ج1 ب1 : مدخل الباب الأول


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4647 - 2014 / 11 / 29 - 19:52
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

كتاب ( التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
الجزء الأول : ( التصوف والعقائد الدينية فى مصر المملوكية )
الباب الأول : مراحل العقيدة الدينية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى : مراحل العقيدة الصوفية وتطورها في مصر المملوكية من خلال الصراع السنى الصوفى
مدخل الباب الاول : ( تعقيب على أراء الباحثين فى عقائد التصوف)
أولا : فكرة سريعة عن أهم عقائد التصوف
1 ـ أهم عقائد التصوف هي " الاتحاد . والحلول ، ووحدة الوجود " .
2 ــ وقد عنى الباحثون في ( عقائد التصوف ) بتبيين أوجه الفرق بين تلك العقائد وأبرزهم في ذلك المجال العلامة ابن خلدون ، ويوحي حديثه عن العقائد الصوفية بأن الخلاف العقائدي بينهم يصل إلى درجة التباعد . وقد تأثر به أحمد أمين في عرضه لنفس الموضوع .
3 ــ والواقع أن الفارق " شكلي" بين العقائد الثلاثة ، فأصحاب الاتحاد يعتقدون أن الصوفي إذا حسُن حاله يصل " للفناء " في المعبود ويستغرق في حال ( المشاهدة ) و ( يتحقق بالحق ) أو يتحد بالله واجب الوجود .
وأصحاب " الحلول " يعتقدون أن الذات العلية تتجلى على الصوفي الفاني فى ربه فتنمحي في العبد صفة العبودية ويفنى في ربه متحداً فيه ، " وأصحاب الوحدة " يعتقدون أن الوجود " بما فيه من خالق ومخلوق " واحد لا تعدد فيه ، وأن المخلوقات هي صور يبدو فيها ( الله ) الحق واجب الوجود ، والصوفي هو الذي يصل إلى هذه الحقيقة التي لا يدركها المحجوبون من بقية البشر ، فإذا زال الحجاب عن قلب امرئ و رأى أن " الشاهد عين المشهود ".
4 ــ وقد يقال أن "عقيدة الاتحاد " لا تختلف في مقولتها عن "عقيدة الحلول" فالاتحاد صعود بالعبد إلى الله ليتحد به و "الحلول " نزول بالإلوهية إلى العبد ليحلّ فيه ، فالخلاف لفظي ، والمعنى هو تأليه البشر وإنعدام الفوارق بين ( الحق جل وعلا ) وبين الخلق .
5 ــ ويمكن القول أيضاً بأن الخلاف "كمي " بين عقيدتي "الاتحاد ووحدة الوجود" فأصحاب الاتحاد يرون للعالم وجودين : خالق ومخلوق ،ثم يتحد الصوفي العارف بالخالق ويحقق الفناء في واجب الوجود . ويقصرون الاتحاد بالخالق على العارفين أو الأولياء الصوفية الذين ( يتحققون بالق ) بزعمهم . هذا ، بينما يتوسع أصحاب الوحدة في هذه المقولة ويجعلونها حقا لكل البشر بل والحيوانات والأحياء منها والأموات بل والجمادات ، فهي كلها عندهم صور يتراءى فيها الخالق في خلقه .. فعقيدة الاتحاد جزء من عقيدة "وحدة الوجود " أو أن وحدة الوجود هي الهدف الأسمى للقائلين بالاتحاد، أو هي على حد قول بعضهم "الاتحاد المطلق" أي الذي يشمل الإنسان و الحيوان و الجماد.
ومعنى ذلك أن هناك درجات للعقيدة الصوفية تبدأ ( بالاتحاد والحلول ) وتنتهي( بوحدة الوجود ) أو (الاتحاد المطلق ) ، وذلك ما توضحه مسيرة التاريخ الصوفي في الدولة الإسلامية .
ثانيا : موجز المراحل التاريخية للعقيدة الصوفية :
1 ــ والأرضية التاريخية هي المسئولة عن ذلك التضارب المزعوم في عقائد التصوف ، فدارسوا التصوف بحثوا عقائده بمعزل عن الواقع التاريخي وما يستلزمه من تغيرات ومؤثرات ..
2 ــ وحتى نضع الأمور في نصابها فإن ( دين التصوف ) ، ظهر في مجتمع رافض له فواجه الكثير من العنت شأن المرتدين ، فقتل الحلاج لأنه أعلن عقيدته صراحة ، فاضطر الآخرون إلى نوع من المواءمة بين عقيدتين متعارضتين ( الإسلام والتصوف ) ، فوضعت للتوحيد درجات تبدأ ( بتوحيد العوام ) ، ويقصدون به الإسلام ، وتنتهي " بتوحيد الخاصة " أو " التوحيد المحض " ويعنون به وحدة الوجود .. وكان الجنيد " رأس الصوفية " مع " الغزالي " " حجة الصوفية " هما أبطال هذه المرحلة من مراحل التاريخ الديني للعقيدة الصوفية .
3 ــ ثم تقرر التصوف السنى دينا على يد الغزالي وتحول الإنكار من إنكار عام على التصوف كمبدأ ودين إلى إنكار على الصوفية المنحرفين فقط . وتهيأ الجو بذلك للمرحلة الثانية ، وفيها اكتملت العقيدة الأساسية للصوفية ( وحدة الوجود ) في مؤلفات ( ابن عربي) ( شيخ الصوفية الأكبر ) ، ووُوجه أتباع بن عربي بكثير من الإنكار وأحرقوا كتابه ( الفصوص ) أكثر من مرة ، ودمروا قبره مرات وأعيد بناؤه مرات ، ومع ذلك تزايد أتباعه وكثرت الشروح على الفصوص بمثل ما حظي به سابقه ( إحياء علوم الدين ) للغزالي ..
4 ــ وعرف العصر المملوكي تطلعاً صوفياً لبلوغ المرحلة الثالثة وهي التحلل اسماً وفعلاً من الإسلام على يد الصوفية الذين ادعوا النبوة أو الألوهية وطافوا البلاد دعاة لنحلتهم ، إلا أنهم ووجهوا بالاضطهاد والقتل ، فقد استقر في الأذهان أنه لا تعارض بين الإسلام والتصوف ، ولم يلق أولئك المتطرفون الصوفية تأييداً من أكثر الصوفية ، إذ أن التصوف قد حصل على أكثر مما يحلم به وهو يرتدي زي الإسلام ، وإذا خلع عنه هذا الزي فقد الكثير دون داع ، فقد اكتملت للتصوف في هذه الفترة تحويل الإسلام عقيدة ورسوماً إلى مظاهر صوفية بحتة ليس للإسلام فيها إلا مجرد الاسم والشكل ، وإذا ضاع الشكل الإسلامي الذي ينخدع به الكثيرون ضاع على التصوف مكاسب حققها في قرون وناضل في سبيلها أعيان الصوفية ، وكلهم لم يتحلل من الشكل الإسلامي للتصوف . بل وضع في إطاره ما يريده.
ثالثا :
1 ــ ونُنبّه هنا على أن مصطلح الفقه والفقهاء فى هذا العصر كان يدل على دين السنّة المتاُثر بالتصوف أو ما نسميه بالتصوف السّنى ، وكان أربابه هم ( الفقهاء ) السنيون المؤمنون بالتصوف والمسلّمون به ولكن ينكرون على متطرفى التصوف . وأن الصراع بين الفقهاء والصوفية هو صراع بين دينين أرضيين ، مع وجود ( التصوف السنى ) الذى يجمع بينهما لأن الشقاق أهم ما يُميّز الأديان الأرضية ، وإذا لم يجد الدين الأرضى ما يتصارع معه من الأديان الأرضية الأخرى فإنه يتجزّأ وينقسم ليستمر التصارع . فالصراع سمة اساس فى الأديان الأرضية لأنها أديان كهنوتية يسعى أربابها الى التكسب بها ويتصارعون فيما بينهم حول الثروة والسلطة وحُطام الدنيا . أما الاسلام الحق فهو مؤسس على التقوى وخشية الرحمن جل وعلا أملا فى الفوز يوم القيامة ، وليس فى الاسلام إحتراف دينى أو تكسب بالدين ، بل على العكس فيه التقرب الى الله جل وعلا بتقديم الزكاة المالية وإقراض الله جل وعلا قرضا حسنا ، والجهاد فى سبيل الله جل وعلا بالأموال والأنفس .
2 ـ ومن خلال الصراع السنى الصوفى نتتبع تطور فى عقائد التصوف، وخصوصا عقيدتهم فى وحدة الوجود الأشد كفرا والتى تناقض تماما عقيدة الاسلام ( لا إله إلا الله ) فتقول : لا موجود إلا الله . وهنا نعتمد على المصادر التاريخية المملوكية والمصادر الصوفية فى نفس العصر فى توضيح هذا الصراع بين دينى السنة والتصوف ، حيث يمثل الفقهاء دين السنة ويمثل الصوفية دين السنة .
وقد دار هذا الصراع ــ حسبما يظهر ــ تحت لافتة ( التصوف السنى ) . فالفقهاء السنيون ــ حتى الحنابلة منهم كابن تيمية والبقاعى ـــ كانوا يؤمنون بالتصوف ويؤمنون بكرامات الأولياء الصوفية ، بل ويؤمنون برواد التصوف وولايتهم ، كالجنيد والسرى السقطى ، منخدعين بما قاله أولئك الرواد من الالتزام بالكتاب والسّنة . وتركز إنكار أولئك الفقهاء والحنابلة منهم على صُرحاء الصوفية القائلين بوحدة الوجود مثل ابن عربى وابن الفارض .
ولم يفطن أولئك الحنابلة ( ابن تيمية ومدرسته فى القرن الثامن والبقاعى بعده فى القرن التاسع ) الى أن وحدة الوجود قال بها الرواد الأوائل للتصوف ، وأن الغزالى نثرها فى كتابه ( إحياء علوم الدين ) وخصص لها كتابه ( مشكاة الأنوار ) . ظل الغزالى بالنسبة لهؤلاء الفقهاء إماما للتصوف السنى ، و( حُجّة للإسلام ) ، وإقتصر إنكارهم على ابن عربى والصوفية التابعين له فى وقتهم . وإعتبروهم خارجين عن ( الاسلام ) الذى كان يعنى لهم ( الكتاب والسنة ) أو ( التصوف السنى ).
ولأن الفقهاء كانوا البادئين بالانكار فقام الصوفية برد الفعل ، فالعنوان الأفضل هو ( الصراع السنى الصوفى ) وليس ( الصراع الصوفى السنى ) ، ومن نافلة القول أن نذكر أن الفقهاء الحنابلة خسروا المعركة وتعرضوا للإضطهاد ، مع تسليمهم بالتصوف دينا ومبدءا ، لأن العصر كان عصر التصوف ، حتى إن حركات الحنابلة السنيين ( ابن تيمية / البقاعى ) أدت فى النهاية ليس الى تقويض التصوف بل تأكيد سلطانه ، وإنتشار عقيدته المتطرفة فى ( وحدة الوجود )
ونأتي للتفصيل :