دمروه ليدمروا الأدب الفلسطيني غسان كنفاني


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4642 - 2014 / 11 / 24 - 12:46
المحور: الادب والفن     

من يصدق اليوم أن "الصهاينة" –يا لهذه الكلمة الجوفاء لغويًا- كما قيل يوم مصرع غسان كنفاني هم الذين قتلوه، فأي أزعر من زعران الروشة آنذاك بإمكانه تلغيم سيارته بمائة ليرة وساندويتشين شاورما. ياسر عرفات هو من قتله بيديه الدمويتين دون أن يتواطأ مع أحد كما هو دأبه مع قافلة آكلي المشمش ولاعبي الورق، لأنه السياسي المزعج والقلم المبهدل، ولأنه لما يكتب تصغي له حتى الأسماك في أعماق البحار.

كان الرهان أن ينسى الأدب ابنه كما تنسى السياسة أبناءها، أو، على الأقل، أن يتركه على هامشه، كما ترك غيره، كما ترك غيره أنفسهم على هامشه، فالإبداع الفلسطيني كان ولم يكن، في بداياته كان، وبدأ بالفعل مع غسان كنفاني، هذه الجرافة من القصص والروايات والمقالات. ولأن السياسي يعرف خطورة الأدب عليه، أدب غير السلطة، غير المشنقة، غير الفم الذي لم يرضع من ثديها، يأخذ أقصر الطرق إلى الأديب المتمرد، ويقتله في مضجعه، وفي مضجعه كل أبطاله ينامون معه، وهم يفتحون أعينهم.

هذا ما لم يفهمه قاتل ماياكوفسكي، هذا ما لم يفهمه قاتل لوركا، هذا ما لم يفهمه قاتل خليل حاوي، أبطالهم، كأبطال غسان كنفاني، يعرفون من هو القاتل، في الليل يضعون رؤوسهم على مخدات القراء، وفي النهار يتكلمون مع الشجر، لهذا يقهقه التفاح تحت أسناننا ونحن نقضمه.

في العام الذي قتل فيه غسان كنفاني كتبت أول أطروحة عنه من أطروحاتي الثلاث، وكنت الأول في العالم، وحتى الأمس عندما أقضم التفاح يقهقه تحت أسناني، وهذه المرة بدافع السخرية، فعشرات ممن غدوا دكاترة ترجموا أطروحتي حرفيًا، أو نقلوها مع بعض التعديل. ومع مرور الأيام، فترت علاقتي بأبطال غسان، ربما لأني لم أعد أحب التفاح، اليوم أرى الأشياء بشكل آخر.

أريد أن أصدمك أيها القارئ، أن أدفعك إلى التفكير.

أولاً)
أدب غسان كنفاني، على الرغم من عظمته، إلا أنه ليس من الأدب العصيّ، شكسبير أدبه عظيم وعصيّ، دوستويفسكي أدبه عظيم وعصيّ، ماركيز أدبه عظيم وعصيّ، أدب غسان كنفاني فيه فجوة ما، تسللت منها السلطة، وجعلت من أدبه أدبها.

ثانيًا)
لولا مصرع غسان كنفاني لما تكلم عنه أحد، طغى مصرع غسان كنفاني على أدب غسان كنفاني، على الأقل غداة تصفيته، فكتابته تلتصق كليًا بفلسطينيتها، وفلسطينيته تلتصق كليًا بزمنها، وزمنه بقي ماضيًا في حاضرنا لعدم حل القضية الفلسطينية، ولولا هذه الناحية الجيوسياسية لانطوت صفحته.

ثالثًا)
قصصه الأولى متواضعة جدًا، عن تجربته ما قبل النكبة، ما بعد النكبة، في الكويت... إلى آخره، موقفي هذا اليوم لا يأتي من فراغ، موقفي هذا يأتي اعتمادًا مني على "التهويل السردي" لديه، رواياته الثلاث: أم سعد، تنتمي إلى غائط الوعي الثوري، رجال في الشمس، الصرخة الأخيرة فيها "لماذا لم يطرقوا جدران الخزان" ليست صرخة وجودية، كما كنت أعتقد في السبعينات، بل سياسية، وهي ستتلاشى في وادي النسيان أول ما تجد القضية الفلسطينية حلاً، ما تبقى لكم، رائعة ليست كاملة، هي بالنسبة إلى "الصراخ والغضب" المستوحاة منها نصف رائعة، ثلث رائعة، لنَفَسِها القصير، ولكن خاصة لانفكاك في شكل يسعى إلى التوفيق بين عالمين من المستحيل التوفيق بينهما (عالم البطلة وعالم البطل) في دائرة مغلقة.

رابعًا)
تكلم الكثير من النقاد عن غسان كنفاني، كقصاص، كروائي، كمدبج للمقال السياسي، ولم يتكلم أحد –تقريبًا- عنه كمسرحي. مسرحيته الباب، مسرحيته القبعة والنبي، مسرحيتان خالدتان، الشخصيات كونية، الموضوعات تراجيدية، المأساة شكسبيرية، غسان كنفاني كاتب مسرحي عظيم قبل أن يكون أي شيء آخر، كاتب مسرحي وفقط، لكنه المشكل إياه، الزمني، في مجتمع لا يفقه ما المسرح، المسرح لديه غير موجود، مهمل، مركول، لن يكون هناك كشف عن بنية عالمه التمثيلي.

خامسًا)
نجحت السلطة في تصنيف الأدب الفلسطيني (تقسيمه إلى أنواع أو أصناف سيء جيد أدب مش أدب) بفضل غسان كنفاني، أقول بفضله تجاوزًا، فالمسكين لا يد له في الأمر، ولكن بسبب تلك الفجوة في أدبه التي تسمح للسلطة بالتسلل منها، ولا تسمح بتمييز أبطاله كعناصر فاعلة (actants مصطلح لعالم اللسانيات غريماس) يقع بفضل هذه العناصر قلب الوضع تراجيديًا، وبالتالي، تحت رداء أبطاله كنماذج على هوى السلطة، غيب النقدُ السائدُ النقيضَ من النماذج، والأدبَ النقيض.



باريس الاثنين 2104.11.24