تجمع رجالي أو من الجنسين.
الغرافيتي على الجدران، والاعتصامات الاحتجاجية، وتسريب الأخبار والصور، وكتابة المقالات، أنشطة مقاومة لا تتوقف، وإن لم تشكل بعد تيارا قويا متماسكا.
ولا يبدو أن لدى المتسلطين الإسلاميين ما يواجهون به هذه المقاومات غير العنف. في جرائمها المشهدية، داعش لا تعاقب أعداء مفترضين، بل توجه رسالة ترويع إلى السكان في مناطق سلطتها. وتقتل جبهة النصرة شبان في مخيم اليرموك لفرض سلطانها. ويغتال سلفيو الغوطة ناشطين سياسيين لترهيب الخصوم المباشرين وترويع السكان. وفوق ذلك تقوم هذه التشكيلات بامتلاك الإسلام ذاته، وتعريفه بطريقة تجرد عموم السكان من دينهم وتسهل تكفيرهم، على نحو ما تُعرف الدولة الأسدية الوطنية بصورة تجعل عموم السوريين مشكوكا في وطنيتهم.
وإنما لهذا أقول إن "الصحوة الإسلامية" التي عمرها يقارب 40 عاما وصلت إلى حدها، وانقلبت إلى عنف مضاد للمجتمع، وصارت الصحوة من الصحوة تحديا كبيرا يواجه السوريين في صراعهم الشاق.
والواقع أنه ليس جديدا الاعتراض على الإسلاميين في سورية (وفي العالم العربي). لكنه قلما حاز مضمونا تحرريا، وقلما انحاز إلى العامة. النقد الشائع كان نخبويا أو ماهويا، أو حتى طائفيا، ترك قضايا العدال والحرية والكرامة الإنسانية خارجه، أو واجه نظام الإسلاميين العقدي بنظام فكري بديل جاهز هو الشيوعية الستالينية يوما، أو اليوم "الحداثة"، وهي إيديولوجية موجهة نحو حجب المنابع السياسية والاجتماعية للأوضاع القائمة. يبدو غياب النقد التحرري للإسلام والإسلاميين أمرا مستغربا، لكنه الواقع فعلا. المواجهة التحررية للإسلاميين، التي تنحاز لعموم السكان، وتدافع عن حقهم في امتلاك السياسية، وفي امتلاك دينهم وحقهم فيه أيضا، تدافع أيضا عن حرية الناس الملموسين، هذا التيار غير موجود، وهو بدوره تحدي اليوم في سورية وغيرها.