فهد العسكر والاستثناء الذي يصنع القاعدة


سعود قبيلات
الحوار المتمدن - العدد: 4653 - 2014 / 12 / 5 - 08:30
المحور: مواضيع وابحاث سياسية     

في كلّ المجتمعات، وفي مفاصل تاريخيَّة خاصَّة، تظهر شخصيَّات إبداعيَّة «إشكاليَّة» (إذا جاز لنا أنْ نستخدم هذا المصطلح الرديء)، فتبدو كما لو أنَّها تمثِّل نوعاً من الشذوذ عن القاعدة؛ حيث تطرح أفكاراً صادمة، في جرأتها وفي اختلافها، فتُحدِثُ هزَّةً جليَّةً في الواقع الراكد، كما أنَّ ممارساتها تكون، على الأغلب، من النوع الذي يتعارض بحدَّة مع ما تعارف عليه المجتمع من ممارسات رسخ في وجدانه ووعيه أنَّها هي وحدها الممارسات الطبيعيَّة الصحيحة والمقبولة. الأمر الذي كثيراً ما يقود فئات واسعة من المجتمع إلى رفض هذه الشخصيَّات «الشاذَّة»، ورفض أفكارها وممارساتها، وربَّما عزلها وإلحاق الأذى بها.
غير أنَّ هذه الصورة خادعة تماماً؛ فغالباً ما تكون هذه الشخصيَّات «الشاذَّة»، بإنتاجها الإبداعيّ والفكريّ الغريب، هي التعبير الأصدق والأعمق عن «قاعدةٍ» جديدة تتشكَّل في رحم الواقع القديم. ذلك أنَّ الإنسان المبدع، المرهف، والذكيّ، والمحبّ للمعرفة، والتوَّاق للحقّ والحقيقة، والمنتمي لمجتمعه وإنسانيَّته بعمق، يستشعر، قبل سواه وأكثر مِنْ سواه، أشواق وطموحات وانفعالات وتفاعلات الناس من حوله التي تنمو في داخلهم وتتفاعل مع واقعهم ومع همومهم ومطالبهم وتطلُّعاتهم، فيتمثّلها ويعكسها من خلال سلوكاته وإبداعاته.
وسرعان ما يصبح «الشذوذ» المرفوض والمقاوَم هو الوضع الطبيعيّ الذي ينضوي الجميع في إطاره لاحقاً. ولا تلبث الأجيال اللاحقة، مدفوعةً بتيَّارات التغيير الكاسحة التي تنتجها الضرورات التاريخيَّة، أن تُخرِج تلك الصورة القديمة الإشكاليَّة من تحت ركام اللعنات والتشويهات والافتراءات التي كانت قد استهدفتها لسببً وحيد، يبدو غير وجيه لهؤلاء، وهو أنَّها كانت قد سبقت زمانها بقليل (أو حتَّى بكثير).
وهكذا، لا تلبث أنْ تتشكَّل مفارقة شائعة جدّاً من مفارقات الزمان؛ إذ يتبيَّن أنَّ البذرة التي ظنَّ جيلٌ سابق أنَّه قد عزلها وجفَّف نسغها وحال دون نموّها، قد تغلَّبتْ على كلّ الظروف الصعبة التي واجهتها، وغيَّرت تركيبة التراب والمناخ المحيطين بها.. ليصبحا ملائمين لها، ثمَّ نمتْ وترعرعت، وأصبحتْ هي الأصل، بعدما نفتْ نقيضها. بل إنَّ جيل الأبناء والأحفاد الذي عمل الآباء والأجداد على تحصينه ضدَّها، كان هو الحاضن لها والراعي لنموَّها والعامل مِنْ أجل ازدهارها.
ولعدم إدراك هذه الحقيقة الجدليَّة العميقة، ثارت طوال القرن العشرين معارك فكريَّة حامية حول عناوين عديدة خاطئة من مثل: «الأصالة والمعاصرة»، على سبيل المثال. مِنْ دون أن يتمّ التوصُّل في نهاياتها إلى أيّ نتيجة فكريَّة تُذكر.
ومن الطبيعي أن لا يتمّ التوصُّل إلى مثل هذه النتيجة ما دام العنوان خاطئ والسؤال لا أساس له. فالأصالة لا توضع في مواجهة المعاصرة أو العكس؛ الأصالة معاصِرة بالضرورة، ولكلّ عصر أصالته التي لا يمكن نقلها إلى أيّ عصرٍ آخر إلا وفقدتْ جوهرها ومحتواها؛ ذلك أنَّ الأصالة تعني الانتماء الحقيقي والعميق للواقع الاجتماعي في تحوُّله وكما يعبِّر عنه قانون نفي النفي وقانون وحدة وصراع الأضداد؛ أي أنَّها الانتماء للواقع الاجتماعي الحقيقي في صورته المتحرِّكة بألوانها المتعدِّدة، وليس إلى صورة ساكنة وباللونين الأسود والأبيض، تمَّ التقاطها في لحظةٍ ما لتصوِّر مشهداً كان قائماً في تلك اللحظة. لم يكن قبلها ولن يكون بعدها. لذلك فإنَّها، في الحقيقة، صورة وهميَّة وخادعة. لأنَّها تمثِّل لحظة تمَّ اجتزاؤها من سياقها الزمني، وتثبيتها كنوع من التجريد الفقير والضحل.
وهكذا، فإنَّنا حين ننظر إلى تلك الصورة قد نشعر بأعمق مشاعر الحنين إلى اللحظة الموهومة المرتبطة بها، ولكنَّنا لن نستطيع بأيّ حالٍ من الأحوال أن نبعث الحياة في ثناياها ونجسِّد الوهم الذي تعبِّر عنه كواقع حيّ.
وكمثالٍ آخر على هذه الحالة، فإنَّ الفراشة التي تمَّ تجفيفها وتثبيتها بدبوس، تشبه، مِنْ نواحٍ عديدة، الفراشة الحقيقيَّة، وقد تبدو جميلة مثلها أيضاً، ولكنَّنا مهما فعلنا فإنَّنا لن نستطيع أن نجعل منها فراشةً حقيقيَّة.
أمَّا الذين يخلطون ما بين الأصالة والماضي، فإنَّهم يفصلون الأفكار عن الواقع الاجتماعيّ الاقتصاديّ الذي أنتجها، ويتركونها معلَّقةً في الفراغ، بحيث تصبح في أحسن الأحوال منتميةً إلى أفكارٍ أخرى مثلها، وفي نهاية السلسلة المتخيَّلة لانتساب الأفكار إلى الأفكار، نصل، كما هو متوقَّع، إلى فكرة بلا انتماء. أي أنَّ من يضعون الأصالة في مواجهة المعاصرة، ينتهي بهم الأمر إلى نفي فكرة الأصالة نفسها.
والآن أعتذر عن هذا الاستطراد الذي قد يبدو للوهلة الأولى أنَّه لا علاقة له بموضوعنا ولكنَّه في الواقع غير مقطوع الصلة به، وأعود إلى الحديث عن الشخصيَّات الإبداعيَّة «الإشكاليَّة»؛ فأقول بأنَّ الأمثلة على هذا النوع من الشخصيَّات كثيرة ومتنوِّعة، وتنتمي إلى شعوب مختلفة ومراحل زمنيَّة متفاوتة وظروف تاريخيَّة متباينة. ومع ذلك فثمَّة ما هو مشترك بينها؛ مثل «شذوذها» الخادع، ورفض المجتمع لها وعدم فهمه لحقيقتها في البداية، وظهورها في العادة في مراحل تاريخيَّة مفصليَّة لا تكون حياة المجتمع بعدها كما كانت قبلها.
من هذه النماذج الشاعر فهد العسكر، من الكويت، الذي عاش خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين، وتوفِّي عام 1951. وهو في تجربته وتمرُّده، يشبه، إلى حدٍّ كبير، «عرار» (مصطفى وهبيّ التلّ) شاعر الأردن المتمرِّد الذي عاش في الفترة نفسها تقريباً. وسأحاول في هذا المقال أن أتحدَّث عن فهد العسكر، ثمَّ، بعد ذلك، أجري نوعاً من المقارنة المكثَّفة بينه وبين عرار.

كُفِّي الملام
عندما كنت صغيراً، كنت أحبّ أغنية «شادي الخليج» «كُفِّي الملام وعلِّليني». ولم أكن أعرف، حينذاك، مَنْ هو كاتبها. وكنت أظنَّ أنَّها أغنية عاطفيَّة عاديَّة، وأنَّ خطابها موجَّه فقط إلى المرأة المعشوقة. مع أنَّني كنتُ أستغرب بعض التعابير الواردة فيها والتي تبدو غير مألوفة في قصائد الحب الشائعة.
كفِّي الملام وعلِّليني فالشكّ أودى باليـقينِ
وتناهبت كبدي الشجونِ فمَنْ مجيري مِنْ شجوني
وأمَـضَّني الداء العـياء فمَـنْ مغيثي مَنْ معيني
في ما بعد قرأتُ شيئاً عن فهد العسكر في كتابٍ ما أو مجلَّةٍ ما – لم أعد أذكر – فعرفتُ عندئذٍ أنَّ أغنية شادي الخليج «كُفِّي الملام» إنَّما هي عبارة عن أبيات قليلة منتقاة مِنْ قصيدة طويلة لفهد العسكر.
وبعد ذلك بسنوات، عثرتُ على كتابٍ قديمٍ وضعه عبد الله زكريّا الأنصاريّ وهو أحد أصدقاء «العسكر» المقربين، وواحد من القلة المتعلِّمة التي استمرّت بالتردُّد عليه في العزلة التي فُرِضَتْ عليه.
ومِنْ هذا الكتاب المنشور عام 1956، بوساطة «مطبعة نهضة مصر بالفجالة» في القاهرة، عرفتُ أنَّ أغنية شادي الخليج مأخوذة مِنْ قصيدة بعنوان «شهيق وزفير»، كان فهد العسكر قد نظمها عام 1946. حيث يخاطب في المقاطع الأولى منها أمِّه التي جاءت إليه، بعدما أقصته أسرته، وراحت ترجوه أن يرأف بحاله ويغيِّر سلوكه الغريب بالنسبة لمجتمعه، ويكفّ عن بثّ أفكاره التحرُّريَّة التي كان ذلك المجتمع يرفضها، لكي يتوقَّف الناس عن معاداته، ويتمكَّن من العودة إلى أسرته ويعيش بينها حياة عاديَّة مثل بقيَّة الناس. فيردُّ عليها، قائلاً:
أُمّاهُ قد غَلَبَ الأسى كُفّي الملامَ وعلّليني
اللَه يا أمّاهُ فيّ ترَفّقي لا تعذُليني
أرهَقتِ روحي بالعتابِ فأَمسِكيه أو ذَريني
أنا شاعرٌ أنا بائسٌ أنا مستهامٌ فاعذُريني
أنا مِن حنيني في جحيمٍ آهِ من حرّ الحنينِ
أنا تائه في غيهَبٍ شبحُ الردى فيه قريني
ضاقَت بيَ الدنيا دَعيني أندبُ الماضي دَعيني
وأنا السجينُ بعقرِ داري فاسمَعي شكوى السجينِ
بهزالِ جسمي باصفراري بالتجعّدِ بالغُضونِ
وكانت أمّه هي الشخص الوحيد مِنْ أفراد أسرته الذي لم يقطع صلته به، وقد زادها عطفاً عليه أنَّه في تلك الفترة أصيب بمرضٍ في عيونه وما لبث أن فقد بصره.
ولم يكن فهد العسكر قد فعل شيئاً يستحقّ عليه أنْ يتمّ الدفع به إلى هذا المصير البائس؛ فكلّ ما فعله هو أنَّه حاول طرح بعض الأفكار التحرُّريَّة والتنويريَّة متوخِّياً بها النهوض بمجتمعه؛ لكنّ وقع أفكاره تلك على حياة مجتمعه الراكدة كان كوقع الصاعقة، فما كان من ذلك المجتمع إلا أن تحفَّز وتوثَّب للدفاع عن سكينته وطمأنينته الخادعة، وحاول بشتَّى الطرق أن يثني هذا العضو النافر عن سلوكه وأفكاره الخارجة على المألوف.
على أيَّة حال، رغم المعاناة الشديدة، ورغم الخسارات الكثيرة، والعسف، ومرارة العزلة، إلا أنَّ فهد العسكر لم يتراجع عن مواقفه، بل بقي متمسِّكاً بها حتَّى النهاية. ولم يكفّ الأذى، كذلك، عن اللحاق به.. حتَّى بعد وفاته؛ حيث قام بعض أفراد أسرته بحرق أشعاره وجميع أوراقه الخاصَّة ولم يبق مِنْ هذه وتلك إلا ما كان موزَّعاً بين أصدقائه، ومن ضمن ذلك ما احتواه كتاب عبد الله زكريّا الأنصاريّ مِنْ قصائد الشاعر. ومِنْ هذا الكتاب نفسه، نخرجُ ببعض المعلومات التي تضيء بعض جوانب حياة فهد العسكر وشخصيَّته وأسباب محنته، فنوجزها على النحو التالي:
1. نشأ فهد العسكر في عائلة محافظة، وتعلَّم في مدارس الكويت، وفق أسلوب التعليم القديم الأشبه بأسلوب الكتاتيب، وكان شديد الشغف بتعلُّم اللغة العربيَّة وقواعدها، وقراءة الشعر والأدب؛ قديمه وحديثه.
2. كان في بداية حياته متديِّناً، شديد التعصُّب، يؤدِّي فروضه الدينيَّة على أتمِّ وجه. وبحسب الأنصاريّ، كانت بداية التحوُّل في مساره الفكريّ وفي سلوكه وحياته، هي عندما «رغب في قراءة الكتب الحديثة ذات النـزعة التحريريَّة، وبدأ ينظم الشعر الذي صوَّر فيه في بادئ الأمر تديُّنه ونسكه الموروث، ثمَّ ذصور تحرُّره الفكريّ، وانطلاق ذهنه». ويضيف الأنصاريّ، قائلاً، إنَّ شعر فهد العسكر، قد أخذ بعد ذلك «يتطوَّر بتطوُّره الفكري، فتضمَّن بعض آرائه في الدين والحياة بحريَّة وانطلاق فكري عجيب».
3. بعد ذلك، كما يقول الأنصاريّ: «رماه الناس بالكفر والجحود، وملَّه أهله واعتزلوه، وأصبح يعيش في وحدة تامَّة، مع خياله حيناً، ومع كتبه حيناً آخر.. وأصبحت حياته سلسلة من الآلام والأحزان انعكست على شعره، وهرب من ضيق الحياة إلى الراح، فصار يحتسيها وينفِّس بها عن أحزانه وآلامه وهمومه».
4. ويبدو أنَّ بعض الأدباء والمتعلِّمين الكويتيّين، ومِنْ ضمنهم الأنصاريّ نفسه، استمرّوا في التردّد على الشاعر بعد نبذه وعزله، وكانوا يطلعونه على كتاباتهم، ويطلبون رأيه فيها، ويستفيدون بنصائحه. وقد حفظ بعضهم بعض قصائد الشاعر، أو دوَّنوها واحتفظوا بما دوَّنوه، وهذه القصائد هي ما سلم من المحرقة التي أتت على كلّ أوراقه بعد وفاته.
5. أصيب الشاعر، قبل وفاته بمدَّة، بمرضٍ في عينيه. ولم يكن في الكويت أطبّاء عيون آنذاك، كما لم يكن لدى الشاعر ما يكفي من المال ليستطيع بوساطته أن يرحل إلى بغداد ويعالج عينيه هناك، كما كان يأمل. وهكذا ظلَّ مرضه يتفاقم إلى أن أودى ببصره تماماً في نهاية المطاف.

مقارنة
كثيراً ما ذكَّرني فهد العسكر بـ«عرار»؛ وذلك لأوجه الشبه العديدة بين حياتيهما وظروفهما وبعض جوانب شخصيَّتيهما. وأودُّ، هنا، تلخيص أوجه الشبه، هذه، على النحو التالي:
1. كلاهما نشأ في مجتمعٍ كان يتعرَّض لمرحلة تحوُّلٍ هائلة. فقد كان المجتمع الكويتيّ، في الفترة التي عاشها فهد العسكر، في طريقه للانتقال من كونه مجتمع فقير يعتمد على الصيد البحريّ إلى مرحلة الثراء الواسع التي شهدها في ما بعد، والاعتماد على النفط كمصدر أوَّل للدخل بدلاً من الصيد البحريّ؛ ومن العزلة عن العالم إلى الاتِّصال به. وكان المجتمع الأردنيّ، خلال النصف الأوَّل من القرن العشرين، أي خلال الفترة التي عاشها عرار، يشهد قيام الدولة، ومرحلة الانتداب البريطانيّ، معاً.
2. كلاهما تمرَّد على الواقع السائد في بلاده، ووظَّف شعره لهذا الغرض، وكان جريئاً في تناوله لمختلف جوانب الواقع، مهما كانت حساسيَّتها، وتحمَّلا كلَّ التبعات التي ترتَّبت على ذلك.
3. كلاهما تطابقت حياته مع شعره، وتطابق سلوكه مع مبادئه.
4. كلاهما صدرت أشعاره في ديوان مطبوع بعد وفاته وليس في حياته، وإن كان معظم شعر العسكر التهمه الحريق.
5. أضطرَّ فهد العسكر لاعتزال مجتمعه، وكان عرار يلجأ إلى «النَّوَر» (الغجر، كما يُسمّون في بعض البلاد العربيَّة)، كنوع من الاحتجاج على واقع مجتمعه الراكد والمشوب بالزيف والخداع والظلم والاستغلال.
6. كلاهما أدمن الشراب وتغنَّى في قصائده بالكأس.
7. كلاهما كان يتمسَّك بالصدق كقيمة إنسانيَّة عليا، ويعلن ضيقه بالمظاهر الكاذبة من حوله، وازدرائه للتفاهة وضيق الأفق.

وفي ما يلي، شهقات وزفرات منتقاة مِنْ «شهيق وزفير» فهد العسكر:
وطَني وما أقسى الحياةَ بهِ على الحُرّ الأمين
وَأَلَذُّ بينَ رُبوعهِ من عيشتي كاسُ المنونِ
قد كنتَ فردوسَ الدخيل وجنّةَ النّذلِ الخؤون
لَهَفي على الأحرارِ فيك وهم بأعماقِ السجون
ودُموعُهُم مُهَج وأكبادٌ تَرَقرَقُ في العيونِ
ما راعَ مثلُ الليثِ يُؤسَرُ وابنُ آوى في العرينِ
والبُلبُلُ الغرّيدُ يهوي والغُرابُ على الغُصونِ
وطَني وأدتُ بكَ الشباب وكلَّ ما ملَكَت يَميني
وقَبَرتُ فيكَ مواهبي واستَنزَفَت غُللي شُؤوني
ودَفَنتُ شتّى الذكرياتِ بِغورِ خافِقيَ الطعينِ
(...)
وَرجعتُ صفرَ الكفِّ مُنطَوِياً على سرٍّ دَفينِ
فلأنتَ يا وَطني المدينُ وما هزارُكَ بالمدينِ
وَطَني وما ساءَت بِغَير بنيكَ يا وَطني ظُنوني
(...)
رقَصوا على نوحي وإعوالي واطرَبَهُم أنيني
وتَحامَلوا ظُلماً وعدواناً عليّ وأرهقوني
فعرفتهُم ونَبَذتُهُم لكنّهم لم يعرفوني
(...)
وأنا الأبيُّ النفسِ ذو الوجدانِ والشرفِ المصونِ
اللَهُ يشهدُ لي وما أنا بالذليلِ المستكينِ
لا درّ درهمُ فلَو حُزتُ النضارَ لأكرموني
أو بعتُ وجداني بأسواقِ النفاقِ لأكرموني
أو رحتُ أحرقُ في الدواوينِ البخورَ لأنصفوني
فعرفتُ ذنبي أنَّ كبشي ليسَ بالكبش السمين
يا قومُ كُفّوا.. دينُكُم لكمُ ولي يا قَومُ ديني
ليلايَ يا حُلمَ الفؤادِ الحلوَ يا دنيا الفُنونِ
يا ربَّةَ الشرفِ الرفيعِ البكرِ والخُلُقِ الرصينِ
يا خمرةَ القلبِ الشجي وحجّةَ العقلِ الرزينِ
صُنتُ العهودَ ولَم أحِد عنها فيا ليلايَ صوني
عودي لقَيسِك بالهوى العُذريِّ بالقلبِ الرهينِ
عودي إليه وشاطريهِ الحبَّ بالدمعِ السخينِ
عودي إليه واسمعي نجواهُ في ظلّ السكون
فهو الذي لهواكِ ضحّى بالرخيصِ وبالثمينِ
ليلى تعالَي زوّديني قبلَ المماتِ ووَدّعيني
ليلايَ لا تتمَنّعي رُحماكِ بي لا تخذُليني
ليلى تعالَي واسمعي وحيَ الضميرِ وحدّثيني
ودعي العتابَ إذا التقَينا أو فَفي رفقٍ ولينِ
لم لا وَعُمرُ فتاكِ أطوَلُ منهُ عُمرُ الياسَمينِ
لِلَهِ آلامي وأوصابي إذا لم تُسعِفيني
هيمانَ كالمجنونِ أخبِطُ في الظلامِ فأخرجيني
مُتَعَثِّراً نهبَ الوساوِسِ والمخاوِفِ والظنونِ
حَفَّت بيَ الأشباحُ صارخةً بربِّكِ أنقِذيني
واشفي غليلي وابعثي ميتَ اليَقينِ ودَلّليني
ليلى إذا حُمَّ الرحيلُ وغَصَّ قَيسُكِ بالأنينِ
ورَأيتِ أحلامَ الصَبا والحُبّ صرعى في جُفوني
ولَفَظتُ روحي فاطبعي قُبَلَ الوداعِ على جَبيني
وإذا مشَوا بجنازَتي بِبَناتِ فكري شَيّعيني
وإذا دُفِنتُ فَبلّلي بالدمعِ قَبري واذكُريني

وفي قصيدةٍ أخرى، قال:
أوّاهُ من داءٍ قد استشرى وَجُرْحٍ في الصّميمْ
رَبّاهُ رِفقاً بالجديدِ ، فكمْ شكا جَوْرَ القديمْ
وطَغَتْ أبالِسةُ الجحِيمِ على ملائكةِ النعيم

وكما توقَّع هو، كان عُمرُهُ أقصر مِنْ عُمرِ الياسمين؛ إذ مات وهو في الرابعة والثلاثين، ولم يحضر دفنه ويصلِّي عليه سوى أربعة أشخاص، هم الإمام الشيخ عثمان العصفور وثلاثة يمنيين. وحتَّى صديقه عبد الله الأنصاريّ، الذي كتب عنه في ما بعد ذلك الكتاب الذي أشرنا إليه، لم يجرؤ على حضور جنازته. وقد نقل الأنصاريّ، في ما بعد، عن صديقه الشاعر الراحل، قوله له مراراً: لو كنتُ صاحب جاه أو مال فسيأتون لجنازتي بالطوابير، ولكنَّني لستُ كذلك، فلا أعتقد أنَّ أحداً سيحضر جنازتي، وأنتَ منهم يا عبد الله!
ونختم بما قاله الشاعر في إحدى قصائده:
يا قاتَلَ اللهُ التعصّبَ، كم تمخَّضّ عن جريمهْ
رابط أغنية شادي الخليج «كُفِّي الملام»، على يوتيوب:
http://www.youtube.com/watch?v=-rWbQ_H6oTA