مفهوم جديد للثورة الشعبية


خليل كلفت
الحوار المتمدن - العدد: 4651 - 2014 / 12 / 3 - 08:39
المحور: ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية     


تُركِّز كتاباتى الأخيرة على تمييز ضرورى مطلوب بين مفهوم الثورة الشعبية ومفهوم التحوُّل الاجتماعى-السياسى من نمط إنتاج اجتماعى إلى آخر. ذلك أن مفهوم التحوُّل الاجتماعى-السياسى يتعلق بعملية تراكمية طويلة بطيئة لعناصر مجتمع لاحق فى رحم مجتمع قائم؛ حيث لا تنطوى هذه العملية للتحوُّل التراكمى البطيء خطوة-خطوة بحكم طبيعتها على انفجارات وثورات شعبية، وعلى أساس أن مفهوم الثورة الشعبية يتعلق باحتجاج واسع النطاق فى الزمان والمكان ضد ظلم واستغلال واضطهاد واستبداد الطبقة الحاكمة ودولتها للطبقات الشعبية، ولهذا فإنه لا يمكن أن تنطوى الثورة الشعبية الاحتجاجية على أىّ انتقال من نمط اجتماعى-سياسى إلى آخر ولا على أىِّ خطوة فى هذا السبيل.
ويهدف إلحاحى على التمييز الدقيق بين "مفهومِى" عن عملية التحوُّل الاجتماعى-السياسى، التراكمية بطبيعتها، و"مفهومِى" عن عملية الثورة الشعبية، الانفجارية بطبيعتها، إلى تطوير فهمنا النظرى للتحوُّل الاجتماعى-السياسى، فى سبيل التوصل إلى نظرية متمفصلة، مترابطة الأجزاء، عن هذه الظاهرة اللا-انفجارية المختلفة تماما عن ظاهرة الثورة الشعبية الانفجارية بطبعها. ويتمثل الهدف العملى لهذا التمييز فى إيضاح الاختلاف التام بين الطبيعة "اللا-انفجارية" واللا-ثورية بالتالى لظاهرة التحوُّل الاجتماعى-السياسى التاريخى، والطبيعة "الانفجارية" للثورة الشعبية، والابتعاد عن تطبيق معايير ظاهرة التحوُّل الاجتماعى-السياسى على تحليل أحداث ظاهرة ثورية ظرفية احتجاجية "انفجارية"، تفجرت نتيجة أوضاع اقتصادية واجتماعية واضحة كالشمس يمكن إيجازها فى السيطرة الشاملة لمتلازمة الفقر على المجتمع والحياة. وتمثلت أهدافها الحقيقية فى تغيير هذه الأوضاع، وهى أهداف واضحة بدورها كالشمس. غير أن الأسئلة الملغزة التى طرحها المثقفون والثوار عن طبيعتها وأبعادها وآفاقها ومسقبلها حوَّلت ثورتنا إلى لغز كبير.
على أن تحليل الثورة الشعبية الظرفية يقف عند التحديد الدقيق لأسبابها ونتائجها الفعلية، حيث لا يُقاس نجاح أو فشل أىّ جانب من جوانب أو عنصر من عناصر الثورة الشعبية إلا بمعايير "قانون" الثورة الشعبية التى لا تؤدى بطبيعتها إلى إسقاط النظام بمعنى تغيير النظام الاجتماعى-الاقتصادى القائم، مهما حقق من تغييرات ثانوية مثل إسقاط رئيسٍ أو ملك أو إمپراطور أو حُكْم.
ورغم الاختلاف الجوهرى بين ظاهرة التحوُّل الاجتماعى-السياسى المسمى بالثورة الاجتماعية، وظاهرة الثورة الشعبية، صارت كلمة الثورة هى التسمية المعتمَدة للظاهرتين معًا، وهذه تسمية غير ملائمة لأنها تسمية بلفظة واحدة لظاهرتين مختلفتين تماما.
ويجمع ارتباط تراكمى طويل بين التحول الاجتماعى (المسمَّى بالثورة الاجتماعية) والتحوُّل السياسى (المسمَّى بالثورة السياسية)، باعتبار أولهما تحوُّلا اجتماعيا-اقتصاديا كبيرا فى المجتمع، بانتقاله من الإقطاع إلى الرأسمالية فى التاريخ الحديث والمعاصر، واعتبار ثانيهما تحوُّلا سياسيا كبيرا فى المجتمع يتمثل فى انتقال سلطة الدولة إلى الرأسمالية، ومع أن النظرية التقليدية للثورة تتحدث عن ثورتين منفصلتيْن إحداهما اجتماعية والأخرى سياسية.
ولا تُحْدِث الثورة الشعبية تحوّلا رأسماليا لأن الشروط البديهية للرأسمالية والمتمثلة فى نظام شامل من المصانع الحديثة والمزارع الرأسمالية والسوق العالمية والإدارة القائمة على الحداثة والعلمانية، لن تهبط من السماء، فهى بالأحرى إنجازات رأسمالية يحققها ما يسمَّى بالتراكم الرأسمالى البدائى الذى يتألف من عملية واحدة تراكمية ومترابطة ومتشابكة تندمج فيها كل هذه الجوانب. ولا يقتصر قانون الطابع التراكمى للتحوُّل الاجتماعى-السياسى على الانتقال إلى النظام الرأسمالى وحده بل هو قانون عام للتحوُّل الاجتماعى-السياسى التراكمى من كلِّ نظام اجتماعى سابق إلى كل نظام اجتماعى لاحق.
والتحوُّل الاجتماعى-الاقتصادى لا-انفجارى أىْ أنه تطوُّر لا-ثورىّ بحكم طبيعته حيث لا نشاهده من خلال المظاهرات والاعتصامات والمسيرات والمليونيات. وقد تحدث عنه ماركس فى كتابه "رأس المال" باعتباره "ما يسمَّى بالتراكم البدائى لرأس المال" أىْ التراكم الرأسمالى الصناعى والزراعى والتجارى السابق، ليس على ثورة شعبية مثل ثورة 1789 الشعبية الانفجارية، بل على قيام ورسوخ النظام الاجتماعى-الاقتصادى الرأسمالى. والحقيقة أن الثورة الفرنسية الشعبية العظمى أربكت كارل ماركس، فمع أنه هو مكتشف ومفسِّر قانون التحوُّل الاجتماعى-الاقتصادى-السياسى إلى الرأسمالية، توهَّم ماركس أنها ثورة اجتماعية وسياسية وشعبية فى وقت واحد، وليست مجرد ثورة شعبية، كما كانت بالفعل.
على أن من الممكن أن تتقاطع الثورة الشعبية الانفجارية مع مجرى نظام اجتماعى راسخ ومستقرّ فى إطار عهود العبودية (ثورة أثينا فى بداية القرن السادس قبل الميلاد، وثورة سپارتاكوس فى روما فى أواخر القرن الأول قبل الميلاد) أو الإقطاع (مثلا ثورة الأقباط الپشموريين فى مصر فى القرن التاسع الميلادى ضد الحكم العباسى وحرب الفلاحين فى ألمانيا فى القرن السادس عشر)، أو الرأسمالية فى مراحل نشأتها وصعودها (الحرب الأهلية فى بريطانيا بين 1664 و 1660 أو الثورات الفرنسية فى 1789 و 1830 و 1848 و 1871) أو فى إطار نظام اجتماعى رأسمالى تابع (مثلا ثورة 1919 الشعبية أو ثورة يناير 2011 الشعبية). وتَحْدُث هذه الثورات الشعبية الاحتجاجية أو الاستقلالية ضد استغلال واضطهاد النظام الرأسمالى والإمپريالى لجماهير الطبقات العاملة، غير أن نتائجها قد تحقق استقلالا دستوريا، ولكنها لا ترقى إلى مستوى إسقاط النظام الاجتماعى.
وفيما يتعلق بنجاح أو فشل الثورات الشعبية فإن ثورات الربيع العربى، وكل ثورات التاريخ الحديث والمعاصر، بل كل ثورات التاريخ، تعلِّمنا أنها تنطوى على منحة ومحنة فى نفس الوقت. وتتمثل المنحة فى مكاسب مهمة ولكنها جزئية مثل إسقاط رئيس أو ملك أو حُكْم أو مكاسب مهمة أخرى، وتتمثل المحنة فى أن تؤدى تطورات الثورة إلى حرب أهلية مدمرة ينتصر فيها النظام على الشعب الذى أراد إسقاطه.
ولا يعنى هذا أن الثورات الشعبية تُخطئ عندما تتفجر فلا أحد يمكن أن ينصح الجماهير الفقيرة المضطهدة بعدم الانفجار الثورى، بل يعنى فقط أن نجتهد فى فهمها بصورة موضوعية وعلمية بعيدا عن تصوراتنا الرومانسية عن الثورات.