هل تتحقق نبوءة ماركس للرأسمالية؟

محمود يوسف بكير
الحوار المتمدن - العدد: 4660 - 2014 / 12 / 12 - 21:54
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

تنبأ كارل ماركس بأن النظام الرأسمالي سوف يمر حتماً مراحل ثلاث أسماها قوانين هي:

ـ تزايد التراكم الرأسمالي نتيجة ما أسماه بفائض القيمة الذي يحصل عليه الرأسمالي من أي عملية انتاجية، ومن باب التبسيط فإن فائض القيمة يمكن اعتباره الربح الذي يحصل عليه الرأسمالي نتيجة مساهمته في العملية الإنتاجية بالرأسمال النقدي والمادي (المواد الخام والمعدات)
والمشكلة هنا هي المبالغة الشديدة الحاصلة في النظام الرأسمالي وتحديد نسبة الربح التي يحصل عليها الرأسمالي وعدم وجود معايير واضحة لما يحصل عليه من ربح مقابل ما يحصل عليه العامل من أجر مقابل جهده. فالعامل ذو المهارات العادية لا يحصل عادة على أجر يكفي متطلباته ومتطلبات أسرته المتعددة والمتنوعة وعادة ما يكتفي بالقليل والرخيص سواء في المسكن أو المأكل أو التعليم أو الصحة ... الخ والأسوأ من هذا ما لاحظه ماركس من أن الرأسمالي يستغل فائض القيمة هذا في التوسع في استخدام الآلات والمعدات وإحلالها مكان العامل. ولذلك يعاني النظام الرأسمالي المعاصر من مشكلة خطيرة ومتفاقمة ألا وهي ارتفاع نسبة البطالة واتساع فجوة الدخل بين أصحاب الأعمال والخبرات العالية وبين طبقة العمال والموظفين ذوي القدرات العادية وهم الأغلبية في أي مجتمع.

ويمكن القول هنا بأن ما توقعه ماركس منذ أكثر من 125 عاماً يحدث اليوم.

ـ أما القانون الثاني أو المرحلة الثانية من تطور الرأسمالية بحسب ماركس فهي تزايد تركز الثروة أو رأس المال بين مجموعة قليلة من الرأسماليين بمعدلات أكبر بكثير من زيادة دخول العمال. والمتابع للإحصاءات السنوية التي تصدرها مجلة فوربس عن أكبر أغنياء العالم يرى كيف زادت ثروة الأمير الوليد بن طلال بن عبد العزيز على سبيل المثال بمقدار 500 مليون دولار في عام واحد لتصل الى حوالي 22 بليون دولار. أما ثروة بيل جيتس أغنى أغنياء العالم فقد وصلت الى 82 بليون دولار. هذا في الوقت الذي يعيش فيه حوالي 40% من سكان مصر تحت خط الفقر العالمي وهو 2 دولار يوميا.

- ويأتي القانون الثالث لماركس كنتيجة طبيعية للقانون السابق هو زيادة بؤس طبقة العمال بشكل مضطرد.
والواقع يشهد بصحة هذا القانون أيضاَ حيث تتزايد الضغوط الشعبية في العديد من دول العالم على الحكومات مطالبة بالإصلاح والعدالة الاقتصادية في توزيع ثروات البلاد وهذا الفقر والبؤس ايضا هو ما أدى الى اندلاع ثورات الربيع العربي.

نعم الرأسمالية نجحت نجاحاَ باهراَ في ثراء العالم ونموه وتقدمه ولكن ثمرات هذا النمو والتقدم لا توزع بشكل عادل ولذلك تنبأ ماركس بأن يثور العمال في جميع أنحاء العالم ضد هذا الظلم والاستغلال الذي يتعرضون له في ظل النظام الرأسمالي وأكد أن هذه الثورة حتمية نتيجة الصراع والفوارق الشاسعة بين الطبقات الاجتماعية غير المتجانسة في المجتمعات الرأسمالية.

وهو يرى هذه الثورة سوف تؤدي إلى سيطرة العمال على كل وسائل الانتاج ويرى أن كل المجتمعات سوف تمر بمرحلة الاشتراكية قبل ان تسود الشيوعية الكاملة حيث يمتلك المجتمع كل وسائل الانتاج وليس الأفراد كما هو الحال في النظام الرأسمالي وتنتهي الفوارق بين الطبقات.

وهنا يمكنك الاتفاق مع كثير مما تنبأ به ماركس ولكن سيادة وانتصار الشيوعية على النحو الذي توقعه ربما يحمل الكثير من المبالغة وعدم الواقعية ويتناقض مع طبيعة اٌلإنسان التي يغلب عليها الأنانية والطموح والطمع والرغبة في التميز عن الآخر، وبمعنى آخر فإن القوانين أو المقدمات الأساسية التي بنى عليها ماركس كل توقعاته التاريخية لمسيرة البشر صحيحة كما نعتقد ولكن النتائج التي استنبطها من هذه المقدمات ثبت تاريخياَ أو على الأقل حتى الآن انها غير صحيحة لأنه أفترض أن أغلب البشر ذوي طبيعة ملائكية، بمعنى طبقة العمال تختلف في طبيعتها البشرية عن طبقة الرأسماليين و أن الخير سيأتي لا محالة عندما يسيطرون على أدوات الإنتاج.
ونحن نرى أن الانسان سيئ التكوين بطبعه ولن يكف عن الطمع واستغلال بعضه البعض عندما تتاح له الفرصة.

ولإثبات أن هذه النتائج غير صحيحة يلزم أن نعود الى الوراء قليلاَ وبالتحديد إلى عام 1917 حين انتصرت الثورة البلشفية بقيادة لينين في روسيا وقد أعقب هذا الانتصار نوبة من المد الشيوعي في أوروبا فيما بين الحرب العالمية الأولى والثانية. ولكن التوسع الحقيقي للشيوعية جاء بعد انتصار ستالين على هتلر في الحرب العالمية الثانية ونجاحه الباهر في إخضاع معظم بلدان وسط وشرق أوروبا للاتحاد السوفيتي وتكوين حزب وارسو.

وتواكب مع هذا التطور في اوروبا تطور مماثل في أنحاء متفرقة في أسيا بعد نجاح الحزب الشيوعي بقيادة ماوتسي تونج في السيطرة على الصين حيث امتد نفوذ الشيوعية الى فيتنام وكوريا الشمالية ولاوس وكمبوديا.

وساهم في هذا النجاح الكبير للشيوعية الأفكار الإنسانية النبيلة لماركس وإنجلز والانتصار الضخم لستالين على هتلر وسيطرته على جزء كبير من المانيا نفسها.

ولكن سرعان ما تحولت هذه النظم الشيوعية الى ديكتاتوريات مستبدة وذات نظم اقتصادية فاشلة تتسم بعدم الكفاءة والفساد وانتهى الأمر بتفكك الاتحاد السوفيتي وانهيار حلف وارسو بشكل سريع وغير متوقع.

ومع بداية القرن الواحد والعشرين تحولت الصين من نظام شيوعي بحت إلى نظام رأسمالية الدولة وليس الأفراد ونفس التحول يجري الآن في الدول الشيوعية الآخرى مثل فيتنام وكوبا ولم يبقى من النظام الشيوعي سوى الذكريات والأحلام الوردية القديمة بعالم تسوده المساواة والعدل.

وقد دفعت هذه التطورات الكثير من الأكاديميين والباحثين في الغرب الى القول بأن المذهب الشيوعي قد مات بالسكتة القلبية ولن يبعث من جديد وقد صدرت دراسات وكتباً قيمة بالإنجليزية في هذا الشأن منها كتاب "لماذا يتحقق النصر للغرب حتى الآن" Why the west win for now” “للأستاذ إيان موريس وكتاب "نهاية التاريخ" للأستاذ فرانسيس فوكوياما.
والأخير يتحدث عن أن البشرية قد مرت بالفعل بكل أشكال الحكم والنظم السياسية عبر مسيرتها وحضاراتها المختلفة وجميعها تشابهت في مرورها بمراحل محددة كما أوضح الأستاذ أرنولد توينبي في موسوعته الشهيرة عن نمو وانهيار الحضارات، حيث تبدأ بالنمو والازدهار والتوسع وتنتهي بالوقوع في أخطاء قاتلة لم يكن يتم التعامل معها بنوع من العقلانية أو حتى الاعتراف بها وكان الحل الشائع هو تجاهل هذه المشاكل عسى أن يتم حلها بشكل ما أو أن يأتي الحل من السماء ولكن المشاكل كانت تتفاقم وتنتهي بتحلل هذه الحضارات وانهيارها.

ولكن فوكوياما – و ربما تأثر في هذا بما رآه توينبي في أواخر أيامه - يرى ان الحضارة الغربية لن تنهار بسهولة لأنها تقوم على مبادئ لم تشهدها البشرية عبر مسيرتها بمثل هذا الوضوح والقوة وهى الديمقراطية والعقلانية والحرية بكل أشكالها من حرية الرأي والفكر والاعتقاد إلى الاقتصاد الحر .

وباختصار شديد فإن فوكوياما رأى ان النظام الديمقراطي الليبرالي هو المحطة الأخيرة في مسيرة بحث البشرية عن النظام الأمثل للحكم وان كل النظم السياسة في العالم سوف تطبق حتماَ سواء عاجلاَ أو آجلاَ النظام الديمقراطي الليبرالي (الرأسمالية)

ولكن فوكوياما عدل عن بعض من هذه الأفكار لاحقاَ ورأى ان نظام الحكومة الصغيرة والحرية الاقتصادية المطلقة التي نادى بها الاقتصادي الامريكي الشهير والحاصل على جائزة نوبل في السياسات النقدية ملتون فريدمان والذي تأثر به كثيرا الرئيس ريجان.
حيث تبين له أن آليات الاقتصاد الحر لا يمكنها وحدها التعامل مع مشاكل الانكماش والركود الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة بمعدلات كبيرة، حيث تبين له ان التدخل الحكومي في وقت الأزمات الاقتصادية الحادة مطلوب وهو ما نادى به من قبل الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون ماينورد كينز.

وقد ثبت أهمية هذا التدخل الحكومي بشكل جلي خلال الأزمة المالية العالمية عام 2008 والتي اعقبت انهيار مجموعة ليمان براذرز الأمريكية وقد سبق أن كتبنا عدة مقالات في هذا الشأن بينا فيها أبعاد ما حدث إبان هذه الأزمة.

وهناك الآن مشكلة خطيرة تواجه كل الاقتصاديات الرأسمالية الحرة وهي اتساع هوة الدخل بين الأغنياء والفقراء بمعدلات غير مسبوقة وهذا يثبت صحة أحد قوانين ماركس الشهيرة التي أشرنا إليها أعلاه. وهي مشكلة تهدد الاستقرار السياسي والبنيان الاجتماعي لأي دولة. ولكن من ناحية أخرى فإن الغرب غير غافل عن المشكلة وهناك مساع حثيثة في الغرب لتضييق هذه الفجوة من خلال برامج عديدة للتمكين الاقتصادي وإعادة توزيع الدخل من خلال نظم الضرائب التصاعدية وبرامج التأمين الصحي ودعم التعليم والإعانات الاجتماعية وإعانات البطالة وغيرها.
ولهذا فإن النظام الرأسمالي لا يتوقع له أن ينهار بسهولة كما توقع توينبي.

ولكن بالرغم من كل هذا لازالت المشكلة كبيرة خاصة وأن هناك دراسات اقتصادية سبق أن أشرنا إليها في مقالات سابقة ترى أن برامج إعادة توزيع الدخل تؤثر بشكل سلبي على النمو الاقتصادي ولكننا خلصنا في بحثنا أن هذا الادعاء غير دقيق بشرط اتباع سياسات اصلاحية معتدلة ومتدرجة وهو ما يؤدي إلى تعزيز معدلات النمو الاقتصادي.

وخلاصة هذا الجزء من بحثنا هو أن الصراع بين الشيوعية والرأسمالية لم يحسم بعد وأن التاريخ لم ولن ينتهي طالما أن الإنسان هو صانعه وهو المتحكم في حركته وهذا الإنسان ما هو إلا مخلوق يتسم بالطمع والأنانية والرغبة في الاستحواذ على أكبر قدر من المنافع بأقل جهد ممكن وهذا هو أول درس تعلمناه في دراسة الاقتصاد في الغرب.

ولكن أين هو العالم العربي من كل هذا؟ هذا هو حديثنا القادم بمشيئة الله.

محمود يوسف بكير
مستشار اقتصادي مصري