التمهيد : بين الزهد والتصوف


أحمد صبحى منصور
الحوار المتمدن - العدد: 4642 - 2014 / 11 / 24 - 17:27
المحور: العلمانية، الدين السياسي ونقد الفكر الديني     

التمهيد لكتاب (التصوف والحياة الدينية فى مصر المملوكية )
التمهيد : لمحة عن التصوف تاريخاً
( بين الزهد والتصوف ـ بداية التصوف ـ انتشاره ـ سيطرته على العصر المملوكي)
بين الزهد والتصوف:
1 ــ اعتبر الكثيرون أن الزهد مرحلة انتقالية أدت إلى ظهور التصوف في القرن الثالث الهجري ومنهم ابن الجوزي الذي فرق بين الزهد والتصوف (.. إلا أن الصوفية انفردوا عن الزهاد بصفات وأحوال - .. والتصوف طريقة كان ابتداؤها الزهد الكلى )(33) و التفتازاني ـ الصوفي والباحث المعاصر - جعل للزهد مراحل ووصل بها إلى مرحلة اعتبرها بين الزهد والتصوف ، عد من روادها إبراهيم بن ادهم والفضيل بن عياض ورابعة العدوية ، ولم يعتبرهم صوفية بالمعنى الدقيق للتصوف الذي ظهر في القرن الثالث(34). 2 ــ ومع تمسكنا بوجود فروق أساسية بين الزهد والتصوف ، إلا أننا نعتقد في أن لكل من الزهد والتصوف عوامله الخاصة التي ساعدت على نشأته وتطوره منفردا عن الآخر.
3 ــ ودليلنا في استقلالية نشأة الزهد عن التصوف هو استمرار الزهاد. بمعزل عن الصوفية ، وقد عاب الغزالي علي زهاد عصره مغالاتهم في الصلاة والصوم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر احتسابا وتشديدهم في أعمال الجوارح (36)،وفى نفس الوقت الذي هاجم فيه الصوفية المعاصرين له بصفات تناقض ما اشتهر به الزهاد فرمى الصوفية المنكرين للفرائض بدعوى وصولهم. للحق واتحادهم به (37)، مما يدل على أن الفارق جوهري بين الطائفتين في المعتقدات والسلوك . فالزهاد يتشددون في الصلاة ، والصوفية ينكرونها لأنهم جزء من الله . وقد تميز عصر الغزالي بتقرير التصوف ، ولو كان الزهد حركة انتقالية أدت للتصوف لذاب الزهاد في الحركة الصوفية الجديدة المعترف بها ولأنتقلت حركة الزهد إلى متحف التاريخ عندما توطدت حركة التصوف ، وتاريخيا فقد استمر الزهد منفصلا عن تيار التصوف الآخذ في الانتشار . ومع تناقض الزهاد بمرور الزمن فقد ظل وجودهم قائما حتى بعد أن تمت للتصوف السيادة المطلقة في العصر العثماني، فالجبرتي مثلا يذكر زاهدا في القرن الثاني عشر الهجري هو الشيخ مصطفى العزيزي ت1154 ، وقال فيه ( كان ازهد أهل زمانه في الورع والتقشف في المأكل والملبس والتواضع وحسن الأخلاق ولا يرى لنفسه مقاما .. ولا يرضي للناس بتقبيل يده، ويكره ذلك ، فإذا تكامل حضور الجماعة وتحلقوا حضر من بيته ودخل إلى محل جلوسه بوسط الحلقة فلا يقوم لدخوله أحد.. وإذا تم الدرس قام في الحال ، وذهب إلي داره )(38) . وكان أغلب الزهاد في العصر المملوكي من العلماء الفقهاء الذين كانت لهم سمات تخالف الصفات الكلاسيكية للشيخ الصوفي.
ثم إن الزهد لم يلق في مولده ما لاقاه التصوف من إنكار مما يدل على اختلاف طبيعتهما إلى درجة لا يقبل معها أن يكون أحدهما حركة انتقالية للآخر، فقد بدأ التصوف بالشطح أو إعلان الكفر الصوفي مما أدى لاضطهاد رواد التصوف ، بينما حظي رواد الزهد بإعجاب العامة وعطف الخاصة حيث تركوا متاع الدنيا الذي تقاتل حوله الجميع . 4 ــ والصوفية الأوائل هم سبب الخلط بين التصوف والزهد، إذ أنهم في اندفاعهم لتقرير مذهبهم وحمايتهم من المجتمع الذي يضطهدهم جعلوا من أوائل الزهاد المسلمين روادا للتصوف ، مع أنه لم تحفظ عن أولئك الزهاد شطحات ، مثل الحسن البصري وسفيان الثوري وسعيد بن جبير، وأولئك كانوا يتمتعون بتقدير؛ طمع الصوفية في أن ينالهم منه شيء.
5 ـــ ومع انتشار الزهد فقد ظل سلوكا مجردا حتى جاء الصوفية فاهتموا بتقعيده وتعريفه ليصلوه بالتصوف ، فكان أن حلت لعنة الخلاف والاختلاف على مفاهيم الزهد طبقا لعادة الصوفية في ( الاتفاق على الاختلاف ) حول كل شيء، يقول القشيري أن الصوفية تكلموا في معنى الزهد ( فكل نطق عن وقته وأشار إلي حده )(39)، وجاء الغزالي فأورد بعض أقاويلهم ثم حاول أن يوفق بينها، ثم قال كالمتعب (.. وفى الزهد أقاويل وراء ما نقلناه فلم نر في نقلها فائدة ، فإن من طلب كشف حقائق الأمور من أقاويل الناس رآها مختلفة فلا يستفيد إلا الحيرة )(39) ، وليصل الغزالي بين الزهد والتصوف قام بتقسيم الزهد إلى درجات ، الأولى : زهد الخائفين من العذاب ، والثانية : زهد الراغبين في الجنة ، ثم جعل الدرجة العليا : الزهد فيما عدا الله ، فلا يلتفت إلى جنة أو نار بل يستغرق في الله تعالى ويزهد ما عداه (40). وذلك التقسيم الصوفي ينافي الأساس الذي قام به الزهد الذي يعنى الخوف من النار والأمل في الجنة ، مما يؤكد الفارق الأصيل بين المذهبين .
6 ــ على أن هناك عوامل تربط بين الزهاد والصوفية ، أهمها في أن الرواد في الحركتين من الموالى الذين تأثروا بالثقافة القومية لأوطانهم ، ومع ذلك يبقى الخلاف قائما بين مولد الحركتين وطبيعتهما. 7 ــ والواقع أن أسباب قيام حركة الزهد في العصر الأموى ترجع للظروف السياسية والاقتصادية والثقافية ، فقد عانت البلاد المفتوحة من مظالم الخلفاء الأمويين وظلمهم للموالى، فاعتبر الموالى الخلفاء الأمويين لا يفترقون عن ملوك ما قبل الفتح العربى ، وقابلوا الوضع الجديد بما تعوده أسلافهم في الماضي، فقام الزهد الفلسفي المنظم كنوع من المقاومة السلبية والاحتجاج الصامت ، وزاده ما تميز به الموالى من تفوق في العلم والثقافة بينما انشغل العرب فى العصر الأموى بالحكم والسياسة والحرب ، وليس من قبيل المصادفة بعد هذا أن يزدهر الزهد في الكوفة والبصرة بينما تنعم دمشق بالحكم والثروة ، ثم تمتلئ دمشق زهدا فى العصر العباسى بعد تحول الحكم والثروة عنها إلى بغداد. وظل الزهد قائما بعدها باستمرار الأسباب التي بعثته وهى استمرار الظلم والملك العضوض في الدولة العباسية ، وحتى مع تمتع بعض الموالى بوضع أفضل فى العصر العباسى فإن من شأن الملك العضوض القهر والبطش وسوء توزيع الثروة وحرمان الأكثرية ومعاناتهم . 8 ــ وقد حاولوا إضفاء المشروعية على الزهد، فانتشرت الأحاديث الموضوعة تبشر بالمذهب الجديد، وأورد الغزالي بعضها في دعوته للزهد مثل ( من أراد أن يؤتيه الله علما بغير تعلم وهدى بغير هداية فليزهد في الدنيا)(ا4) ثم تطوع الغزالي بتأويل بعض الآيات لتتمشى مع مفهوم الزهد(42) وجعل عيسى ويحيى عليهما السلام من رواد الزهد، ولم يعد محمدا عليه السلام منهم لأنه كان يصوم ويفطر ويصلى وينام ويتزوج النساء، وفى القرآن آيات تفيد ذلك .
9 ــ ودين الإسلام ليس مسئولا عن الظروف التي سببت قيام الزهد. ولا علاقة بين الإسلام والزهد، فلم يرد لفظ الزهد في القرآن الكريم إلا مرة واحدة (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنْ الزَّاهِدِينَ (20) يوسف ). ولا تعبر هذه الآية عن اصطلاح الزهد الديني، ولو كان الزهد رافدا من مناهج الإسلام لفصّله القرآن الكريم ، إلا أن الزهد يخالف صريح القرآن الذي ينفى أساس الزهد في قوله تعالى () قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنْ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) الأعراف ). فهنا إنكار على من حرم الطيبات على نفسه تمسكا بالزهد، وذلك هو ما نهى الله تعالى النبى عنه حين قال له : ( يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ) التحريم1) وقوله تعالى للمؤمنين (ا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ :لمائدة 87) بيد أن المؤمن مطالب بالاعتدال وعدم الإسراف { يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } الأعراف31).
10 ــ ثم إن التطورات السياسية الأموية لم تخترع حركة الرهبنة ولم تزرعها في العراق والشام ومصر، فتلك مناطق تعودت على الزهد قبل الفتح العربى ، بل إنهم بابتداعهم الزهد خرجوا عن رسالة المسيح عليه السلام ، يقول تعالى ( ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ }الحديد27) فالزهد أو الرهبنة ابتداع في السلوك لا في العقيدة . 11 ــ ونعود للتصوف ، فقد بدأت جماعات الزهاد منتشرة بين الموالى تتمتع بعطف المجتمع وإعجابه ، فاتصل رواد التصوف بالزهاد واستفادوا منهم مع استقلالية كل حركة ، وليس هناك صدام بين الزهد والتصوف ، وإنما الصدام هو بين الإسلام والتصوف لأنهما دينان متناقضان .