محمود درويش وسميح القاسم مرة أخرى ردًا على تداعيات قاسم محاجنة


أفنان القاسم
الحوار المتمدن - العدد: 4640 - 2014 / 11 / 22 - 20:15
المحور: الادب والفن     

أولاً)
ليس لأن سميح القاسم ومحمود درويش يشربان الآن كأس بيرة في الجنة كتبت ما كتبت، ابحث عن مقالاتي التي أقامت الدنيا ولم تقعدها، وهما حيان يرزقان، في نقدهما الحامض، أخضر وأصفر وأحمر برتقالي، فحامض يافا أحمر برتقالي، تحت عنوان "شعراء الانحطاط الجميل"، تجدها في كل مكان على أنترنت. كما أني كنت صديقًا للواحد وللآخر ولم أزل، كل واحد منهما كان لي "ذكرًا قاتلاً"، مع أني لست مَثَلِيًا، ولا أحب الرجال.

ثانيًا)
أنا لا أرى الأمور كما ترى: "...فهما دوحتا الشعر الفلسطيني ما بعد النكبة، وهما تلميذان لمدرسة شعرية، روادها ومؤسسوها، هم أبناء الشعب الفلسطيني الذين بقوا في وطنهم وحافظوا على هويتهم الوطنية والإنسانية بنجاح كبير، وهذه المدرسة نطقت من حنجرتيهما، فهي مدرسة المتشبثين بنار الوطن"، ليس لأن رؤيتي للأشياء تخالف رؤيتك، هذا لا شيء أمام جسامة الموضوع، ولكن لأن علينا كأفراد واجب تبديل كل شيء وأول الأشياء طريقتنا في التفكير، في التدمير، في نسف كل شيء، ولأن هذا التراكم الألفي من فكرٍ غَيَّرَ زَمَنَه، فكر قديم يتجدد يوميًا، لم نعد نطيقه، نحن نريد حريتنا أولاً وقبل كل شيء، وهاتان "الدوحتان" تجثمان على روحنا، تخنقان عمرنا، تمنعانا من التنفس، وسياسيًا أحرقتانا بنار الوطن، وعلى رمادنا بنى الآخرون وطنًا يتدفأون بناره.

ثالثًا)
صحيح ما تقول، "طغيان قصيدة محمود درويش وقصيدة سميح القاسم على الإبداع الشعري الفلسطيني قزم ما كتبه وأنتجه الشعر الفلسطيني"، ليس لأن "الدوحتين حجبتا عنه نور الشمس" وإنما لأنهما لم تكونا محفزتين على قول الشعر: قصيدة رامبو فجرت الشاعرية في العالم، قصيدة بودلير أسست لقصيدة الجميل بعد أن دمرت قصيدة التنطع الأخلاقي، قصيدة آراغون فتحت ذراعيها واسعًا للسريالية، وبعد ذلك لعيون إلزا، وفي عيونها يشاهد المرء يافا وحيفا مع أن إلزا كانت روسية.

رابعًا)
لا، يا سيدي، القصيدة الدرويشية-القاسمية، نجاحها كان "رهن تبني السلطة السياسية والأدبية لهما"، هذه السلطة هي التي جعلت منهما إلهين على حساب قصيدتهما، فهما شاعران، أنا لا أنفي ذلك، كيف هما شاعران؟ هذا موضوع آخر، هل عبرت قصيدتهما، كما تقول، عن "آلام وآمال شعب"؟ ممكن، لكن هذه الناحية ثانوية في عيني كل سلطة. "استمداد الشرعية"، نعم تمامًا، مثلما تقول، فكل سلطة سلطة هجينة، سلطة ماخورية –مصطلح كهذا لا يتردد أحد عن قوله عندنا في فرنسا- وعلى العكس، محمود درويش (وكذلك سميح القاسم) قبل بأساليب السلطة حين احتضانها له: هل نسيت جلوس محمود درويش على كرسي وزير في اللجنة التنفيذية؟ هل نسيت خزائن عرفات المفتوحة "للذكر القاتل" أكثر من مجلة وأكثر من مؤسسة وأكثر من شقة في باريس؟ هل نسيت جنازته العسكرية أول جنازة عسكرية لشاعر في التاريخ لما احتفلت السلطة بموته؟ نعم، كانت قصيدة محمود (وسميح) برسم البيع والبيع بثمنٍ غالٍ فلسطينيًا وعربيًا (من جائزة العويس مرورًا بجائزة مبارك إلى جائزة بن علي أعلاه الله على خازوق من لهب في الجحيم!). ثم كفى تردادًا: شاعر مقاومة وما أدراك ما شاعر مقاومة! خلال لقاء لنا طال في مقهى من مقاهي شارع سان ميشيل (الحي اللاتيني)، كان اليوم يوم أحد، ولم تكن هناك بنوك مفتوحة، ودولارات محمود يجب تبديلها، فهو الداعي. من أجل ذلك، ذهب صديق مشترك إلى إحدى محطات باريس، حيث يكون البنك فيها من المفترض مفتوحًا "الويك إند"، وكأنه ذهب إليها كلها، واحدة بعد واحدة، غيابه طال، ونحن، أنا ومحمود درويش، شربنا من كؤوس البيرة ما يروي عطش مدينة، تكلمنا عن كل شيء و... عن قصائده، عرجنا على قصائده الأولى، سجل أنا عربي وقهوة أمي، قصيدتان كنت معجبًا بهما (كنت غشيمًا)، فإذا بمحمود يرتعد ارتعاد الغصن بين أصابع الريح، وإذا به يصرخ (ويا للحظ! كنا نجلس على رصيف المقهى) شاتمًا أمه شاتمًا المقاومة وشعر المقاومة شاتمًا العالم مرددًا أنه لا ينتمي إلى مثل هذا شعر و... إلى اليوم يكرر النقاد ما لا يريد الشاعر، ما لا يعترف به. فهل قصائده الأخرى، كما يظن محمود درويش، على المستوى؟ قبل أن أجيب على هذا السؤال في النقطة الأخيرة، أود فقط أن أرد على أخي الكريم الأستاذ قاسم حول مسألة "الدرزية" التي لم يبدع فيها سميح كما تمنيت عليه مئات آلاف المرات، فتركه الإبداع من ورائه كشاعر للنظام العربي (هو يقول شاعر العروبة). إيميه سيزير، هل تعرف من هو إيميه سيزير؟ بالطبع تعرف، المارتينيكي (على فكرة لم يقل أبدًا شاعر الفرنسية)، حياته كلها توجز بكلمة واحدة: الزنجية. قاتل من أجل الاعتراف بخصوصية وثراء لغة أجداده، وعمل من أجل أن يعي الشعب الأسود ثراء جذوره، ومن خلال كل أعماله كان يريد إثبات أن الحُلم يمكنه أن يكون محركًا للواقع. فأين حُلمه هذا، سميح القاسم، في كل أعماله؟ تحت تبريرات واهية عن العروبة والأسرلة هرب بقلمه إلى الأمام، وظل يهرب طوال حياته: هذا هو العجز الهائل لقصيدته.

خامسًا)
قال لك "وطني حبل غسيل"! هل الوسخ كثير إلى هذه الدرجة؟ يحق لنا التساؤل في بحر الدم. قال لك "آه يا جرحي المكابر"! الجرح يرفض مثل هذا مصطلح "مكابر" لأنه بائخ لفظيًا، ودلاليًا لا يستوعب بركان الجرح وشظاياه المدمرة. قال لك "إنني العاشق والأرض حبيبة"! كم المصطلح مستهلك تلفظه الأرض. لماذا لم يقل إنني الزوج والأرض بغية؟ كل المأساة الفلسطينية تتفجر في عبارتي. محمود درويش (وسميح القاسم) أرى فيه عكس ما يرى أرسطو في هوميروس –نقلاً عن عالم اللسانيات جيرار جينيت- هوميروس يتدخل بشكل شخصي في قصيدته أقل ما يمكن، ومحمود درويش يتدخل بشكل شخصي في قصيدته أكثر ما يمكن، تجده في كل بيت، وراء كل استعارة، أمام كل إشارة (وطني، تمددت، جرحي، أنا، إنني... مأخودة من فقرتي "وطني حبل غسيل" و "آه يا جرحي المكابر")، كأنثى قاتلة –كما يقول الأستاذ قاسم حسن محاجنة- فينزع عن شعره "النطق المبين"، وما هو درامي لديه يبدو أيقوني (من أيقونة) يجدر تدميره.


باريس الأحد 2014.11.22